مقالات

شبهة وردها…

ما هو الغيب ؟ وما هو موقفنا من الغيب ؟ وما هي علاقة الغيب بالإمام المهدي المنتظر عليه السلام ؟

الجواب: 

﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 1 .
ما هو الغيب ؟ وما هو موقفنا من الغيب ؟ وما هي علاقة الغيب بالإمام المهدي المنتظر عليه السلام ؟
قبل استعراض الإجابة على الأسئلة المتقدمة الذكر أودّ الإشارة إلى انّ القليل من الناس من يتزود بأحسن الزاد .
وإننا جلوس حول مائدة العقيدة المباركة ؛ فلا يكن حظّنا سوى رشحات ، وإنما ليحاول كلٌ منّا أن يكون زاده الأكثر والأنفع . لذلك فإنني حاولت وأحاول أن أتحدث عن قضية هامة جداً ، وهي قضية الغيب ، لأنها من وجهة نظر العقيدة الإسلامية قضية محورية من شأنها أن تحدد علاقاتنا بالحقائق ، فما هو الغيب يا ترى ؟
يؤكد القرآن الحكيم بادئ بدء أن آياته الكريمة هدىً ، ولكن ليس لكل من هبّ ودبّ ، بل هي هدىً للمتقين . وأبرز صفات هؤلاء المتقين الذين سيقول عنهم القرآن في الموقع التالي : ﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 2 أبرز الصفات فيهم هي الإيمان بالغيب ، فهو الشرط الأساس في إيمان الإنسان المتقي الذي حصر الله سبحانه وتعالى فيه الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة .
ومرة أخرى ؛ أتساءل : ما هو الغيب ؟ ولماذا أصبح الإيمان بالغيب محوراً أساسياً للإيمان ؟
إن الله جلّ جلاله هو الغيب ، إن الرسالات السماوية هي الغيب ، إن الآخرة هي الغيب ، إن الإمامة في أهل البيت وعصمتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هي الغيب . وإن أبرز وأهم غيب في حياتنا ، هو الإيمان بوجود وظهور وانتصار الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشريف ، ولكن لماذا ؟ . .
الجواب : إن الغيب هو خلق الشهود ، وهو أصل الشهود ، وهو روح الشهود ، وهو محتوى الشهود ، وهو في الحقيقة النور الأسطع للشهود . فاللّب أهم من القشرة ، ومن أراد شراء بضاعة ما فهو يهتم بتحديد حقيقة هذه البضاعة دون الاكتفاء أو الاهتمام بما يعكسه مظهرها . وعلى الرغم من أنّ كثيراً من الناس يقول بأن ماكنة السيارة هي التي تحرّك السيارة ؛ لكنني أقول ـ كما هي الحقيقة ـ إن وقود السيارة ، هو غيب السيارة وهو الوجه الآخر الأصيل لذاتها . وإنّ ضوء الشمس ليس هو الشمس ، وإنما عين الشمس الغائبة عنّا هو التفاعلات الذرية الحادثة باستمرار في الشمس ، ولولا هذه التفاعلات لما أضاءت الشمس ولو للحظة واحدة وإن غيب الإنسان ليس حركته أو سكنته ، وإنما الغيب فيه كامن في قوة قلبه وسلامة أعصابه وشرايينه ومخّه . وإذا أمعنّا النظر في حقيقة الإنسان لوجدنا أن مخّه ليس هو الأساس فيه ، وإنما الروح هي المحور لديه ، وإذا أمعنا النظر ثانيةً لعرفنا أن العقل هو موجّه هذه الروح . ثم إن هذا العقل والحياة والقدرة الكامنة في الروح يقف وراءها أمراً أهم بكثير منها مجتمعةً ، وهي إرادة الله سبحانه وتعالى ، ولولا مشيئته وإفاضته وقدرته ونوره لتلاشت الروح الإنسانية ؛ أو لنقل : لو لم تكن الإرادة الإلهية في إيجاد الروح والقدرة لدى الإنسان ، لأصبح هذا الأخير كالجماد أو هو أعجز من الجماد ، إن صحّ التعبير عن وجود جمادٍ في هذا الكون العجيب ! . . .
إذن ؛ فكلّ حلقة من حلقات الغيب تأخذ أهميّتها وموقعها من مستوى التعمق في النظر إليها . فكلما كانت هذه الحلقة أبعد من حيث الترتيب والعمق ، كلما جسّدت هي الأساس والمصدر ؛ أما النور والمظهر فلا شيء مهم يذكر فيهما ، هذا هو الغيب . . .
والإيمان بالغيب عادةً ما يكون فارقاً بين الإنسان والحيوان ؛ الحيوان العاجز عن النفوذ إلى اللّب والجوهر إلاّ بالحواس المادية . والبشر بدورهم على مراتب متفاوتة تجاه هذه المسألة ؛ فالرجل العادي منهم ينظر الى طبيعة المجتمع المتخلفة والفقيرة والمتوترة والمضطربة ، ولكنه لا يعرف السبب من وراء ذلك ، وهو قد يقول : لعلّ الله خلقهم كذلك ! . . ولكن الخبير منهم ينظر بعين متفحصة وخلفية فكرية متينة ، فهو يؤكد ـ عالماً ـ بأن هناك أسباب للاختلاف والتخلف والفقر والتوتر والاضطراب وباقي الظواهر الأخرى . فالخبير يتعمق ويصل إلى العمق ، في حين أن الإنسان البسيط أو المعاند أو الجاهل يقتصر على التعامل مع المظاهر فقط . والفرق بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين هو في بالذات . فالكافرون لا يعلمون إلاّ ظاهراً من الحياة الدنيا ، فهم لا يعرفون إلاّ أنهم يتوالدون ويتناسلون ويتكاثرون ، وأنه لا يميتهم إلاّ الدهر . وأما عن الآخرة فهم قوم عمون ، لا ينظرون إليها ، ولا يعرفون عنها شيئاً . أما فريق المؤمنين فهو من لا يضطر الى جعل الغيب شهوداً حتى يؤمن به ، بل هو يرتفع إلى مستوى الإيمان به .
وماذا يعني ذلك ؟!
يعني أن الإنسان المؤمن لم يعترف بالموت أو بما وراء الغيب من رؤيته القبر ، أو ماوراء القبر من عذاب أو ثواب ، وهو لم يؤمن بالغيب من رؤية رآها في المنام ، وهو لم يؤمن بأن الميت الفلاني يتعذب في الوقت بعذاب القبر لأنه قد رأى ذلك في منامه ، وهو لا يقول إنّ فلاناً في الجنّة لأنه قد رأى رؤية في ذلك ، فرؤية المنام لا ينبغي أن تكون العامل الحاسم في الإيمان بالغيب ، كيف كان ومتى كان ؛ بل إن المؤمن ومن خلال محاكمة عقلية ، ومحاسبة علمية ، ومن خلال ارتفاع مستوى روحه الى الاستشراف على الغيب يؤمن بما وراء المادة والغيب . فهو يعلو ويعلو ، ويسمو ويسمو إلى أن يصل الى أفق الغيب فيؤمن به كحقيقة ثابتة لا تقبل الشك .
من هنا يقول البعض : اُؤمن بالإمام الحجة ، ويسأل : من رأى الحجة ؟
ويجيبه رفيقه : لقد رآه بعضهم وقصته كذا وكذا . فهو يؤمن بالإمام المنتظر لأن أحدهم قد رآه في اليقظة أو في المنام ، ولو كان لم يُرَ عليه السلام في اليقظة أو في المنام لأصبح لا وجود له !!
إن الاعتماد على النقل الموثّق أمر صحيح ، ولكنه يعبّر عن إيمانٍ جاهل وناقص ؛ جاهل من حيث أنه لم يصدر عن ذات عالمة بذاتها ، وناقص بالمقارنة مع ما هو كامل .
إن الإيمان الكامل والواعي والقوي هو الإيمان المتنامي من خلال دراسة القرآن وجوهره وروحه ، ومن خلال دراسة الأحاديث النبوية الشريفة التي خرجت عن مصدر الحق والصدق الذي هو رسول الله صلى الله عليه وآله ، من خلال ذلك يؤمن الإنسان إيماناً أساسياً بحقائق الغيب ، لا من خلال رؤية أحد الناس .

الإيمان بالحقائق الغيبية

إن الإيمان بالحقائق الغيبية ينبغي أن يكون تسليماً للأوامر الدينية ؛ بمعنى أن هذين الأمرين ينبغي أن يكون الإيمان بهما من البديهيات في عقيدة الإنسان المسلم ، وذلك قبل البحث عن الاستدلال أو الكشف عن أسبابهما ونتائجهما المادية .
فالله سبحانه وتعالى حينما حرّم أكل لحم الخنزير ، إنما حرّمه ليكون موضع ابتلاء وتمييز للملتزم من غير الملتزم ، قبل أن يحرمه لمضارّه الصحية . والإنسان المسلم عليه التقيد بهذا القيد ، إذ من دونه تكون نار جهنم بانتظاره .
ثم إن من دون الاعتماد على الله والنصوص التي أوردها في قرآنه الحكيم وعلى لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وآله يكون دين الإنسان المسلم أمراً معلّقاً على معرفة الأسباب قبل التأدية ، وبالتالي فإنّ نوعاً من اليأس من روح الله تعالى يسيطر عليه ، الواقع الذي وصفه الله بالكفر ، حيث قال سبحانه : ﴿ … وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ 3 .
إن الصحيح في الأمر هو التصور المجرد بأنّ وراء الأوامر الإلهية جنات وثواب ورضوان ، وأن وراء المناهي نيران وعقاب وسخط إلهي كبير ، وأن الإيمان بالغيب هو العامل الأهم في تلقي واستيعاب هذه الحقيقة .
إن الشريعة الإسلامية ـ كما هو واضح ـ تشجعنا على العلم ، وتحرّضنا على السعي نحو معرفة أسباب الأحكام والأوامر والمناهي . ولكن لا يعني ذلك أنّ إيماننا بالشريعة الإسلامية يكون متوقفاً على معرفة أسبابها ، فهذا الإيمان لا يعدّ أبداً إيماناً بالغيب .
الإمام الصادق عليه السلام يقول : ” نحن ـ الأئمة ـ صُبّر ، وشيعتنا أصبر منّا ” ، قلت (الراوي) : جعلت فداك كيف صار شيعتكم أصبر منكم ؟ قال : ” لأنا نصبر على ما نعلم ، وشيعتنا يصبرون على مالا يعلمون ” 4 .
إذن ؛ فالقضية تكمن في ضرورة الارتفاع الى مستوى الإيمان بالغيب وما يتطلبه ، وليس الاتجاه نحو تجيير الحقائق الإيمانية لصالح المذاقات النفسية والمادية ، وإنما يتم ذلك عبر تعويد الذات على عدم الاكتفاء بما تشاهده العينان وتحسّه الحواس . بل لابد من الإيمان بما يشهد عليه القلب والعقل ، وما يطمئن إليه الضمير ، وينصّ عليه الكتاب والرسول .
وببالغ الأسف أقول : إن بعض الناس من المسلمين أصبح لا يؤمن بحكم شرعي حتى يعرف سببه أو يفسر له العلماء ذلك ، وهذا يعتبر تجاوزاً صارخاً على حقيقة القرآن والأحكام الشرعية القائلة بضرورة الإيمان بالغيب والتسليم بإخلاص الى أوامر الله ونواهيه ، لاسيما وأنّ الآيات القرآنية الكريمة التي تلوتها على مسامعكم في مقدمة الحديث تشير بكل وضوح إلى أن الإيمان بالغيب أمر متقدم على إقامة الصلاة ـ وهي عمود الدين ـ وعلى الإنفاق في سبيل الله تعالى ذكره .
وكما تقدم ؛ فإن الله ووحدانيته هما من مصاديق الغيب رغم أننا نعجز عن رؤيته بأعيننا ، ولقد روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته ؟ قال : فقال : ويلك ما كنت اعبد رباً لم أره ؛ قال : كيف رأيته ؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الابصار ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان 5 . فالله تعالى قد خلق أرضاً واحدة ، وجعل فيها ماءً واحداً ، وشمساً واحدة ، ولكنّه جعل أنواع متعددة من الفاكهة . . ونحن من خلال كل هذا نصل الى معرفة أسماء الله ، وآيات الله ، وقدرة الله و تدبيره .
وهكذا من كان يشك في وجود أو ظهور أو انتصار الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف فالمشكلة فيه هو لا غير . فالأدلة كثيرة للغاية ، ولكنه هو بذاته أصبح ـ لضعف إيمانه ـ لا يؤمن بالشيء دون أن تراه عيناه .
ويروى أن أحد الزنادقة جاء الى مقبرة الكفار فتناول عظماً من عظام الموتى ، وقال لمن كان حاضراً من المسلمين : أرى أنكم تقولون إن الكفار يتعرضون لنار القبر ، وإن هذا العظم بارد كقطعة ثلج في يدي . . فجيء به إلى أمير المؤمنين عليه السلام الذي أجابه بعد أن تناول حجرين من الأرض وضرب بعضهما ببعض فأنقدحت شرارة من نار : أين كانت هذه النار ؟
نعم ؛ إن جهنم محيطة بالكافرين ، انسياقاً واتّساقاً مع أعمالهم ومعتقداتهم الشيطانية .
وفيما يروى من الأحاديث الشريفة ، هو القول بأن فائدة الإمام الحجة عليه السلام كفائدة الشمس التي تسترها السحب .
ولتوضيح ذلك ، أقول بأن الإمام عجل الله فرجه الشريف ـ كما كان آباؤه الطاهرون ـ هو عدل القرآن ، وهما ثقلان ورافدان إلهيان ؛ ولكن لمن كان له قلب وأراد أن يتذكر ويتبصّر ويستفيد . فهؤلاء العلماء الربانيون والمجاهدون العاملون إنما يتزودون بزاد هذا الإمام العظيم ، وإن سلوكهم الشريف وعدم انصياعهم وراء الهوى والوساوس الشيطانية ، إنما هو انعكاس لعمق اتحادهم مع توجيهات الحجة عجل الله فرجه الشريف لهم .

سنّة سماوية

إن من سنن الله تعالى في خلقه ، هو أن من يرتدّ عن دينه الحنيف ـ نظرياً أو عملياً ـ يصاب بالذلة والضياع في دنياه قبل آخرته . وفضلاً عن أن هذه الحقيقة مثبتة في الآيات والأحاديث ، فهي مجربة وملموسة ، بالذات لمن اهتدى إلى الإسلام ، حيث يجد في داخله راحة واطمئناناً عجيباً .
وفي القصة القرآنية التالية يشير الله تعالى إلى هذه الحقيقة ، وإلى ضرورة الإيمان بالغيب والتسليم للتكاليف الشرعية ، وإلى ضرورة نبذ ثقافة التبرير الجاهلية التي تعتبر مصداقاً على تراجع الأمة ودليلاً على تخاذلها وذلها . ففي سورة البقرة يوضح الله تعالى الذل والتراجع الذي أصاب بني إسرائيل ، حينما أصابهم مرض الرغبة في التهرب من التكاليف الشرعية ، وعدم إيلائهم رسول الله موسى بن عمران عليه السلام حقّ منزلته وشرفه .
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ 6 .
إنهم اتّهموا نبيهم بالسخرية والاستهزاء رغم أنه لم يكن كذلك ، بل كان رجلاً قائداً عملاقاً شديد المراس . وأرادوا التملّص من الواجب المكتوب عبر التساؤل المتكرّر ، حيث كانوا يأملون نفاذ صبر النبي موسى عليه السلام ، أو عسى الله أن يبدل رأيه . . . ثم إنهم ولفرط الضعف في إيمانهم كانوا يصفون الله بأنه رب موسى ، وكأنه ليس ربهم أيضاً ؛ أي كأن الأمر لا يعنيهم ، وأنهم حينما ينفذون المهمة يمنون على نبيهم وعلى ربه . .!
﴿ … فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ 7 . أي أنهم نفذوا الأمر دون تسليم أو رغبة أو تعبّد أو رجاء للثواب . . وهم كلّما يتباطؤون في التنفيذ ، كلما زادت عليهم المشاكل . ففي وقت كان المطلوب منهم ذبح مجرد بقرة ـ تلاحظ الصيغة النكرة هنا ـ سوّفوا الأمر حتى اضطروا في نهاية المطاف الى البحث عن بقرة فريدة من نوعها ، وبعد عناء شديد وجدوها في حوزة عجوز فيهم ، وهذه العجوز حينما علمت حاجتهم الى بقرتها أخذت بالمساومة والتمنّع ورفع السعر أضعافاً مضاعفاً ، حتى اضطرتهم الى القبول بشرائها مقابل أن يملؤوا جلدها ـ بعد سلخها ـ ذهباً !!
هذا واقع بني إسرائيل ، أما صحابة الرسول صلى الله عليه وآله ، والخلّص من الشيعة ، فقد كانت سمتهم الأولى أنهم كانوا يتمتعون بروح الانضباط والتسليم ، إيماناً منهم بالله الذي لا يريد سوى فائدتهم ، وحبّاً في التعبّد الخالص الذي هو الآخر لا يعود بغير الفائدة عليهم .
أمّا نحن ـ في الوقت الراهن ـ فلو كنّا أطعنا قياداتنا الإسلامية منذ النداء الأول ، ودخلنا في العمل بروح جماعية ، لما وصل بنا الحال على ما هو عليه الآن ، ولكانت التضحيات أقل بكثير ، ولكانت النتائج الإيجابية أكثر بكثير . إلا أن ثقافة التبرير والتسويف قد أصلت بنا وتجذرت فينا الى حدٍ لا يمكن الخلاص منها من دون العودة الى مفاهيم القرآن الكريم ، وتفسيره للسنن الكونية الخاصة بهذا الإطار .
إننا بأمس الحاجة إلى الاقتداء بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، الذي كان قوله وفعله وسكنه رهن إشارة صغيرة من النبي صلى الله عليه وآله . فكنت تراه أول المضحين ، وأول المقاتلين ، وأول المؤمنين ، وأول المنفذين . . وهو بذلك يضرب للمسلمين المثل الأعلى في الانصهار في المفاهيم القرآنية ، وفي التربية الرسالية ؛ روحاً ومظهراً ، فما أحوجنا نحن اليوم الى تطبيق الإسلام ، وهو الموجود في كتاب الله المقدّس ، تطبيقاً فردياً واجتماعياً ومصيرياً . .

الاتصال بالغيب حاجة ماسة

من المعلوم أن العقبات والمشاكل التي تقف في طريقنا كثيرة ، وهي مختلفة وسائدة في جميع المجالات ، وخصوصاً النفسية والاجتماعية والسياسية ، وجميع هذه العقبات من شأنها أن تعترض طريق تطبيق الإسلام ، وبتعبير آخر ؛ فإننا نريد أن نجتاز في حياتنا كل هذه العقبات ، وأن نحقق نصراً مؤزراً ، وأن نوحّد الأمة الإسلامية ، وننقذها وننقذ شعوبنا المحرومة البائسة من براثن الظلم ، والاستغلال ، والتبعية ، والتخلف .
ترى ماذا نملك من الزاد لمواجهة هذه العقبات ؟ إن أكثر الناس ينهارون نفسياً أمام ضخامة المشاكل قبل أن يواجهوها ، لأنها كثيرة ومتنوعة .

زادنا أمام العقبات

إننا نمتلك في هذا المجال زاداً واحداً هو الاتصال بالغيب ، وبمعنى آخر ؛ فإن إيماننا بالإمام المنتظر عليه السلام هو الذي يسعفنا ويغيثنا في هذه الحالات ، فهو عليه السلام يمثل لنا نقطة ضوء ساطعة تلوح لنا من بعيد ، وتفهمنا بأن اليأس حرام ، وأن نهاية العالم ستكون نهاية سعيدة ، وأن العدالة سوف تسود الكرة الأرضية .
وحتى لو لم نمتلك هذا العامل النفسي ، والأثر الروحي بالنسبة إلى إيماننا بالإمام الحجة عجل الله فرجه ، فهناك فوق كل ذلك الاتصال المباشر بين قلب الإنسان المسلم وإشعاع هذا الإمام أو تجلّيه في هذا القلب ، ففي أصعب الحالات وفي مواجهة أشد الظروف حراجة على كل واحد منا أن يتوجه بقلبه إلى الإمام المهدي عليه السلام وأن يطلب إلى الله تبارك وتعالى أن ينصره بوجاهة هذا الإمام . وحينئذ سنحسّ بمدى قوتنا ، ومدى الثقة بأنفسنا التي ستغمرنا عند مواجهة المشاكل والعقبات .
إننا بصفتنا مؤمنين وحاملي رسالة ، فإن علينا أن لا نقطع علاقتنا به ، بل علينا أن نبقى على اتصال مستمر به ، وأن ندعوا له ونطلب الفرج من الله له .

القيادة والقرار الصعب

وهذه العلاقة القلبية ستمنحنا ـ ولا ريب ـ القدرة على مواجهة المشاكل ، وأنا أوجه هنا حديثي إلى المؤمنين العاملين في سبيل الله في كل مكان لأقول لهم : إنكم تعيشون الآن مع بعضكم البعض ، وتقتبسون النشاط والحيوية من بعضكم البعض ، وإذا ما ساءت بكم الأوضاع فإنكم ستستمدون الروحية والمعنوية ممن هو فوقكم ، ولكنكم عندما تصبحون ـ إن شاء الله ـ قادة هذه الأمة فحينئذ ستشعرون بالوحشة ، وفي هذه الحالة يجب أن تتخذوا القرار المناسب الذي ترون أنفسكم مسؤولين عنه أمام الله عز وجل وأمام الناس ، وبذلك ستشعرون بالرهبة والوحشة ، فلا تعرفون كيف تعملون ، وفي نفس الوقت فإنكم لا تستطيعون أن تتهربون من اتخاذ القرار ، ولا يمكنكم أن تستعجلوا في اتخاذه .
وقد مرّت هذه الظروف نفسها بالميرزا محمد حسن الشيرازي المرجع الأعلى لأتباع مذهب آل البيت عليهم السلام آنذاك ، فقد كان هذا الرجل يشعر بضخامة المسؤولية عندما علم أن البريطانيين أمسكوا بزمام الأمور في إيران ، وأن الملك قد تحالف معهم ، وأن الناس لاذوا بالصمت ، وبعض العلماء قد تعاونوا مع السلطة ، وبذلك فقد كان يشعر بالتهيب والوحشة ، فهل يتخذ القرار أم لا يتخذه ، وعندما اشتد الضغط الجماهيري على الميرزا بأن يقوم بعمل ما ، انتظر حتى كان يوم الجمعة ، وفي عشية هذا اليوم ذهب إلى (السرداب) المنسوب إلى الإمام الحجة عليه السلام وأمر الناس أن ينفضّوا من حـولـه ، وبقي وحده لفترة في السرداب ثم أصدر بعد ذلك فتواه المعروفة والقاضية بأن استعمال التبغ اليوم يعتبر بمثابة إعلان الحرب ضد الإمام المهدي عليه السلام .
وعندما أصدر رضوان الله عليه هذه الفتوى كانت بمثابة الصاعقة التي نزلت على هشيم البريطانيين ، فاحترق هذا الهشيم ، وكانت أول هزيمة لحقت بالاستعمار البريطاني في تأريخه ، وهنا أريد أن أسلط الأضواء على لقطة من هذه الحادثة وهي أن أصدقاء الميرزا الشيرازي والمقربين إليه كانوا قد سألوه بالقول له : لماذا صبرت هذه الفترة الطويلة ؟ فأجاب قائلاً : كنت انتظر الأمر من الإمام الحجة .
ترى هل كانت لهذا المرجع علاقة مباشرة مع الإمام أو مع بعض أصحابه ؟ أنا لا أعلم بالضبط ، ولكن الذي أعلمه أن الإنسان عندما يكون مخلصاً للخالق عز وجل ويجد صعوبات حادة في حياته ، فإن علاقته بالإمام المنتظر عجل الله فرجه ستنفعه حينئذ وسيسدّد من قبل ولي الله .

ضرورة الاهتمام بالمسائل الغيبية

وهنا أوجّه خطابي إلى طلاب العلوم الدينية فأقول لهم : إنكم بصفتكم طلبة علوم دينية ، فإن من الشرف العظيم لكم أن تسيروا على خطى أهل البيت عليهم السلام وان تصبحوا نوّاباً للإمام الحجة الذي قال : ” وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله عليكم ” 8 .
إن هناك مسائل ظاهرة ، وهناك أيضاً مسائل عميقة ، فالمسائل الظاهرة فيما يتعلق بطالب العلم أن يذهب إلى الحوزة أو المدرسة ، وينشغل في الدراسة والمباحثة ، ويصلح ما بينه وما بين أخوته ، ويصلح أخلاقه ، ولكن هناك بالإضافة إلى ذلك مسائل غيبية ينبغي أن يرقى إليها ويصل قلبه بها ، فيتصل بالنور الأعظم من خلال تفجير العلم في قلبه ، وجعله طاهراً نقياً كما يقول الدعاء الشريف : المروي عن الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله : ” اللهم ارزقني قلباً تقياً نقياً من الشرك بريئاً لا كافراً ولا شقياً ” 9 . فعندما يكون قلبك نقياً ، صافياً ، طاهراً ، زكياً ، بعيداً عن الغي ، والغش ، والحقد ، والحسد . . فحينئذ سيشعّ نور الله تبارك وتعالى في قلبك ، وستكون علاقتك بأولياء الله المغيبين منهم والظاهرين علاقة التفاعل .

لإنقاذ المستضعفين

وبالإضافة إلى ذلك فإننا نحمل شعار الدفاع عن المستضعفين والمظلومين ، وهو شعار كبير ، ومن يحمل شعار كهذا فلابد ان يسود الاعتقاد نفسه بأنه قادر على تطبيق هذا الشعار في واقعه .
وفيما يتعلق بعقيدتنا بالإمام الحجة عليه السلام فإننا يجب أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي وهو : كيف ننقذ المستضعفين في الأرض ؟
وبالطبع فإن الشيطان لابد أن يدخل في هذا المجال قلوب البعض منّا ، فيقول : ومن أنا لكي أستطيع إنقاذ المستضعفين ؟
إن الحركات التاريخية الكبرى في العالم بدأت من خلال أشخاص مستضعفين أمثالنا ، وهؤلاء الأشخاص هم الذين غيرّوا التاريخ في الاتجاه الصحيح ، وقد كانوا بشراً مثلنا ، ولكن كان يحدوهم الأمل الراسخ والوطيد بأنهم يستطيعون إنقاذ المستضعفين من شعوبهم .
ونحن أيضاً علينا ـ باعتبارنا مسلمين متبعين لخط النبي وأهل البيت عليهم السلام ـ أن نعمّق اتصالنا بالله سبحانه وتعالى أولاً ، ثم بوليّه الأعظم الإمام الحجة عجل الله فرجه ؛ ومن دون هذه العلاقة التي تبعث فينا روح الأمل والتفاؤل ، وتثير فينا العزم الراسخ والإرادة القوية ، فإننا سوف نصبح مشلولين تماماً ، وسوف نعجز تمام العجز عن القيام بأي عملٍ في سبيل ديننا ، وأمتنا .
فلنقوِّ هذا الاتصال ولنوطّده من خلال قراءة الأدعية ، وأداء العبادات المستحبة المتعلّقة بالإمام المنتظر شريطة أن تكون تلك القراءة ، وهذا الأداء نابعين من صميم قلوبنا ، وخالصين لوجه الله الكريم 10 .

  • 1. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآيات : 1 – 5 ، الصفحة : 2 .
  • 2. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 5 ، الصفحة : 2 .
  • 3. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 87 ، الصفحة : 246 .
  • 4. الكافي ، ج 2 ، ص93 .
  • 5. الكافي ، ج 1 ، ص 98 .
  • 6. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآيات : 67 – 71 ، الصفحة : 10 .
  • 7. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 71 ، الصفحة : 11 .
  • 8. بحار الأنوار ، ج 53 ، ص 181 .
  • 9. بحار الأنوار ، ج 94 ، ص 89 .
  • 10. الإمام المهدي عجل الله فرجه قدوة الصديقين ، آية الله السيد محمد تقي المدرسي ، الفصل الثالث .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى