تيقّن الإمام (عليه السّلام) من أن بني اُميّة سيهجمون عليه بين لحظة واُخرى ، وأنّ الحرب واقعة لا مفرّ منها ، وهي حرب غير متكافئة من جميع الوجوه ، وأن مصيره ومصير مَن يبقى معه سيكون القتل لا محالة . ورأى الإمام أنّ واجبه أن يرفع الحرج عن نفسه ، وأن يعطي أصحابه الفرصة لإعادة النظر في مواقفهم النبيلة قبل أن يبدأ القتال .
وفي مساء اليوم السابق ليوم عاشوراء جمع الإمام (عليه السّلام) أصحابه وخطب فيهم الخطبة التالية : (( اُثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السراء والضراء . اللّهمَّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين .
أمّا بعد , فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً .
ألا وإنّي لأظن يوماً لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم , فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ، ليس عليكم حرج مني ولا ذمام , هذا الليل غشيكم فاتخذوه جملاً … ))(1) .
وقال ابن أعثم الكوفي : إنّ الإمام (عليه السّلام) قد قال : (( إنّي لا أعلم أصحاباً أصح منكم ولا أعدل ، ولا أفضل أهل بيت ، فجزاكم الله عنّي خيراً . فهذا الليل قد أقبل فقوموا فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كلُّ واحد منكم بيد صاحبه , أو رجل من إخوتي , وتفرّقوا في سواد الليل ، وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنهم لا يطلبون غيري ، ولو
أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم ))(2) .
وقال المجلسي : إنّ الإمام (عليه السّلام) قد قال : (( اللّهمَّ إني لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي ، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي ، وقد نزل بي ما ترون ، وأنتم في حلٍّ من بيعتي ، ليست في أعناقكم بيعة ، ولا لي عليكم ذمة . وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً , وتفرّقوا في سواده ؛ فإن القوم إنما يطلبوني ، ولو ظفروا بي لذُهلوا عن طلب غيري ))(3) .
وفي رواية عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السّلام) أن الإمام الحسين (عليه السّلام) قد قال : (( إنّ هؤلاء يريدوني دونكم ، ولو قتلوني لم يُقبلوا إليكم ، فالنجاة النجاة ! وأنتم في حلٍّ ؛ فإنكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلكم ))(4) .
وفي رواية اُخرى : عرض الإمام الحسين (عليه السّلام) على أهله ومَن معه أن يتفرّقوا عنه , ويجعلوا الليل جملاً , وقال : (( إنّ القوم يطلبونني وقد وجدوني ، وما كانت كتبُ مَن كتب إليَّ إلاّ مكيدة لي ، وتقرباً إلى ابن معاوية بي ))(5) .
وفي رواية أنّ الإمام (عليه السّلام) قد قال : (( اعلموا أنكم خرجتم معي لعلمكم أني أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم ، وقد انعكس الأمر ؛ لأنهم قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله . والآن ليس يكن لهم مقصدٌ إلاّ قتلي وقتل مَن يجاهد بين يدي ، وسبي حريمي بعد سلبهم .
وأخشى أنكم لا تعلمون , أو تعلمون وتستحيون ، والخداع عندنا أهل البيت محرّم ؛ فمَن كره منكم ذلك فلينصرف ، فالليل ستير ، والسبيل غير خطير ، والوقت ليس بهجير ، ومَن واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان ، نجيّاً من غضب الرحمن ، وقد قال جدي : ولدي حسين يُقتل بطفِّ كربلاء غريباً وحيداً ، عطشانَ فريداً ، مَن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم ، ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة )) .
قالت سكينة : فوالله ما أتمَّ كلامه إلاّ وتفرّق القوم من عشرة وعشرين , فلم يبق معه إلاّ واحد وسبعون رجلاً ، فنظرت إلى أبي منكساً رأسه , فخنقتني العبرة , فخشيت أن يسمعني ، ورفعت طرفي إلى السماء وقلت : اللّهمَّ إنهم خذلونا فاخذلهم … فرأتني عمتي اُمّ كلثوم وقالت : ماذا دهاك يا بنتاه ؟!
فأخبرتها الخبر ، فصاحت : وا جداه ! وا عليّاه ! وا حسناه ! وا حسيناه ! وا قلة ناصراه ! أين الخلاص من الأعداء ؟ ليتهم يقنعون بالفداء …
فسمع أبي ذلك ، فأتى إلينا يعثر في أذياله ودموعه تجري , وقال : (( ما هذا البكاء ؟ )) .
فقالت : يا أخي , ردّنا إلى حرم جدنا .
فقال الإمام (عليه السّلام) : (( يا اُختاه , ليس إلى ذلك سبيل )) .
قالت : أجل , ذّكرهم محل جدك وأبيك وأخيك .
فقال الإمام (عليه السّلام) : (( ذّكرتهم فلم يذكروا ، ووعظتهم فلم يتّعظوا ، ولم يسمعوا قولي ، فما لهم غير قتلي سبيلاً ، ولا بدّ أن تروني على الثرى جديلاً ، لكن اُوصيكنّ بتقوى الله ربّ البرية ، والصبر على البلية ، وكظم نزول الرزية , وبهذا وعد جدُّكم ، ولا خُلف لما وعد . ودّعتكم إلهي الفرد الصمد ))(6) .
وروى البحراني أنّ الإمام (عليه السّلام) قد قال : (( يا أهلي وشيعتي , اتخذوا هذا الليل جملاً لكم ، وانجوا بأنفسكم ؛ فليس المطلوب غيري ، ولو قتلوني ما فكّروا فيكم ، فانجوا رحمكم الله , وأنتم في حلٍّ وسعة من بيعتي , وعهدي الذي عاهدتموني ))(7) .
وقال الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( يا بني عقيل , حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا أذنت لكم )) .
جواب الأهل
قال العباس بن علي : لِم نفعل ذلك ؟! ألِنبقى بعدك ! لا أرانا الله ذلك أبداً . وبمثل هذا أجابه إخوته وأبناؤه , وبنو أخيه الحسن , وابنا عبد الله بن جعفر محمّد وعبد الله .
وقال بنو عقيل : فما يقول الناس ؟! يقولون : إنّا تركنا شيخنا وسيدنا , وبني عمومتنا خير الأعمام , ولم نرمِ معهم بسهم , ولم نطعن معهم برمح , ولم نضرب معهم بسيف , ولا ندري ما صنعوا . لا والله لا نفعل , ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا , ونقاتل معك حتّى نرد موردك ؛ فقبّح الله العيش بعدك .
جواب الأصحاب(8)
قام مسلم بن عوسجة الأسدي فقال : أنحن نخلّي عنك ولمّا نعذر الله في أداء حقك ؟! أما والله حتّى أكسر في صدورهم رمحي , وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي , ولا اُفارقك , ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك .
وتكلّم زهير بن القين وبقية الأصحاب بكلام مشابه(9) .
الإمام (عليه السّلام) يطلعهم على النتائج
قال الإمام (عليه السّلام) : (( إنكم تُقتلون غداً , لا يفلت منكم رجل ))(10) .
فقالوا : الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك , وشرّفنا بالقتل معك .
فقال الإمام (عليه السّلام) : (( جزاكم الله خيراً )) . ودعا لهم بخير , فأصبح وقُتل وقُتلوا معه أجمعون كما قال .
وهكذا جعل الإمام (عليه السّلام) أهل بيته وأصحابه على بيّنة من الأمر ,
ووضع الاُمور بنصابها الصحيح ؛ فأماط الحرج عن نفسه , وأتاح الفرصة أمام الإيمان العجيب لأهله وأصحابه ليتألّق ببهاء .
ودخل الإمام (عليه السّلام) خيمة اُخته زينب , فقالت له : [هل] استعلمت من أصحابك نياتهم ؛ فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة ؟
فقال الإمام (عليه السّلام) : (( والله , لقد بلوتهم , فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس , يستأنسون بالمنية استئناس الطفل إلى محالب اُمّه ))(11) .
ــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 315 , والإرشاد للمفيد / 231 ، والكامل في التاريخ 1 / 556 , والعوالم 17 / 243 , وأعيان الشيعة 1 / 600 ، ووقعة الطف / 197 .
(2) الفتوح لابن أعثم 5 / 105 ، وتاريخ الطبري 3 / 315 ، والكامل لابن الأثير 2 / 559 ، وأعيان الشيعة 1 / 600 , ووقعة الطفِّ / 197 .
(3) راجع بحار الأنوار للمجلسي 44 / 315 .
(4) بحار الأنوار 45 / 89 .
(5) أنساب الأشراف 3 / 185 .
(6) الدمعة الساكبة 4 / 271 ، وأسرار الشهادة / 268 ، وناسخ التواريخ 2 / 160 , والموسوعة / 399 ـ 400 .
(7) الموسوعة / 401 .
(8) الإرشاد للمفيد , وتاريخ الطبري 3 / 315 , والكامل في التاريخ 2 / 559 , والعوالم 17 / 244 , ووقعة الطفِّ / 198 .
(9) الإرشاد / 231 , وتاريخ الطبري 3 / 315 , والكامل في التاريخ 2 / 559 , والعوالم 17 / 244 , ووقعة الطفِّ / 198 .
(10) بحار الأنوار 44 / 298 .
(11) الدمعة الساكبة / 325 .
المصدر: http://h-najaf.iq