مقالات

التوابين والمتطهرين…

﴿ … إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ 1.
كانت هذه الآية الكريمة أولى خاطرة عرضت لي حين تناولت القلم لألبي دعوتكم أيها الإخوة الكرام ـ .
﴿ … إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ … ﴾ 1. . . ﴿ … وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ 1.

صنفان من الخلق يستحقان حبّ الله تعالى و يستوجبان عظيم عنايته . . هذا هو مدلول الآية الكريمة لا بس فيه ، ولكن ما هي الوحدة الجامعة بين هذين الصنفين لتجمعها الآية في سياق ، و توحدّها في الحكم و تقرنهما في المنزلة ؟
هذا ما أحببت ان أجعله مفتاحاً لحديثي معكم .
في أول الآية الكريمة ذكر للتطهير والتنزّه ، وفيه ايضاً إشارة إلى الذنب ، وذكر الذنب يمهّد لذكر التوبة ، فهل هذا وحده هو السبب في جمع التوابين والمتطهرين ؟
نعم في أول الآية ما يدل على هذا و هذا . . لأنها تقول :
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ 1.
ولكن هذا بمفرده لست أظنه كافياً في ذلك .

الاسلام و الانسان

برأ الله هذا الكون الفسيح الأرجاء البعيد الأغوار ، و رحمة بهذه الكائنات المتنوعة العناصر المتبانية الأشكال ، و جرى في حكمته أن يجعل بعض الموجودات مادّياً محضاً ليس للروح مدخل في تركيبه ، و يعضها روحياً بحتاً ليس للمادة موضع في تكوينه ، وجرى في حكمته أيضاً أن ينشيء هذا المخلوق العجيب ( الإنسان ) فيجعله خلطاً من الروح والمادة . . ثم ربط بالكون الأعلى روح لها لطافة المجردات ، ويشدّه إلى الكون الأدنى جسدٌ له كثافة المادّيات ، ثم ربط ـ سبحانه و تعالى ـ بين هذين الجزءين المتباعدين ، حتى لا يستطيع احدهما تصرّفاً ، ولا قبضاً ولا بسطاً ، ولا أخذاً ولا ردّاً بغير مساعدة خليطة .
﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ 2.
هذه حقيقة الإنسان في رأي الإسلام ، و في نظر القرآن . . جسدٌ مخلوق من طين ، و روح تنفح من علّيين .
جسد يتألف من تراب المادة و مائها ، و يتكوّن من عناصرها وأجزائها ، ونطبع بخصائصها وسماتها ، و يخضع لقوانينها ومتطلباتها ، و روح تسمو به إلى العالم الأعلى ، وتنزع به إلى الصفات المعنوية المُثلى . .
فهو وحدة مركّبة من هذين الكيانين المختلفين ، و مجموعة مؤلّفة من هاتين الجهتين المتمايزتين .
ليس مادة خالصة كما تراه المبادئ المادّية ، وليس روحاً محضاً كما تراه الفلسفات والشرائع الروحية ، فكلاهما قد انحرفا في طريقتهما ، وحادا في الإنسان عن معرفة حقيقته ، وقرّرا للإنسان مناهج وزعت كيانه ، وأوجبت خلل سلوكه في الحياة ونقصانه .
ليس مادة خالصة لا علاقة بها بروح ، ولا روحاً محضاً لا جدوى معها لمادة . . بل هو جسد و روح يحمل خصائص المادّة وخصائص ما وراء المادة . . من أجل ذلك كان على الدين المصلح للإنسانية ان يرعى هذا التركيب فلا يغالي في ترويض النفس وإرهاقها ، وينسى أن له بدناً مادّياً يهوي به أصله إلى الطين ولا يبالغ بإرضاء الجسد و تذليله ، ويغفل أنّ له نفساً عالية المطامح بعيدة الغايات لابدّ ان تهذب لتسمو وأن يؤخذ بيدها لتكمل .
نعم ، هذه نظرة الإسلام في الإنسان ، و على أساس هذه النظرة وضع للإنسان نظامه وشرّع له مناهجه وأحكامه ، فهو يتناوله بما هو روح وجسد ، فيعطي كلاً من الناحيتين ما تستحقّ ، و يوليها من العناية ما تستوجب . .
لا يكتب جسداً لحساب روح ، ولا يُرهق روحاً لحساب جسد ، و لا يفصل جانباً عن جانب ، ولا ينقصه حظاً من الحظوظ ولا رغبة من الرغائب ، بل يضع له التشريع الوافي والعلاج الشافي الذي لا ينقص ولا يزيد ، و لا ينحرف و لا يحيد .
هذه فطرة الإنسان و حقيقته ، ثم هذه تنظيماته في الحياة وشريعته ، ممتزجة مترابطة لا انفصال لجهة منها عن جهة ، ولا انفكاك لنظام عن نظام ، ولا بعد لغاية عن غاية . . كلها من وضع الله العظيم العليم ، خالق الإنسان ومقدّرة ، وبارئه ومصوّره . . وكلها أدلة قاطعة على عظمة الإسلام دين الفطرة ، ومنظّم الإنسان في الجسد والروح والفكرة . .
﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ 3.
هذه تشريعات الإسلام لحياة الإنسان متشابكة مترابطة لا انفصال فيها لنظام روح عن نظام جسد , ولا لمنهاج عمل عن منهاج فكرة , ولا لقانون دنيا عن قانون اخرة , وكلها أنظمة تربية و تزكية و إعلاء و ترقية , و غايتها ـ كلها إنشاء الإنسان الكامل الإنسانية الموفي لربه حق العبودية .
﴿ … إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ 1.
ومن اجل ذلك علمنا ان دين الإسلام وحده هو الدين الكامل الذي يصلح للبشرية لأنه وحده هو الدين الذي قام على هذه القاعدة ووفى بهذا الشرط .
. . علم ان للإنسان روحاً و جسداً فهذب الروح و الجسد معاً بما تتحمله الطاقة و يحغظ الوحدة . .
نعم ، الإسلام وحده هو الذي قام على هذه القاعدة ووفى بهذا الشرط ، ولست اراني بحاجة إلى إقامة الدليل على ذلك ، فقد علم المطلعون ان أديان الأرض كلها لم تلحظ في تشريعها وحدة أجزاء الإنسان في التكوين . . فككت بين اجزاءه ففككت بين أحكامه ، فكانت أحكامها بتراء لا تصلح جسدا ولا تهذب روحا ، ولا تسمو بمجموع .
الإسلام وحده قام على هذه القاعدة ، وجرى غي جميع تعاليمه على هذا المنهاج ، و الآية الكريمة المذكورة من شواهد هذه الدعوى :
﴿ … إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ 1.
للإنسان جسد و له روح ، والجسد مظنة للتلوث بما يظهر عليه من داخله من الأقذار ، و بما يسري إليه من خارجه من الاوضار ، فكان هذا باعثاً لتشريع الطهارة في الإسلام . .
و الروح كذلك مظنّة للتدنس بما تستقم به في باطنها من سيء الطباع و الأخلاق ، وبما يتسرى إليها من غيرها بالمجاورة والاختلاط فكان هذا سبباً لتشريع التوبة .
فالطهارة والتوبة توأمان في الدين يتشابهان في النشأة ، ويتماثلان في الفائدة . . اولاهما لتنزيه البدن مما يتعلق به من أدران ، وأخراهما لتزكية النفس عما يطرأ إليها من ذنوب . .
و الإنسان الزكي المتنزه ، الذي يقرن طهارة ظاهرة بطهارة باطنه ، ونزاهة سّره بنزاهة علانيته ،ويترسم حدود الله في هذه وتلك ، هو الذي يستحق عناية الله (جل شأنه ) و مزيد لطفه ، و يستوجب حب الله وعظيم توفيقه .
﴿ … إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ 1.

الصلاة و الصيام

وعلى هذه القاعدة أيضاً بنى الإسلام تشريع الصلاة والصيام . .
فالصلاة ركوع وسجود و قيام وقنوت ، وهي حركات و اعمال يظهر فيها خضوع الجسد وانقياده لخالقه ومدبّره ، ولكن هذه المجموعة من الأعمال لا يتضح فيها مفهوم العبادة حتى تقترن بالنية والخلوص . . وهو المظهر الأعلى لخضوع الروح لهذا الخالق المدبّر .
و الصوم إمساك عن شهوات و لذائذ ، وذلك تعبّد للجسد ، ولكن لا يؤتي ثمرته الصحيحة حتى يقترن بالخضوع الروحي للأمر العظيم . .
وليس أثر الصوم في الروح وأثر الصوم في الجسد هو هذا التطهير المعنوي الصحيح .
نعم ، ليست هذه فقط هي فائدة الصوم ، فله فوائد بدنيه يوضحها علم الطب ، وله فوائد روحية كبيرة يشرحها علم الأخلاق 4 .

  • 1. a. b. c. d. e. f. g. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 222، الصفحة: 35.
  • 2. القران الكريم: سورة ص (38)، الآية: 71 و 72، الصفحة: 457.
  • 3. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 85، الصفحة: 61.
  • 4. كتاب ” من أشعة القرآن ” تحت عنوان : الطهارة و التوبة للشيخ محمد أمين زين الدين .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى