مقالات

أدلَّةُ جوازِ التَّقليدِ (الحلقة الثالثة)

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

بقلم: زكريَّا بركات


هل في النصوص الشرعيَّة ما يدلُّ على الردع عن السيرة العقلائيَّة؟

عرفنا في الحلقة السابقة أنَّ السيرة العقلائية دليلٌ يُثبت جوازَ التقليدِ وحُجِّيَّتَهُ. وعرفنا أنَّ حجِّيَّة السيرة تتوقَّف على ألَّا يَرِدَ الرَّدعُ عنها من الشارع المقدَّس. وتتميماً للبحث ينبغي التوقُّف عند بعض النصوص الشرعيَّة التي قد يُتوهَّم أنَّها ناهيةٌ ورادعة عن مُقتضَى السِّيرةِ العقلائيَّة.

فمنها الآيات التي تنهي عن تقليد الآباء، كقوله تعالى:

1 ـ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: 104] .

2 ـ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170] .

وكذا ما دلَّ من الآيات على ذمِّ الظنِّ والنهي عن اتِّباعه؛ فإنَّ المقلِّد في الفقه يتَّبع الظنَّ.

والجواب عن ذلك:

أوَّلاً: بأنَّ الآيات الناهية عن تقليد الآباء ناظرة إلى رجوع الجاهل إلى الجاهل، فالأبناءلا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ولا يعقلون، وآباؤهم مثلهم في هذه الصفة، ولذلك كان تقليدهم هو من رجوع الجاهل إلى مثله، بينما السيرة التي نتمسَّك بها تقتضي رجوع الجاهل إلى العالم؛ ولذلك يُقال: إنَّ الآيات الكريمة أجنبيَّة عن الموضوع.

وثانياً: بإنَّ الآيات تتحدَّث عن التقليد في مجال العقيدة والأصول، بينما المراد إثباته ـ ببركة السيرة ـ هو جواز التقليد في الفقه والفروع وليس العقيدة والأصول.

وثالثاً: بأنَّ الآيات الناهية عن الظنِّ لا تنهى عنه نهياً مولويًّا، بل هي إرشاد إلى حكم العقل بلزوم التحرُّز من العقاب الذي لا يصلح الظنُّ للتأمين منه. وهذا يعني أنَّ كلَّ ظنٍّ لا يصلح للتأمين من العقاب المحتمل، فهو داخل في النهي، ولا تدلُّ على أنَّ كلَّ ظنٍّ هو كذلك. ونظراً إلى أنَّ الظنَّ الذي يعتمده المجتهد أو المقلِّد يستند إلى أدلَّة قطعيَّة تثبت حجِّيَّةَ العمل بالظنِّ؛ فإنَّ الظنَّ ـ ببركة ما يستند إليه من دليل الحجِّيَّة القطعي ـ يكون مؤمِّناً من العقاب المحتمل، وبذلك يكون ظنُّ المجتهد والمقلِّد خارجين من النهي المستفاد عن الظنون.

وبعبارة أخرى: إنَّ التقليد وإن كان يفيد الظنَّ؛ إلَّا أنَّ حجِّيَّته تستفاد من الأدلَّة القطعيَّة التي تتلخَّص في السيرة العقلائيَّة والقرآن والسنَّة، فببركة أدلَّة الحجِّيَّة القطعيَّة يخرج الظنُّ الحاصل من التقليد من نطاق الظنون المنهيِّ عنها، ويكون ـ بذلك ـ من الظنون المؤمِّنة من العقاب المحتمل.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى