ورد عن أمير المؤمنين: «من أجهد نفسه سعد» 1.
النفس كالفرس الجامحة تسير بكل اتجاه ولا تقف عند حد معين، ولا يأمن صاحبها عند ركوبها إلا بكبح جماحها بلجام يضبط خطاها لئلا تقذف به بعيدا، وللنفس ميول ورغبات ونزوات وما لم يضبطها الإنسان بضوابط الشرع والعقل لتنتهي عن كل ما يلحق به العيب فإنها سترديه، وهذا الضبط يتمثل بجهاد النفس والوقوف بعزم أمام نزواتها المتفلتة.
جهاد النفس يعني بذل الجهد والإرادة العالية في إعلاء النفس وإيصالها لمقامات عالية من التكامل، وهذا العمل المثابر يسير في ميدان تحمل المسئولية والتصميم الأكيد على تطبيق ما يحمله من تصورات إيجابية لنفسه حينما تتحلى بالفضائل، وأما عالم الأماني والرغبات التي لا يلحقها تنفيذ بل تتبخر بسرعة فهي سراب لا واقع له، وجهاد النفس ومضة تربوية تحثه الخطى نحو التحلي بالصفات الحميدة وتنزيه النفس عن الرذائل والقبائح، فيرى كل تقصير عن إتيان الخير والصلاح مانعا من بلوغ كماله، وارتكاب الموبقات تحطه في وحل المعايب ويسلبه كرامة النفس المتمثلة بإرادة لا ترتضي إلا السمو والعلياء.
وللنفس سلبيات ونقاط ضعف يهاجمها الشيطان بمكره ووسوسته فما يزال به حتى يرتكب المعايب والرذائل، ولا يستغني المرء من نصيحة المحب والصدوق في تبيان أخطائه وصفاته السيئة، ولكن الإنسان أعرف وأبصر بنفسه وبما فيها من آفات كالحقد والغضب والبخل والخيانة، ولا يخفى عليه ميوله الأهوائية نحو تعاطي المحرمات والدفع نحو ارتكاب السيئات، فكم من إنسان له ظاهر جميل وأنيق ولسان عذب فيما يتفوه به من كلمات رقيقة، ولكن باطنه وحشي مفترس يعقر كل معصية ويستجيب بسهولة لكل داع وهتاف للشهوة، وجهاد النقس تخليص للباطن من كل فساد وفجور ومشاعر سلبية تجاه الآخرين؛ ليغدو نقي السريرة ويخاف من الله تعالى لما استقر في نفسه من رقابته تعالى عليه.
وهذا الطريق لتهذيب النفس وتخليتها من السلبيات والسلوكيات المشينة يحتاج إلى يقظة ومحاسبة مستمرة، تضع المرء على مواطن الخلل والتقصير ليعالجها ويعيد لنفسه نقاءها، وأما الإهمال والغفلة عن الرقابة على الجوارح فإن النفس ستعتم بالذنب تلو الذنب حتى يخفت قبس الهداية والصلاح.
كما أن مسلك جهاد النفس ليس مفروشا بالورود والريحان، فيسهل مع الرغبة تحقيقه وتحصيل آثاره، بل هو عمل مثابر يتآزر مع إرادة قوية لتحقيق هدف رسمه لنفسه، ومهما كانت العقبات والآفات التي تعترض طريقه كمغريات تتربص به لتسقطه في الخطايا، فإن نفاذ بصيرته ونظره في عواقب الأفعال وما يترتب عليها من عقاب في يوم القيامة، يقوي إرادته فتعاف نفسه ما يجلب له الضرر والهلاك.
وليس من سعادة حقيقية يعمل لتحصيلها الإنسان كعفته وورعه عن المحرمات، وعزمه الأكيد وإصراره على فعل الصالحات دونما ملل، وكل الآمال والغايات المادية والمظاهر الخداعة ليست الوجه الحقيقي للسعادة، إذ سرعان ما سيرحل عنها مخلفا كل شيء ما عدا عمله الذي يصحبه في يوم الحساب، ولذا فإن كل عمل صالح يأتيه وفعل قبيح يتجنبه يحقق له سعادة ونجاحا مرحليا.
وفي لحظة غفلة وغلبة شهوة وغيبوبة عقلية قد يرتكب المرء المعصية، فيصيبه من الندم والتحسر الشيء الكثير حينما يستشعر فداحة فعله وقبح ما ارتكبه، وهذه اليقظة المؤقتة قد تتبدد وتتلاشى إن لم يدعمها بإرادة قوية على التغيير والتخلص من الذنب، وهذه المعالجة ومواجهة حلاوة المعصية والاستلذاذ بالشهوة يمثل تحديا عليه مواجهته وخوض غماره والصبر على ترك السيئة2.