من هو الآخر الذي قفز إلى أذهاننا وبدأنا لا نتوقف في الحديث عنه؟ وماذا نريد من الحديث عن الآخر؟ هل نريد اكتشاف أنفسنا من خلال البحث عن وجود الآخر، باعتبار أن معرفة الآخر هي جزء من معرفة الذات، وأن معرفة الذات لا تكتمل إلا بمعرفة الآخر؟ أم نريد معرفة من يكون هذا الآخر، نوعه وفصله وجنسه وشكله؟ وأين يختلف معنا وأين يتفق؟ وأين يفترق معنا وأين يشترك؟ أم نريد أن نقول إننا أحسن وأفضل من هذا الآخر أو ذاك، لكي نطمئن على حالنا ونحمد الله على ما نحن عليه؟ وهل نريد أن نقرب المسافات التي تفصلنا عن الآخر؟ أم نريد أن نباعد بيننا وبينه اتقاء لشره ودفعاً لضرره علينا؟ وقبل هذا كله، من أين جاء مفهوم الآخر؟ وهل هناك شيء اسمه الآخر بين البشر والناس الذين خلقهم الله من نفس واحدة؟
هذه التساؤلات ينبغي أن نطرحها على أنفسنا حين نريد الحديث عن الآخر، لأننا جميعاً نمثل الآخر، وجميعا نمثل الذات. فالآخر بالنسبة إلينا هو الذات بالنسبة لمن أعطيناهم هذا الوصف، والذات بالنسبة إلينا هي الآخر بالنسبة إلى الناظر إلينا. بهذه الطريقة ينبغي أن ننظر إلى الآخر، النظرة التي تستحضر الذات في مفهوم الآخر، ولا تجعل من الذات مفهوماً متعالياً أو فوقياً، أو يعطي الذات صفة التفاضل والتمايز، وحتى لا نقع في إشكالية الإلغاء أو الإقصاء أو الاستعداء. وهذا يعني أن الآخر ليس من نقول عنه هو أو هم، وإنما الآخر من نقول عنه أنا ونحن أيضاً، والغير الذي يأتي بمعنى الآخر يشملنا نحن وهم، فلا ينبغي أن نخرج أنفسنا من مفهوم الآخر، فنحن والجميع جزء من هذا المفهوم.
ولاشك أن النظر إلى الآخر بهذه الكيفية هو الذي يصحح صورة الآخر، ويكسب هذه الصورة تحسباً واحترازاً. والقصد من وراء ذلك أن نثبت طريقة حكيمة في النظر إلى الآخر نلتزم بها نحن حينما نكون في منزلة الذات، ويلتزم بها من جهة أخرى، أو هكذا يفترض من ينظر إلينا حينما نكون نحن في منزلة الآخر.
والمشكلة دائماً كانت وما تزال حينما نضع أنفسنا في منزلة الذات، وننزه أنفسنا من منزلة الآخر، وجميعنا معرض في أن يصاب بهذه الآفة، وقد نكون جميعاً وقعنا فيها بالفعل، ولا ينبغي أن نبرأ أنفسنا.
والقرآن الحكيم يدفعنا دوماً لمثل هذا الموقف في العديد من آياته الكريمة، كقوله تعالى﴿ … فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ﴾ 1ـ وقوله تعالى﴿ … وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ 2ـ وقوله تعالى﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا … ﴾ 3.
هذه الآيات الثلاث، واحدة ناظرة إلى الذات في سياق النهي عن الادعاء بتزكية النفس، والثانية ناظرة إلى المصير في سياق إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، والثالثة ناظرة إلى وحدة الأصل الإنساني في سياق الدعوة إلى التعارف بين الناس كافة.
وفي آثار الفكر الإنساني المعاصر لفت انتباهي كتاب للمفكر الفرنسي بول ريكور عنوانه (الذات عينها كآخر) على ترجمة أو (الذات نفسها كآخر) على ترجمة أخرى. وقد جاء هذا الكتاب في تحليل البعض بعد أن وجد ريكور نفسه في وضع يسمح له بقيادة الحوار المثلث بين الفكر التأملي الفرنسي، والفلسفة الألمانية، والفلسفة التحليلية، الانكلوـ سكسونية.
وأمام مقولة ريكور الذات نفسها كآخر، نطرح مقولة الآخر بوصفه الذات4.
- 1. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 32، الصفحة: 527.
- 2. القران الكريم: سورة سبإ (34)، الآية: 24 و 25، الصفحة: 431.
- 3. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 13، الصفحة: 517.
- 4. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 6 يوليو 2005م، العدد 14193.