مقالات

حسن الخُلق…

” إن الله ارتضى لكم الإسلام ديناً “
” فأحسنوا صحبته بالسخاء و حسن الخلق “
الإمام الصادق ( عليه السلام )

كلمة الخُلُق تستعمل في اللغة بمعنى السجية ، وبمعنى الطبع ، والعادة ، والدين ، والمروءة . وقد ذكر اللغو يون لكل واحد من هذه المعاني شواهد من أقوال العرب وأمثالها .
وبين هذه المعاني صلة قريبة تكاد تجمعها في إطار واحد . ولعل معنى الكلمة في اللغة واحد وهذه المعاني إفياؤه وظلاله ، ولعل هذا المعنى الواحد في اللغة هو الذي يعرفه الخُلُقيون من هذه الكلمة أيضاً ، وان كانت النصوص اللغوية قاصرة عن إثبات ذلك .
والخلقيون يعرفون من معنى هذه الكلمة إنها ملكة من ملكات النفس ، ويقولون ان أظهر خاصة تتميز بها هذه الملكة هي صدور الأفعال عن الإنسان من دون إِمعان فكر أو أعمال روية .
ويقول بعض الخلقيين ( الخلق صورة الإرادة ) ولعل هذه القائل يحاول أن يبدل البيان ببيان آخر أكثر منه وضوحاً ، وأوفى شرحاً ، إلا إنه لم يفلح في هذه المحاولة فاضطره الغموض إلى شرح طويل ، أبعد فيه المعرف عن التعريف ، وإذا كان يريد من لفظ الصورة : الملكة الكامنة في النفس ، والمسخرة للإرادة حين العمل لم يكن بين التعريفين مخالفة .
لكل إنسان في نفسه صفات كثيرة العدد ، متباعدة الآثار ؛ كالوفاء ، والصدق ، والسخاء ، والشجاعة . وهذه الصفات مصدر لأكثر أعماله ، والخلق من هذه الصفات النفسية هو ما تركز في النفس ، وانطبعت به انطباعاً كاملاً .
والعلماء الخلقيون يبحثون في الدرجة الأولى عن هذه الملكات النفسانية من حيث إنها تتصف بالاعتدال والانحراف وتقبل التحوير والتهذيب ، أما الأعمال التي يصدرها الإنسان باختياره ، والتي يحكم عليها العقلاء بالخير أو بالشر فيسميها الخلقيون سلوكا ، ويبحثون فيها بحثاً ثانوياً ، من حيث إنها مظهر خارجي للخلق الكامن ، ولأن العمل من ناحية أخرى هو المفتاح لتهذيب ، الصفة النفسية إذا كانت منحرفة ، ولانحرافها إذا كانت مستقيمة .
ولذلك فلا يمكننا أن نعتبر العمل الاختياري موضوعاً لعلم الأخلاق ، وان أصر على هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين وأطال في شرحه وإيضاحه ، لا يمكننا ذلك لأن هذا الرأي لا يتفق مع أصول العلم .
موضوع هذا العلم هو ( الخلق ) والخلق صفة نفسية وليست عملاً من الأعمال ، وان كان العمل الاختياري مظهرها الخارجي ، والأستاذ يقيم على هذا التأسيس أشياء أخرى قد نعرض لبعضها فيما يأتي .
والخلق لا يمكن أن يكون وليد مصادفة ، ونتيجة اتفاق ، لأن الأخلاق ملكات ، ولابد للملكات من أسس كما لابد للبناء من قاعدة ، وأسس الخلق : الغريزة ، والوراثة ، والبيئة ، والتربية ، والعادة . والفلاسفة القدماء حين يقولون : ” يولد الإنسان صحيفة بيضاء يرسم فيها المربي ما يشاء ” يريدون بذلك أن نفس الطفل مرنة الغرائز ، سريعة التأثر والانطباع بإشارات المربي وإِرشاداته ، لأن غرائز الطفل لا تزال بعد في جدتها ، لم تسيره إلى وجهة خاصة ، ولم تكسبه خلقاً معيناً ، فهي قابلة للتوجيه ، ومستعدة للتهذيب ، وإذن فهم يريدون من بياض صحيفة الطفل خلو نفسه من الملكات الخلقية ، لا عريها عن الغرائز والطبائع الموروثة ، والمربي يكسبها أخلاقاً لا ينشىء فيها غرائز ، وهم يقولون هذا في الرد على من يقول : الإنسان خيِّر بالطبع ، ومن يقول : هو شرِّير بالجبلَّة .
ولنترك الأستاذ أحمد أمين يفسر قولهم هذا بما يشاء ليخطئهم في الرأي ، وليدل على خطأهم بأعمال الغريزة في الإنسان حين يولد ، لقد فسر على ما اشتهى ، ثم أشكل على ما فسر .
أما قانون الوراثة الذي أشار إليه الأستاذ هنا ، والذي بني عليه هدم هذه النظرية فلا يدل على أن الطفل يرث من أسلافه أخلاقاً ، وكل ما يدل عليه أن الطفل يرث منهم مبادئ أخلاق ، واستعداداً في غرائز ، والفلسفة القديمة لا تنكر ذلك ، والشرع والأدب العربي القديم يعترفان بذلك أيضاً . وتأثير هذه الأسس في تكوين الخلق الإنساني ليس على نهج واحد ، فإن الغرائز تظهر أشكال ميول ورغبات ، والوراثة تحوير في استعداد الغريزة ، وأثر التربية أو البيئة توجيه النفس عند إرادة العمل ، وأثر العادة تثبيت الصفة الحادثة إحالتها خلقا ، وإذن فمبادئ الخلق تنحصر في صنفين :
(1) اختياري يفتقر وجوده إلى إرادة الإنسان واختياره ، ومن هذا القسم : العادة؛ وبعض مفردات التربية ، والبيئة ، كالمدرسة والأصدقاء .
(2) اضطراري لا حكومة لإرادة الإنسان على وجوده وان كانت لها حكومة على تأثيره ، ومن هذا القسم : الغريزة . والوراثة ، والبعض الآخر من مفردات البيئة والتربية .
والإمام الصادق ( عليه السلام ) يصرح بهذا التقسيم فيقول : ( إن الخلق منحة يمنحها الله خلقه فمنه سجية ، ومنه نية ) ويفسر لفظ السجية بالجبلة في بقية الحديث فيقول : ( صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره ؛ وصاحب النية يصبر على الطاعة تصبراً فهو أفضلهما ) ويقابل السجية بالنية وهي الإرادة .
ومعنى الحديث ان الخلق الحسن منه ما تسوق إليه الجبلة ، وتبعث إليه الفطرة ، وهذا القسم لا يجد الإنسان صعوبة في تكوينه ، ولا في الاستمرار عليه ، ومنه ما يكون على خلاف ميول الإنسان ورغباته ؛ وهذا القسم هو الذي يحتاج إلى مجاهدة النفس في تكوينه ، وإلى مصابرتها في الاستمرار عليه ، فهو أفضل القسمين ؛ و أرجحهما في الميزان .
وإذا وجهنا نظرة فاحصة نحو هذه الأسس رأينا للعادة خاصة لا تتمتع أخواتها الأخرى بنظيرها ، للعادة أن تستقل في تكوين أي خلق من أخلاق الإنسان ، وليس للغريزة ولا للأسس الأخرى مثل النفوذ والاستقلال ، لأن الخلق ملكة ، والملكة لا تتكون للنفس إِلا بتكرار العمل .
ونتيجة هذا أن جميع الأسس الأخرى محتاجة إلى انضمام العادة إليها في تكوين الخلق النفسي ، وان للعادة سلطاناً على تغيير كل خلق يتصف به الإنسان ، وان للعقل سيطرة على تهذيب الغرائز ، لأن له سلطاناً على تحوير العادات .
والإمام الصادق ( عليه السلام ) يقرر هذه النتيجة فيقول : ( ما ضعف بدن عما قويت عليه النية ) .
تهذيب الغرائز النفسية جهاد ، وفي الخروج على مؤثرات البيئة والوراثة عناء وصعوبة ، ولكن جميع ذلك سهل على الإرادة القوية ، ولا خير في الرجل إذا لم يكن قوي الإرادة .
ويقول أيضاً : ( إن الله ارتضى لكم الإسلام ديناً فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق ) الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده إكراماً لهم وامتناناً عليهم ، به ينجحون في الدنيا ، وبأتباعه يفلحون في الآخرة ، فيجب عليهم أن يجاهدوا الخلق السيئ من أنفسهم ، لأن الإقامة على الأخلاق السيئة إساءة لا تلتئم مع قدسيَّة الإسلام ، هكذا يقول الإمام الصادق في حديثه هذا ، وإذن فهو يرى ان تهذيب الأخلاق ممكن وان كان جهاداً ، وعلى هذا النهج وبمثل هذه النغمة يقول : ( من أساء خلقه عذب نفسه ) .
سوء الخلق عذاب يختاره الإنسان لنفسه إذا أساء خلقه ، وهو جحيم يجب على العاقل ان يتخلص منه ، هو عذاب لأنه ضعة في النفس وخمود في العقل ،وهو عذاب لأنه نقص في الإنسانية ، وشذوذ عن التوازن ، وهو عذاب يختاره الإنسان لنفسه ، لأنه هو الذي يسعى في تكوينه ، والإمام بقوله هذا يحاول أن يجعل من إرادة الإنسان سلاحاً ماضياً لكفاح الرذائل ومحاربة النقائص .
ومن الخلقيين من يرى أن الأخلاق انطباعات نفسية يستحيل عليها التحوير والتهذيب ، فليس للعقل عليها آية حكومة, وليس للإرادة على تغييرها آية قدرة ، وهذه نظرية مجحفة تهدم بناء السياسات وتلغى فائدة التشريع ، وتبطل نظم الأخلاق وهذه النتائج وحدها كافية في إبطال هذا القول .
أما قول الإمام الصادق في حديثه المتقدم : ( صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره ) فلا يعني به أن من الأخلاق ما يستحيل عليه التهذيب ؛ وإنما يعني أن تكوين الخلق بسبب العادة فقط أكثر صعوبة على الإنسان مما إذا تساعدت على إنشائه الغريزة والعادة ، فإن الإرادة إذا صادفت ميلاً غريزياً أسرعت إلى العمل ، وبتكرار العمل تحصل العادة ، ويتركز الخلق ، وهما عند المكافحة والتهذيب على العكس من ذلك ، لأن تغيير مجرى العادة أسهل بكثير من تعديل مجرى الغريزة .
وطالما سماه الصادقون من أهل البيت ( عليهم السلام ) جهاداً وما أحقه بهذه التسمية ، لأن الثبات فيه يستدعي حزم المجاهد وللمناضل فيه أجر المجاهد ، وقد قال أبوهم النبي ( صلى الله عليه و آله ) لبعض سراياه عند رجوعها من الحرب ، ( مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر و بقي عليهم الجهاد الأكبر ) .
ثم فسر لهم الجهاد الأكبر الذي بقي عليهم بجهاد النفس على أخلاقها ، وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( واجعل نفسك عدواً تجاهده ) . وهو يريد بالنفس هنا ملكاتها الوضيعة . ومن أحق بالمجاهدة من هذا العدو المخادع ، والخصم الألد ، الذي يحمل سلاح العذر تحت ستار النصيحة ، ويمزج السم القاتل بحلاوة الأمل هي عدو داخلي يحب إخضاعه بقوة العدل لحكومة العقل 1 .

  • 1. كتاب : الأخلاق عند الإمام الصادق ( عليه السلام ) للعلامة محمد أمين زين الدين .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى