إسئلنا

دول الخليج…

الذين يزورون دول الخليج تكرارا يلحظون تغييرات واضحة الملامس وعلى عدة أصعدة.

لكن زيارتي الأخيرة لبعض دول الخليج جعلتني أشعر وبتعبير مخفَّف، بعدم ارتياح أو بقلق انتابني، وما زال، لعظيم المعالم المقبولة والتحولات الحديَّة السريعة الظاهرة للعيان منذ الوصول والتجوال إلى الوداع والمغادرة.‏

الصور كثيرة ومتسارعة وقاسية ومتكلَّفة… وأقل ما يُقال في شأنها، أنّها أجنبية عن الأرض والمحيط والتاريخ.‏

فمظاهر الترف المفرط الذي نَصِفُه بالمرضي حتماً، يكاد يطغى على ما سواه، فتراه في كل زاوية وحركة.‏

والمجتمع بات استهلاكياً بامتياز مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً ومظهراً وزينة ومنافسة في الصغير والكبير.‏

وترى الشركات الكبيرة بأسمائها اللامعة وشعارتها العابرة قد احتلت أهم ساحات المدن والشوارع، التي باتت بدورها أشبه بمعرض سيارات عالمي فيه آخر طراز وأحدث إنتاج.‏

والمشهد الأكثر شؤماً والذي مازال يلاحقني على شكل كوابيس إلى الآن، هو مشهد الشباب بمشيتهم وحركاتهم وكلماتهم وطموحاتهم ولَهَواتهم وسماجاتهم و”بياخاتهم”… والعبثية والخِفّة اللامسؤولة الطاغية على حياتهم وتطلُّعاتهم.‏

أما الحديث عن الأمة والوطن والقضايا الكبرى والتحرُّر… فالنوم على سطح القمر أقرب واقعية من ذلك!‏

وبِتَّ ترى أيادٍ كانت خفيَّة، لا تتحرَّج اليوم من تعميق العصبيَّة التي يسمونها “الوطنية” ، لكنها بعيدة عنها تماماً، والتي تُفرِّق فيما بين الكيانات الخليجية المستحدثة باختراع ما يُسمَّى بعادات وتراثيات ورقصات واحتفاليات ومهرجانات و”فعاليات” جُلُّها مخترع أو دخيل ، وهمُّ هذه الأيادي الخفية التفريق في كل شيء وإثارة “المحليات” ضد الآخرين والمحيط الذين هم في الواقع مجتمع واحد، قبل التقسيم الاستعماري وإنشاء الكيانات الحالية.‏

وعلى سبيل النكتة أو المثال، بِتَّ تسمع “بالدشداشة” السعودية والأخرى الكويتية والإماراتية والقطرية والبحرانية والعُمانية، والتي لا تختلف عن بعضها إلا بثَنْية أو زيادة أو نقيصة تكاد لا تُلحظ!‏

وهكذا الرقصة والأغنية والأكلة والخيمة التي باتت تُنسب إلى بلد ما وقطر ما!‏

فَمَنْ هو الذي جاء بهذه الاختراعات والتمايزات؟!‏

أما الموضوع البيئي في دول الخليج، فهو ملف متكامل معقَّد، أعترف أني عندما هممت بتتبُّعه أُصبت بالتشتت والغثيان، فهو لا يبدأ بالبلاستيكيات والاستهلاكيات الخرافية ، ولا يمر بمشاريع التحلية والاستهلاك الجنوني للماء بطريقة فوضوية لا نظير لها في العالم، ولا ينتهي بالسلعة المحرم الخوض فيها باعتبارها سرُّ الأسرار وجوهر الوجود!‏

لكنني أكتفي بالإشارة العابرة إلى حادثة نموذج اطَّلعت عليها من خلال “أحد” المعنيين عندما طُلب منه رسمياً إتلاف بعض المزروعات لعدم صلاحيتها للاستهلاك البشري من فرط ما استُعملت فيها المبيدات والسموم، فباتت تُنقل من المزارع إلى أماكن إتلافها في الصحراء مباشرة، بعد الإعلان أنها إنتاج محلي وموضع افتخار الدول في خططها الزراعية الناجحة !‏

وماذا نقول عن الجلسات والطموحات والاجتماعيات والتطلعات والأهداف والسياسة والعلم والاختصاص والعمالة المحلية ودورها، والعمالة الأجنبية وأثرها، وتوزيع المال ومشاريع “الابتعاث” إلى الخارج، وشهادات الدكتوراة الجاهزة والمتطايرة في كل إتجاه، وتوزيع الثروات والصفقات والعائلات الحاكمة وما يجري داخلها وبين أفرادها والمشاريع السكنية والأبراج والخطط الاقتصادية والميزانيات المبهمة التي لا تعرف صادراً ولا وارداً!‏

أما شؤون العسكر والتسليح والمهام والدور والعقيدة وعُقد النقص المتفشية للعيان… فنضرب صفحاً عنها “اختصاراً”!‏

ونختم بحادثة جرت أمام أعيننا، ولَحِقنا نصيب منها، لها أكثر من دلالة، وتثير تساؤلات لا تنتهي:‏

فكاتب هذه السطور، وعندما كان يسير مع بضعة أنفار في حي من مدينة خليجية معروفة ومشهورة جداً ، شاهد “هجوماً” مباغتاً من مجموعة من الشباب، عَرف فيما بعد أنهم من بلدية المدينة، على مجموعة من الفتيات الصغيرات الفقيرات اللواتي يبِعْن على أكشاك لا يُساوي مجموع ما يبيعونه هاتف خلوي أو حذاء لأحد المهاجمين!‏

الشباب أعمارهم في العشرينات، والفتيات يتراوح عمرهن ما بين 12 ـ 17 سنة، وكل شاب أمسك بضحيته وعصر رأسها تحت زنده ثم سحلها أرضاً وأرفق ذلك مع مجموعة من الضربات واللكمات، وسط صراخ وتوسلات الفتيات دون جدوى، ثم وُضعن في شاحنة صغيرة مسيَّجة كأقفاص الحيوانات، وقد نال كاتب هذه السطور عدة دفشات جرّاء هذه “المعركة”!‏

دلالات هذه الحادثة كثيرة، على صعيد:‏

الأمن والاقتصاد والشباب وما يُسمَّى بحقوق الإنسان…‏

وبعد كل هذه العناوين المجملة في هذه المقالة المختصرة، ومن زوايا متعددة ، نسأل:‏

دول الخليج العربي إلى أين؟!‏1

  • 1. الموقع الرسمي لسماحة السيد سامي خضرا(حفظه الله).
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى