مقالات

بحثٌ حول حُكم الخروج بالسيف قبل قيام الإمام المهدي (عج)

بسم الله الرحمن الرحيم

بحثٌ حول حُكم الخروج بالسيف قبل قيام الإمام المهدي (عج)

بقلم: الشيخ زكريا بركات

روى الشيخ الحر العاملي  (رض) في كتاب الجهاد من وسائل الشيعة، في الباب الثالث عشر، الحديث الأوّل، قال:

محمَّد بن يعقوب، عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن عيص بن القاسم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

عليكم بتقوى الله وحدَه لا شريك له، وانْظُروا لِأنفسِكم؛ فو الله إنَّ الرَّجُلَ لَيَكون له الغنمُ فيها الرَّاعي، فإذا وجد رجلًا هو أعلم بغنمه من الَّذي هو فيها، يُخْرجُهُ ويجي‏ء بذلك الرَّجل الَّذي هو أعلم بغنمه من الَّذي كان فيها. والله لو كانت لأحدكُم نفسان يقاتل بواحدةٍ يُجرِّبُ بها، ثُمَّ كانت الأخرى باقيةً تعمل على ما قد استبان لها، ولكن لَهُ نفسٌ واحدةٌ إذا ذهبت فقد والله ذهبت التَّوبةُ، فأنتم أحقُّ أن تختاروا لأنفسِكم إن أتاكم آتٍ منَّا فانْظُروا على أيِّ شيءٍ تخرجون؟ ولا تقولوا: خرج زيدٌ؛ فإنَّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يَدْعُكُم إلى نفسه، وإنَّما دعاكُم إلى الرِّضا من آلِ مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه. إنَّما خرج إلى سلطانٍ‏ مُجْتمِعٍ لَيَنْقُضَهُ. فالخارج منَّا اليوم إلى أيِّ شي‏ءٍ يدعوكم؟ إلى الرِّضا من آل محمَّد (ص) ؟ فنحن نُشْهدكم أنَّا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم، وليس معه أحدٌ، وهو إذا كانت الرَّاياتُ والألوية أجدر أن لا يسمع منَّا، إلَّا من اجتمعت بنو فاطمة معه، فو الله ما صاحبكم إلَّا من اجتمعوا عليه. إذا كان رجبٌ فأقبلوا على اسم الله، وإن أحببتم أن تتأخَّروا إلى شعبان فلا ضير، وإن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم فلعلَّ ذلك يكون أقوى لكم، وكفاكم بالسُّفيانيِّ علامةً. أهـ.

أقول: سند الرواية صحيح.

***

تصـوَّر بعضُ المؤمنين أنَّ الروايـة الشريفة تدلُّ على حُرمـة الخروج على الطغاة وحرمة إقامة الدولـة والحكومة الإسلامية في عصر الغيبة، مع أنَّ الروايـة الشريفة تدلُّ على نقيض ما تصوَّر، وفيما يلي بيان ذلك بصورة موجزة:

أوّلاً: إنَّ الرواية الشريفة ـ ومثلها روايات أخرى ـ صدرت في عصر ثورات علوية مناهضة للحُكّام الظالمين، حيث كان أبطال بني هاشم يثورون مرَّة بعد أخرى في وجوه الطُّغاة والجبّارين، وهذه الروايات ناظرة إلى بعض تلك الثورات بوصفها ثورات لم تَحْظَ برصيد كافٍ من الصحَّة يبرِّر مُشاركة المؤمنين فيها.. في حين كان كثير من المؤمنين يتساءلون عن جواز المشاركة في تلك الثورات نظراً إلى أنها تُنفَّذ من قبل قيادات تنتمي (بالقرابة) إلى البيت العلوي الشريف، مع ما لهذا البيت من مكانة ومحبَّة في قلوب المؤمنين.. إضافة إلى أنَّ تلك الثورات كانت تتناغم مع دعوة العقل والنصوص إلى رفض الظلم والظالمين.. فلذلك كان السؤال مُلِحًّا لدى المؤمنين عن حُكم المشاركة في تلك الثورات. والشاهد على ذلك تعبير الإمام الصادق (ع) في الرواية الصحيحة بكلمة (اليوم)، حيث قال ـ عليه السلام ـ : “فالخارج منَّا اليوم إلى أيِّ شي‏ءٍ يدعوكم؟” ، هذا بعد أن أثنى على الإمام زيد بن علي (عليهما السلام) وثورته، ممَّا يدلُّ على أنَّ النهي والتحذير هو عمَّا يجري في زمان خاصٍّ ضمن ظروف ومعطيات خاصَّة، ولا يشمل ما قبل ذلك وما بعده في فرض تغيُّر المعطيات والظروف.

وبعض الروايات صريح في الدلالة على أنَّ مثل هذه النصوص تتحدَّث عن وقائع تجري في تلك الأزمان، وليست بصدد تأسيس حكم شرعي عام بمنع الثورة والخروج في كلِّ الأزمان.. مثاله: ما رواه النعماني في “الغيبة” (ص197) عن أبي بكر الحضرمي، قال: دخلت أنا وأبان على أبي عبد الله (ع) ، وذلك حين ظهرت الرايات السود بخراسان، فقلنا: ما ترى؟ فقال: اجلسوا في بيوتكم فإذا رأيتمونا قد اجتمعنا على رجل فانْهَدُوا إلينا بالسلاح. اهـ.

فالنهي عن الخروج، أو الأمر بالجلوس، ليس مُطلقاً لجميع الأزمان، بل هو ناظر إلى ثورات مُعيَّنة كانت تحدث في زمان الأئمَّة (عليهم السلام) ، وكانت تلك الثورات تفتقر إلى مقومات النجاح، فكان الأئمة (ع) يُحذِّرون أتباعهم من الاغترار بها والانجرار معها.

وممَّا يؤكِّد ذلك: العنوان الذي وضعه النعماني (رض) لهذا النوع من الأحاديث، حيث كتب معنوناً: “باب ما روي فيما أمر به الشيعة من الصبر والكف والانتظار للفرج وترك الاستعجال بأمر الله وتدبيره”. انظر: الغيبة للنعماني (ص194) .

فيُفهم من هذا العنوان أنَّ المنهي عنه هو الخروج المبني على العجلة وعدم الرويَّة وترك الصبر.. وبعبارة أخرى: المنهي عنه هو الخروج الذي يتنافى مع انتظار الفرج، وأمَّا الخروج الذي يكون منسجماً مع انتظار الفرج فهذا لا دلالة في الأحاديث الشريفة على النهي عنه.

وبناءً عليه: لا دلالة في الروايات على تحريم الخروج مطلقاً، فضلاً عن الدلالة على تحريم إقامة الدولة والحكومة الإسلامية.

ثانياً: بالرجوع إلى الرواية الصحيحة عن الإمام الصادق (ع) ، نجد عبارة “إن أتاكم آتٍ منَّا فانْظُروا على أيِّ شيءٍ تخرجون؟”، وهذا التعبير واضح في الدلالة على أنَّ المشكلة لا تكمن في الخروج نفسه، بل تكمن في دوافع الخروج ومنطلقات الثورة والظروف والمعطيات التي تكتنفها.. وهذا معناه أنَّ الذي يخرج بعد أن يدرس ـ جيداً ـ الأساس الذي يبني عليه خروجه، فهو غير ملوم في خروجه ولا منهي عنه. ثم نقرأ قول الإمام الصادق (ع) : “ولا تقولوا: خرج زيدٌ؛ فإنَّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يَدْعُكُم إلى نفسه، وإنَّما دعاكُم إلى الرِّضا من آلِ مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه” ، وهذا واضح الدلالة على أنَّ الخروج الذي يكون كخروج زيد (ع) هو خروج غير منهي عنه، وهو الخروج الذي يتوفَّر فيه نوعان من الشروط:

النوع الأوّل: شرط في الثورة، وهو أن تكون داعية إلى الرضا من آل محمد (ص) ، أي الدعوة إلى الإمام المعصوم من أهل البيت عليهم السلام.

النوع الثّاني: شرط في قائد الثورة، وهو أن يكون ـ كما كان زيد (ع) ـ عالماً صدوقاً مطيعاً لإمام زمانه.

وبهذا يُفهم ـ بوضوح ـ أنَّ النهي ناظر إلى ثورات مُعيَّنة كانت تحدث في زمان الأئمَّة (ع) ، وكانت مفتقرة إلى هذه الشروط. وبناء عليه: يمكننا القول بأنَّ الثورة التي تتوفَّر على تلك الشروط هي خارجة من نطاق النهي، وداخلة في نطاق الثناء والرضا كما كانت ثورة زيد بن علي عليهما السلام.

وشرطية (الطاعة لإمام الزمان) تُفهم من قول الإمام الصادق عليه السلام ـ متحدِّثاً عن بعض قيادات الثورات العلوية آنذاك ـ : “فالخارج منَّا اليوم إلى أيِّ شي‏ءٍ يدعوكم؟ إلى الرِّضا من آل محمَّد (ص) ؟ فنحن نُشْهدكم أنَّا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم، وليس معه أحدٌ، وهو إذا كانت الرَّاياتُ والألوية أجدر أن لا يسمع منَّا”. فهذه العبارة تدلُّ على أنَّ بعض القيادات الثورية في تلك الأزمنة كانت لديها مشكلة في الولاية، ولم تكن تدين بالطاعة للأئمَّة من أهل البيت عليهم السلام، ولذلك هي غير مرضي عنها من الأئمة عليهم السلام.

وبناء عليه: نفهم أنَّ الرواية الشريفة غير ناهية عن أيِّ ثورة يتولَّى قيادتها عالم صدوق يدين بالطاعة لأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) ويدعو للرضا منهم (ع) ، بل تعتبرها ثورة مرضياً عنها نظير ثورة زيد بن علي (ع) .

ثالثاً: من المحتمل أنَّ بعض الروايات الناهية عن الخروج بالسيف، هي بصدد معالجة إشكالية فكريَّة عُرفت بها بعض المذاهب، حيث قالوا إنَّ الإمام من الله يُعرف بالخروج بالسيف، فمن خرج فهو الإمام، ومن لم يخرج فليس إماماً..! وهذه الفكرة تُعدُّ أساساً خاطئاً ينتهي بصاحبه إلى الطعن في أئمة الهُدى من أهل البيت (عليهم السلام) ؛ ولذلك يكون المعتقد بها آثماً، وقتاله المبني على هذه الفكرة لا يكون ذا قيمة إيمانية عند الله (تعالى) ولا مقبولاً.

والشاهد على ما قلنا من نظر بعض الروايات إلى هذه الإشكالية الفكرية والسلوكية: قول الإمام الصادق عليه السلام: “إلَّا من اجتمعت بنو فاطمة معه، فو الله ما صاحبكم إلَّا من اجتمعوا عليه”. والتعبير بـ (الصاحب) يناسب الاعتقاد بالإمامة، فكأنَّ بعض المحبِّين لأهل البيت (ع) ـ بسبب الضعف الثقافي والمعرفي ـ كان ينجرُّ إلى الاعتقاد بإمامة الخارج بالسيف، فلزم تنبيهه إلى عدم صحَّة هذا الاعتقاد مع كون الإمام الصادق (ع) غير راض عن هذا الخارج بالسيف (فنحن نُشْهدكم أنَّا لسنا نرضى به) ، ومن يكون الإمام الصادق (ع) غير راض عنه فلا بد من وضعه داخل دائرة الاستفهام والريبة.. وبهذا تكون بعض الأحاديث ناظرة إلى هذه الإشكالية، أي إشكالية الاعتقاد بإمامة الخارج بالسيف على حد إمامة الإمام الصادق (ع) ، أو الاعتقاد بأن الخارج بالسيف هو المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

وبناء عليه: فالخارج بالسيف إذا لم يكن يدَّعي منزلة الإمامة العظمى، ولا كان أتباعه يعتقدون بذلك في حقِّه، فلا وجه للقول بأنَّ الروايات تنهى عنه وعن ثورته، بل إذا اتَّصف قائد الثورة بصفات (العلم والصدق والطاعة لإمام زمانه) وكانت ثورته داعية إلى إمام الزمان (ع) ، فإنَّ ثورته تكون ـ كثورة زيد بن علي (ع) ـ حقيقةً بالثناء والرضا.

رابعاً: إذا فرضنا (جدلاً) تمامية الروايات الشريفة في الدلالة على حُرمة الخروج بالسيف مطلقاً، فلا تلازم بين تحريم ذلك وبين تحريم إقامة الدولة والحكومة الإسلاميَّة من غير عمل مُسلَّح، وهو الذي حصل في إيران الإسلامية من ثورة مباركة بدأت بالتثقيف حتى سُمِّيت بـ”ثورة الكاسيت”.

بل الأدلَّة تامَّة على وجوب إقامة الدولة والحكومة الإسلامية (وليس هذا أوانُ تفصيلها) ؛ ولهذا قاد الثورة مرجعٌ عظيم من مراجع التقليد، وهو الإمام الخميني (رض) ، وساعده على ذلك جماعة من خيرة المراجع والعلماء.

وقال آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) حين نجحت الثورة الإسلامية في إيران: “الآن وصلني خبر يفيد بأنّ آخر معقل من معاقل الطاغوت قد سقط بأيدي المسلمين وقد حقّق الإمام الخمينيُّ حُلُمَ الأنبياء والأولياء والأئمَّة في التاريخ”. المصدر: كتاب محمّد باقر الصدر (السيرة والمسيرة), دار العارف للمطبوعات، الجزء 4 ، الصفحة 26 .

هذا باختصار، والحمد لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى