إسئلنا

العرب والغرب…

انشغلت بعض الكتابات العربية المعاصرة بتصوير البدئيات في دراسة وتحليل بعض الظواهر والقضايا والمفاهيم والمشكلات التي ينظر لها على أنها من كبريات المسائل، والتي تنحدر في جذورها إلى ماضي سحيق ترجع إلى بدايات الاجتماع الإنساني والفكر البشري كما تصور تلك الكتابات.

ففي سنة 1997م، نشر الدكتور خلدون النقيب كتاباً بعنوان (في البدء كان الصراع: جدلية الدين والاثنية، الأمة والطبقة عند العرب)، حاول فيه تحديد مكانة المجتمع العربي في السياقات التاريخية وموقعه من العالم المحيط به، والسعي إلى الكشف عن مصادر الصراع بين قوى المجتمع الذاتية واشتباك مصالحها مع المجتمعات والجماعات الأخرى المحيطة به أو المتصارعة معه.
وفي 1998نشر عبد الإله بلقزيز كتاب (في البدء كانت الثقافة: نحو وعي عربي متجدد بالمسألة الثقافية)، تناول فيه أهمية الثقافة وتنمية الوعي بالمسألة الثقافية، ودعوة المثقف إلى إعادة بناء تصور ثقافي جديد لدوره في المجتمع العربي. وفي 1999م نشر الدكتور عبد المجيد الصغير كتاب (في البدء كانت السياسة)، ونشر الزميل محمد محفوظ موضوعاً في مجلة الكلمة شتاء 1999م، بعنوان (في البدء كانت الأمة)، ونشر الزميل تركي علي الربيعو مقالاً بجريدة الحياة في تشرين الأول اكتربر2000م تحت عنوان (في البدء كانت القبيلة). هذة عينة من الكتابات ولاشك أن هناك كتابات أخرى لمن يتتبعها ويرصدها. وهي تكشف بتواترها عن ظاهرة ثقافية تستدعي النظر والتحليل، وتتصل بطبيعة المنطق الداخلي للثقافة السائدة في العالم العربي، ورؤيتها للزمن ولحركة التاريخ ولمفهوم التقدم. وبين هذه المقولات اشتراك وافتراق. اشتراك في تصوير البدئيات، وافتراق في العناوين والموضوعات والقضايا، بين من يرى بأن في البدء كان الصراع، أو من يرى الثقافة أو السياسة أو الأمة أو القبيلة، ولعل هناك من يرى الاقتصاد أو الحوار أو التفكير أو الفرد.. إلى غير ذلك.
وفي جانب الاشتراك يتكشف المنطق الداخلي أو بعض ملامحه المكوّنة له، وهي ظاهرة النزوع إلى الوراء والبحث عن القديم والكشف عن الجذور والارتباط بالماضي.
وهذه الحالة هي من طبيعة كل ثقافة كانت حضارتها في الماضي. فالزمن يبدأ عندها في الماضي، والتاريخ يتحرك من هناك، والفكر ينطلق من تلك اللحظات. فهذه البدئيات تتصل بالروح العامة للثقافة فيتأثر بها المنتسبون إليها بادراك أو بغير إدراك.
وفي جانب الافتراق تتعدد العناوين وتختلف بصورة لا تطابق بينها، وتتباعد من دون أن يكون هناك تقارب فيما بينها، لكنها تكشف عن ظاهرة الأحادية والنهائية في الثقافة العربية. الأحادية بالتركيز على العامل الواحد في تفسير الظواهر والقضايا، والتمسك بالعنصر الذي له الأسبقية في التأثير والفاعلية. والنهائية بمعنى التشدد والتوقف والانتهاء عند ذلك العامل الواحد.
وتتأكد هذه الملامح والعناصر والمكونات حين المقارنة والمقاربة بمنظومة ثقافية أخرى، يختلف فيها النظر إلى الماضي والتاريخ، كما يختلف التعامل مع حركة الزمن وإيقاع العصر. كالذي نراه في الثقافة الغربية التي يتزايد فيها الحديث حول النهايات بعكس ما هو سائد في الثقافة العربية بالحديث عن البدئيات.
وحديث النهايات في الثقافة الغربية يشمل العديد من المجالات، وما زال يتوسع إلى قضايا وميادين أخرى. فمن كتاب (نهاية الحداثة) للكاتب الإيطالي جياني فاتيمو الصادر سنة 1987م، إلى مقولة (نهاية التاريخ) التي بشر بها فرنسيس فوكوياما سنة 1989م، وكتاب (نهاية العلم: مواجهة حدود المعرفة في غسق العصر العلمي) للكاتب الأمريكي المحرر في المجلة المتخصصة في العلوم الأمريكية جون هورغن مرورا بكتاب (نهاية الدولة القومية: صعود الاقتصاديات الإقليمية) لمؤلفه كينيشي أوماي وكتاب (نهاية الأرض: رحلة إلى بدايات القرن الحادي والعشرين) لروبرت كابلان. وهكذا هي مقولات (نهاية الفلسفة)، و(نهاية العلوم الاجتماعية).. إلى غير ذلك من نهايات. ولا شك أن تواتر هذه الظاهرة أيضاً وثيق الصلة بطبيعة الثقافة الأوروبية وروحها العامة. فهذه النهايات ترتبط بما أنجزته تلك الثقافة الأوروبية من تقدم وتمدن، وكأن الأمور هناك وصلت إلى نهاياتها أو تشارف على نهاياتها.
من جهة أخرى إن النهايات في الكتابات الغربية دلالاتها تختلف وتتباين، فقد تعني الوصول لحالة من العجز والتوقف والانسداد كما في رؤية صاحب كتاب (نهاية العلم) حيث اعتبر إن العلم وصل إلى ثلاثة إنسدادات هي:
أولاً: إنه لم يعد هناك اكتشافات كبرى تحدث في الآونة الأخيرة.
وثانياً: إن العلم المعاصر تحول إلى عمليات رياضية معقدة لا يفهمها ولا يهتم بها معظم البشر على الإطلاق.
وثالثاً: إن بعض ما يبحث عنه أهل العلم اليوم أو يزعمون ذلك لن يصلوا إليه أبداً.
وقد تعني النهايات عند بعض آخر بالاكتمال والحسم النهائي واكتشاف الاختيار الصائب، كما صور ذلك فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) حين اعتبر إن الديمقراطية الليبرالية هي خيار البشرية الأخير بلا منازع.
وفي مدلول آخر قد تعني النهايات، نهاية مرحلة من الاكتمال وضرورة عن البحث عن مرحلة من التطور الجديد ومن الكشف والإبداع والابتكار، كالذي تصوره بعض كتابات ما بعد الحداثة على خلفية مقولة نهاية الحداثة.. إلى غير ذلك من دلالات.
تبقى ان الفكرة الجوهرية في مقولتي البدايات والنهايات ترتبط بمفهوم الزمن وعلاقة الثقافات بالزمن، فالبدايات لها منطق في الزمن يختلف عن منطق الزمن في النهايات وهو الاختلاف بين زمن يرجع إلى الوراء وزمن يتقدم إلى الأمام1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الوطن ـ الثلاثاء 7 أغسطس 2001م، العدد 312.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى