الجهاد و الشهادة

الشهادة عزُّ الدنيا والآخرة

الموعظة القرآنية:

قال الله تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً﴾1.

الشهادة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

لقد منّ الله علينا ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام بأن شرّع لنا باب القتل في سبيل الله، وجعل سياحة أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد الذي تشكّل الشهادة ثمرته الناضجة كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “سياحة أمّتي ورهبانيّتهم الجهاد”2.

فأضحى باب الوصال والقرب الإلهي مفتوحاً على مصراعيه أمام المريدين، ولم يعد تهذيب النفس والتخلّص من الأنانية وحبّ الدنيا وغيرها من الحجب المانعة من نيل الفيض الإلهي، والتحقّق بالكمال الإنساني موقوفاً على ذلك السفر الشاقّ والطويل والمجاهدات العظيمة والسنوات العديدة.

لم يعد الإنسان يحتاج إلى خمس وعشرين سنة من عمره ليتخلّص من الرياء أو إلى ثمانين سنة ليقول بعدها: الآن زال حبّ الدنيا من قلبي، أو أن يعتزل الناس والمجتمع داخل صومعته ليبلغ الكمال وما هو ببالغه!

لقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ أمّته لا تحتاج إلى زمان مديد ومكان بعيد لتنال القرب الإلهي، فها هو قد اختصر بثلاث وعشرين سنة من عمره الشريف دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، بل وبلغ ما لم يبلغه أحد ممّن سبقه منهم، فصار الدين عند الله الإسلام. وها هو حفيده الإمام الحسين عليه السلام الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “حسين منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسيناً”3 يختصر تلك العشرين والنيّف من السنوات بعشرة أيام، بل بيوم واحد، لا بل بعدّة ساعات من نهار فيحيي إسلام جدّه صلى الله عليه وآله وسلم من جديد ويجسّد في تلك الواقعة دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلّ ما فيه، فيصير الاستشهاد في سبيل الله شرفاً يُحقّق مراد الصالحين: “إن لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلا بالشهادة”4.

ومع شهادة الإمام الحسين عليه السلام صارت كربلاء هي المكان أبداً وصارت عاشوراء هي الزمان دوماً وأضحت خطى أبي عبد الله عليه السلام منهاج الحياة “إني لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً5، من هنا كان: “كلّ يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء”، وهو أيضا ما أكّده حفيد الأئمة الأطهار الإمام الخميني قدس سره قولاً وعملاً: “إن كلّ ما لدينا من الإمام الحسين وثورة عاشوراء”6.

طريق الشهادة

الشهادة هي غاية آمال العارفين ومطلوب المجاهدين وهي إحدى الحسنيين التي يشتاق إليها الصالحون ويدعون ربّهم لنيلها في ليلهم ونهارهم كما في الدعاء “وَقَتْلًا فِي سَبِيلِكَ مَعَ وَلِيِّكَ فَوَفِّقْ لَنَا”7. غير أنّ الشهادة مقام لا ينال بالتمنّي والدعاء فقط، إنّ الشهادة هي منهج حياة وسلوك عملي، إنّها عزم وطاعة وهجرة وجهاد، إنّها تزكية نفس وتقوى وإخلاص.

إنّ نيل مقام الشهادة والقتل في سبيل الله حقّاً له شروط ومقدّمات وهو ثمرة مراحل يعبرها المسافر إلى الله في هذه الدنيا ونشير إجمالاً إلى بعض هذه الشروط:

تمنّي الموت في سبيل الله:
يعتبر القرآن الكريم أن تمنّي الموت هو دليل على المحبّة والولاية لله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾8. وأولياء الله هم المشتاقون دوماً لرؤيته والكادحون للقائه، الذين صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، الذين“لولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثّواب وخوفاً من العقاب”9 كما يصفهم أمير المؤمنين عليه السلام. فأولياء الله أدركوا حقيقة هذه الدنيا وأنّها دار الفراق والهجران، وعالم التصرّم والزوال. واستيقنوا هذه الحقيقة بعدما ذاقوا حلاوة القرب الإلهي واطّلعوا على عوالم الغيب والبقاء، فصارت الآخرة مطلوبهم لا طمعاً في الجنّات والنعيم بل لأنّ الجنّة هي ساحة لقاء الحبيب، ولأنّ المحبّ يرضى ما يرضاه حبيبه، ويستعينون على ذلك بالصبر والجهاد المستمرّ في هذا السجن، لأنّ المحبوب قد كتب لهم أجلاً محدّداً ولولاه لكانت أرواحهم الهائمة بحبّ بارئها قد عرجت إليه بلمح البصر.

عدم الانشغال بالدنيا:
يسأل الله سبحانه تعالى عباده مستنكراً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾10! لأن حياتكم الحقيقية ليست هنا، بل شأنكم أعظم من هذه الدنيا وما فيها، بل: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾11.

وحدهم أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة وباعوا أرواحهم وأجسادهم لله ولم يرضوا بهذا العرض الأدنى قد تنبّهوا لتحذير الحقّ تعالى، فكان منطقهم ولسان حالهم ورسالتهم إلى قومهم على الدوام: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾12، وإلى أعداء الله وأعدائهم لسانهم أبداً:﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ﴾13.

فأهل الآخرة والسائرون على درب الشهادة يعيشون لله في كلّ آن من آناء أيّامهم ولياليهم، والدنيا عندهم بكلّ ما فيها لا تساوي عندهم شيئاً، بل كلّ ما يهمّهم هو رضا الله تعالى والعمل وفق إرادته. لذا فهم منذ نهوضهم وحتى نومهم متفرّغون لخدمة دينه تعالى وخدمة عياله. همّهم دائماً في كيفيّة أداء التكليف بأفضل صورة وأكمل وجه وأخلص نيّة، وهم لا يرتبطون بالدنيا إلا على هذا الأساس. فالدنيا عندهم هي المكان الذي من خلاله ينشرون دين الله، ويدعون الناس إلى الهداية والصلاح فيها، وهي المكان الذي يخدمون فيه عباد الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويحاربون الباطل. الدنيا عندهم ميدان لإعلاء كلمة الله وجعلها هي العليا، ميدان لقتال أعداء الدين والإنسانية، قطّاع طريق الهداية وسبيل الله، ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾14، فهذا هو سبيلهم إلى الله ومنها زادهم إلى جنّات اللقاء والنعيم المقيم.

وعليه من أراد أن يسلك درب الشهداء ويتّبع سبيلهم فما عليه إلا أن يُصحّح علاقته بالدنيا ونظرته إليها وأن يقلع عن طلب الدنيا وحبّها وبالتالي تعلّقه القلبي بها لأن الله سبحانه وتعالى: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾15 فإمّا أن يتعلّق قلبه بالدنيا ويتوجّه إليها وإمّا أن يتعلّق قلبه بالله. ولا يمكن أن يجتمع حبّ الله ولقائه مع حبّ الدنيا. بل عليه أن يقلع حبّ الدنيا من قلبه وذلك من خلال عدم الاشتغال بها، فالاشتغال بأمور الدنيا يؤدّي إلى تقوية الطلب والتعلّق ويعطي إبليس المنافذ الكثيرة التي يمكن أن يتسلّل عبرها من حيث لا ندري أو نشعر فنقع في حبائله.

لذلك أهل الله لا شغل لهم بالدنيا، وهم إذا عملوا فيها فلأنّ ذلك مقتضى تكليفهم وواجبهم الشرعي لا أكثر. حتى إذا استدعاهم خالقهم لنصرة دينه والقتل في سبيله تسابقوا لتلبية النداء وكانوا خير الملبّين ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾16. وإذا ما فتحت أبواب السماء ولاحت بشرى الآخرة ودعتهم إليها تركوا كلّ ما يملكون وأسرعوا إلى لقاء المحبوب الأوحد الذي انتظروه كلّ حياتهم.

خلوص النيّة:
تكتسب الشهادة معانيها العالية وقدسيّتها من الغاية التي يُقتل الإنسان المجاهد لأجلها, ﴿سَبيلِ اللّهِ﴾17، وهذا ما يعبّر عنه بلغة الدين بـ “النيّة”، التي هي في الواقع سبب قبول الأعمال وشرافتها وقيمتها كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّما الأعمال بالنّيّات ولكلّ امرئ ما نوى”‏18. هذه النيّة إذا كانت لله خالصة من هوى النفس والتعلّقات الدنيوية، فإنّها تجعل العمل مقبولاً عند الله سبحانه وتعالى لأنّه تعالى لم يأمر إلا بالإخلاص: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾19 كما أسلفنا سابقاً.

فالمنزل الأوّل والمقدّمة الأساس لطلب الشهادة هي تطهير النيّة وصبغها بالصبغة الإلهية. وهذا يتطلّب الصدق والمراقبة الجادّة بشكل دائم ومستمر، لأنّ الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ صعوبة من القيام به كما فيه الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: “الإبقاء على العمل حتّى يَخلُص أشدّ من العمل”20. فإذا صفّى المجاهد نيّته من غير الله تعالى فإنّ باب التوفيق للشهادة سوف يغدو مشرّعاً، عندها سوف تهون عليه كلّ الصعاب والمصائب، وتصير البلاءات عنده نعماً وآلاءً إلهية طالما أنّها ستقوده إلى أمله ومناه إلى لقاء الله تعالى. وسيصبح الجهاد الذي هو كره للناس حلواً وعذباً عنده، والقتل والشهادة غايته إذ فيها لقاء المحبوب الأوحد الذي لا محبوب عنده سواه ولا مطلوب غيره، فتصبح ترنيمة عشقه كما هو لسان حال أبي عبد الله الحسين عليه السلام:
إلهي تركت الخلق طراً في هواك**وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطعتني في الحب إرباً **لما مال الفؤاد إلى سواك.


تذكّر الشهداء وزيارتهم:
لا معنى لأن يحتذي المرء حذو إنسان ما بهدف التأسّي به دون استذكاره واستحضار اسمه وأعماله ومنجزاته. والأمر بعينه ينطبق على من يسعى إلى الاقتداء بالشهداء والسير على منهاجهم. فالذكر الدائم للشهداء من خلال زياراتهم، والسَّلام عليهم، وتذكّر تضحياتهم وتفانيهم وصبرهم واحتسابهم، يترك بالغ الأثر في النفوس، فيحملها طوعاً على اتّباع طريقتهم المثلى.

فالروايات الشريفة عندنا بالإضافة لما ذكرته من فضل الشّهادة وقدسيّتها، فقد ذكرت أيضاً بعض الأدعية والزيارات الخاصة بالشّهداء، والمروية عن أهل بيت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه عليهم أجميعين. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام في زيارة العبّاس بن عليّ عليه السلام قوله: “سلام الله وملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين…عليك يا ابن أمير المؤمنين…أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء…أشهد أنّك قُتلت مظلوماً وأنّ الله منجز لكم ما وعدكم…وأشهد أنّك مضيت إلى ما مضى به البدريّون والمجاهدون في سبيل الله…أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود…(ثم يقول سلام الله عليه) فبعثك الله في الشهداء وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً”21

وما كان ليصل الشهداء إلى هذه المنزلة الرفيعة لولا صبرهم وبصيرتهم كما يقول الإمام عليه السلام في بقية الزيارة: “وأشهد أنّك لم تهن ولم تنكل، وأنّك مضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين”22.

ونقرأ في زيارة الإمام الصادق عليه السلام للشهداء أيضاً: “السلام عليكم يا أولياء الله وأحبّائه، السلام عليكم يا أصفياء الله وأودّاءه، السلام عليكم يا أنصار دين الله وأنصار نبيّه وأنصار أمير المؤمنين عليه السلام وأنصار فاطمة سيّدة نساء العالمين”23. وهكذا يرتقي الشهيد ليفوز الفوز العظيم، وليكون مدرسة للمريدين والتائقين إلى لقاء الله ومجاورة الأنبياء والصدّيقين.

التآسّي بالإمام الحسين عليه السلام وأصحابه:
إنّ للقدوة والأسوة الحسنة في الحياة الأثر البالغ والعميق في تحديد الوجهة والخيارات التي ينبغي أن يتّخذها الإنسان لنفسه ويعمل عليها، خصوصاً إذا كانت هذه الخيارات مصيريّة ومفصليّة في الحياة وعليها يتأسّس بنيان الإنسان. قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾24. فالأمر الإلهي واضح وصريح بضرورة التأسّي بفكر ونهج الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمن كان يرجو لقاء الله واليوم الآخر. هذا الفكر الذي عماده توحيد الله كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: “يا أيها النّاس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”25، ونهجه الجهاد والتضحية في سبيل الله: “سياحة أمّتي الجهاد”26. هذا الفكر والنهج الذي تجسّد بأجلى صوره وأسمى آياته في بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال صلى الله عليه وآله وسلم بشأنه “أنا من حسين وحسين منّي”27. حيث كان سلام الله عليه مجمعاً للتوحيد والجهاد والذي ظهر بشكله العملي في كربلاء ليرسم معالم الطريق لسالكي درب الشهود والحضور في محضر الله تعالى، درب اللقاء بالمحبوب الأوحد الذي إليه تهفو قلوب الصادقين، وأفئدة المريدين. فغدت كربلاء مدرسة ينهل من معينها كلّ تائق للقاء الله والخلاص من أسر هذا السجن الفاني والجسد البالي، وبالتالي صار الترجمان العملي والتطبيق الواقعي لرسالة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم متجسّداً في الإمام الحسين عليه السلام وكربلاء.

فعندما نُدقّق في كلّ موقف من مواقف كربلاء، وفي كلّ مشهد من مشاهدها، وفي كلّ حادثة من حوادثها نجد أنّ ما يجمعها جميعاً هو الحبّ الخالص لله ولوليه الممزوج بفرحة لقاء الله. هذا الحبّ الذي حوّل الموت عند الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه إلى سعادة لا تضاهيها سعادة “إني لا أرى الموت إلا سعادة”28، حتى غدا الموت عندهم أحلى من العسل، كما كان حال أصغرهم, القاسم بن الحسن عليهما السلام عندما سأل إمامه مستفهماً: “وأنا فيمن أقتل؟ فأشفق عليه الإمام عليه السلام وقال له: يا بني كيف الموت عندك؟ فقال القاسم بن الحسن: يا عمّ أحلى من العسل!”29.

وعندما أذن الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه بالانطلاق وجعلهم جميعاً في حلّ من أمرهم، وأن ليس عليهم أدنى حرج منه ولا ذمام طالما أنّ الأعداء لا يطلبون غيره، كيف كان ردّ فعلهم؟! وبماذا أجابوا إمامهم؟! وبأيّ حال توجّهوا إليه سلام الله عليهم أجمعين؟!

ينتفض مسلم بن عوسجة من مكانه بعد سماع كلام إمامه ويقول: “والله لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أُحيى ثم أُحرق ثمّ أُحيى ثمّ أُحرق ثمّ أُذرى يُفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي من دونك وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً. ثمّ قام زهير بن القين رحمه الله وقال: والله لودّدت أنّى قُتلت ثمّ نُشرت ثمّ قُتلت حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك لفعلت”30.

فأيّ روح هي هذه التي كانت تسكن جنبات هؤلاء النجباء والأصفياء الذين عندما بشّرهم إمامهم بالموت والقتل حمدوا الله وشكروه على هذه الكرامة والمنزلة!!

إنها باختصار روحية الاستشهاد وتمنّي الموت التي يقول الباري عزّ وجلّ بشأنها: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾31، فغدوا بحقّ أولياء لله واستحقّوا قول إمامهم فيهم ومدحهم لهم: “اللهم إنّي لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي”32.

وهذا درس مهمّ لمن يريد السير على هدي هؤلاء الأصحاب الأوفياء الذين وبعد أن وجد سلام الله عليه فيهم العزم على ملاقاة الحتوف والرضا بالمقدور قام عليه السلام وبشّرهم: “إنّكم تقتلون غداً كلّكم ولا يفلت منكم رجل، قالوا الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك، ثمّ دعا فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة وهو يقول لهم هذا منزلك يا فلان فكان الرّجل يستقبل الرّمّاح والسّيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزلته من الجنّة”33. هو درس لنا جميعاً عنوانه أنّ من أراد الفوز في الدنيا والآخرة ما عليه إلا تحصيل روحية الاستشهاد، وعماد هذه الروحية هو تمنّي الموت: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾34، الموت الذي تعقبه الحياة الحقيقية، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي لأنّ الشهيد بشهادته سوف يحيا بالحياة الحقيقية، وسوف يُحيي أمّته ومجتمعه ويبثّ فيهما روح الأمل من جديد.

فكربلاء هي مدرسة لتعليم الشهداء وتخريج الشهداء، وقد أراد أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام من خلالها فتح باب الشهادة على مصراعيه ليغدو كلّ يوم من أيّام الموالين لخطّ أهل البيت عليهم السلام عاشوراء، وكل أرض تقلّهم كربلاء. فطالما أنّ أمر هذا الدين لن يستقيم إلا بالاندفاع نحو الموت والشهادة كما يندفع المرء للقاء أحبّته دون تردّد أو وجَلٍ فمرحىً به “إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني”35، لأنّ أعداء الدين والإنسانية كان سلاحهم على الدوام تخويف الناس بالموت وحرمانهم من نعمة الحياة الغالية على قلوبهم، وما من سلاح فتّاك يمكن أن يواجه تثبيط الأعداء وتخويفهم إلا سلاح الشهادة وحبّ الموت في سبيل الله.

فمن كان يرغب بالانتساب إلى هذه المدرسة الحسينية والتزوّد من علومها، عليه الجلوس على مقاعدها متعلّماً ومتأسّياً وعاملاً لعلّه يوفّق في نهاية المطاف ليكون في ركب من أنعم الله عليهم ووفّقهم لتلبية نداء حجّة الله في الأرض عجل الله تعالى فرجه الشريف بصدق ووفاء، هذا النداء الذي صدح في كربلاء وما يزال يصدح في كلّ زمان ومكان “هل من ناصر ينصرنا”، هذا النداء الذي ما زال غضّاً طريّاً في هذا العصر أيضاً، وباب التلبية فيه مفتوح لمن حاز على روحية الشهادة حتى استحوذت على كلّ كيانه ووجوده…

* كتاب باب الأولياء، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة النساء، الآية 74.
2- مستدرك الوسائل،ج16، ص53.
3- بحار الأنوار، ج43، ص261.
4- (م.ن)، ج44، ص328.
5- (م.ن)، ص192.
6- وعشقوا الشهادة، ص9.
7- بحار الأنوار، ج95، ص117.
8- سورة الجمعة، الآية 6.
9- بحار الأنوار،ج64، ص315.
10- سورة التوبة، الآية 38.
11- سورة الحديد، الآية 20.
12- سورة غافر، الآية 39.
13- سورة طه، الآية 72.
14- سورة يوسف، الآية 108.
15- سورة الأحزاب، الآية 4.
16- سورة المؤمنون، الآية 61.
17- سورة البقرة، الآية 154.
18- بحار الأنوار، ج67، ص212.
19- سورة البينة، الآية 5.
20- الكافي،ج2، ص16.
21- مفاتيح الجنان، زيارة العباس بن علي عليه السلام.
22- (م.ن)، زيارة مسلم بن عقيل.
23- مفاتيح الجنان، زيارة الحسين في يوم عرفة.
24- سورة الأحزاب، الآية 21.
25- بحار الأنوار، ج18، ص202.
26- مستدرك الوسائل، ج11، ص14.
27- بحار الأنوار، ج43، ص296.
28- بحار الأنوار، ج44، ص19.
29- السيد هاشم البحراني، مدينة العاجز، ج4، ص215.
30- بحار الأنوار، ج44، ص392.
31- سورة الجمعة، الآية 6.
32- الأمالي، ص 220.
33- بحار الأنوار، ج44، ص298.
34- سورة الجمعة، الآية 6.
35- السيد مرتضى العسكري، معالم المدرستين، ج3، ص303.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى