إسئلنا

بناء العقلاء…

في أصول الفقه عند المسلمين الإمامية، هناك نظرية مهمة وبديعة من ناحية المعنى، وبليغة وجذابة من ناحية المبنى، هي نظرية بناء العقلاء، عرفت بهذا الوصف وأصبح شائعا عند الأصوليين المتأخرين، وقبلهم كانت تعرف بتسمية سيرة العقلاء أو السيرة العقلائية التي تقابلها سيرة المتشرعة أو السيرة الشرعية.

وفي التعريف الاصطلاحي كما جاء في كتاب (معجم المصطلحات الأصولية)، تعني هذه النظرية: صدور العقلاء عن سلوك معين تجاه واقعة ما، صدورا تلقائيا، شريطة أن يتساووا في صدورهم عن هذا السلوك، على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، وتفاوت ثقافاتهم ومعارفهم، وتعدد نحلهم وأديانهم.
وعرفها السيد محمد باقر الصدر من جهة علاقتها بسيرة المتشرعة، بقوله: السيرة العقلائية عبارة عن ميل عام عند العقلاء المتدينين وغيرهم نحو سلوك معين، دون أن يكون للشرع دور إيجابي في تكوين هذا الميل, ومثال ذلك الميل العام لدى العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلم.
ومن هنا، يتحدد في نظر السيد الصدر اختلاف السيرة العقلائية عن سيرة المتشرعة، فسيرة المتشرعة هي وليدة البيان الشرعي وتعتبر كاشفة عنه، وأما سيرة العقلاء فمردها إلى ميل عام يوجد عند العقلاء نحو سلوك معين، لا نتيجة لبيان شرعي، بل نتيجة لمختلف العوامل والمؤثرات الأخرى التي تتكيف وفقا لها ميول العقلاء وتصرفاتهم، ولأجل هذا لا يقتصر الميل العام الذي تعبر عنه السيرة العقلائية على نطاق المتدينين خاصة، لأن الدين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل، من هنا يجب في نظر السيد الصدر أن ننهج في الاستدلال بالسيرة العقلائية نهجا آخر، يختلف عن نهج الاستدلال بسيرة المتشرعة.
ومع هذا الفارق والاختلاف بين السيرتين العقلائية والمتشرعة، إلا أن شرط العمل بنظرية بناء العقلاء يتوقف على عدم وجود رادع من الشريعة لذلك السلوك المنسوب إلى العقلاء، وحسب قول السيد الصدر: فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم تردع عن الانسياق معه، كشف سكوتها عن رضاها بذلك السلوك وانسجامه مع التشريع الإسلامي، ومثال ذلك سكوت الشريعة عن الميل العام عند العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلم وعدم ردعها عنه، فإن ذلك يدل على أنها تقر هذه الطريقة في فهم الكلام، وتوافق على اعتبار الظهور حجة وقاعدة لتفسير ألفاظ الكتاب والسنة، وإلا لمنعت الشريعة عن الانسياق مع ذلك الميل العام، وردعت عنه في نطاقها الشرعي.
هذه النظرية طالما استوقفت انتباهي، وأثارة دهشتي، وهي تثير الدهشة حقا لمن يتوقف عندها، ويتبصر فيها، ووجدت أنها تستدعي البحث عن كيف تم التوصل إليها؟ وكيف جرى اكتشافها والتعرف عليها بهذا الصك الاصطلاحي البديع؟ وما هو السياق التاريخي والمعرفي لتطورها؟ وكيف نمت وتحددت بالصورة التي وصلت إليها في دراسات أصول الفقه؟
وبعبارة أخرى: ما هو التاريخ الفكري لميلاد هذه النظرية؟ من أين يبدأ وإلى أين يصل؟ وما هي المراحل التي مرت بها؟ والسياقات المعرفية التي تفاعلت معها؟ لأن هذا النمط من النظريات لا يظهر عادة ويعرف ويتشكل من دون أن تكون له سيرة فكرية وتاريخية تعرف به، وتشهد له، وتدل عليه.
وتتأكد قيمة هذه النظرية، أنها تنتمي إلى علم أصول الفقه الذي عرف بالدقة والضبط والإحكام، وعدت هذه واحدة من أبرز سمات هذا الفن، فقد حافظ على تخصصه وتماسكه، وبقي بعيدا عن الخوض فيه بحثا وتأليفا وتصنيفا من خارج أهل الاختصاص، ولم يعرف الهرج والمرج، أو التطفل والعبث، لهذا فإن نظريات هذا الفن تتسم عادة بالتماسك والإحكام.
وجاءت هذه النظرية، لتأكيد حاجة الانفتاح على العقلاء بما هم عقلاء بين الملل والنحل كافة، وفي كل حال وزمان ومكان، تقديرا لخبرتهم وحكمتهم، واعترافا بأثرهم وتأثيرهم، ورفعة لشأنهم ومنزلتهم، ودعوة للتواصل معهم، والاقتداء بهم، والاستفادة منهم.
وبهذه الطبيعة فإن هذه النظرية تظهر وتتسم بلا ريب بالتواصلية والفعل التواصلي بأعلى درجاته وأسمى مستوياته، بل وتحرض بشدة على هذا الفعل التواصلي، وتقعد له تأسيسا وتأصيلا، ليكون تواصلا فعالا من ناحية النوع، ومستمرا من ناحية الكم، وممتدا من ناحية الزمن، تواصلا مع العقلاء لا ينتهي ولا يتوقف، ولا يتقيد بحال ولا بمكان.
ومن هذه الجهة، يمكن المقاربة بين هذه النظرية ونظرية العقل التواصلي عند الفكر الألماني يورغن هابرماس الذي أقام نظريته على أساس الربط والعلاقة بين العقل والتواصل، ليكون العقل تواصليا متجاوزا ومتخطيا حدود فلسفة الذات، وليكون التواصل عقليا يحاكي العقل والمعرفة العقلية متجاوزا ومتخطيا العقل المتمركز على الذات.
جانب الاشتراك بين هاتين النظريتين هو الارتكاز على ركني العقل والتواصل، وجانب الافتراق يتحدد في ماهية الركنين، ماهية العقل من جهة، وماهية التواصل من جهة أخرى، وذلك لطبيعة الاختلاف في النظام المعرفي، فنظرية بناء العقلاء تنتمي لنظام معرفي يغاير ويباين النظام المعرفي الذي تنتمي إليه نظرية العقل التواصلي.
ومن جانب آخر، إن بإمكان نظرية بناء العقلاء أن تفتح أفقا واسعا أمام تطور أصول الفقه وتقدمه، خاصة في الميادين المتصلة من جهة علاقته بالعلوم والمعارف الإنسانية والاجتماعية التي تتخذ من العقل مرجعا لها في بنائها ومبانيها، قواعدها وأصولها، تفسيراتها وتحليلاتها، علما بأن قضية العلاقة بين أصول الفقه والعلوم الإنسانية الاجتماعية، هي مورد اهتمام المعاصرين خاصة المعنيين بحقلي الدراسات الإسلامية والدراسات الأصولية.
وما دعاني لطرح هذه القضية، هو ما وجدته من تقصير مزدوج تعريفا وتعرفا، فهناك تقصير في التعريف بهذه النظرية وأبعادها وآفاقها المعرفية خارج نطاق الدرس الأصولي، فهي تعرف عند المعنيين بالدراسات الأصولية فقط ولا تعرف عند غيرهم، وهناك تقصير كذلك في التعرف على هذه النظرية، فهي لا تكاد تعرف عند أصحاب المدارس الإسلامية الأخرى، إلا في نطاق ضيق جدا، بينما هي تستحق المعرفة، وتستحق البحث والنظر المعرفي والمنهجي1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة اليوم، الأحد 13 نوفمبر 2016م، العدد 15857.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى