إسئلنا

نبي الله إبراهيم (ع)…

نص الشبهة: 

فإن قيل أليس قد حكى الله تعالى عن إبراهيم (ع) قوله إذ قال لقومه:﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾وظاهر هذا القول يقتضي أنه تعالى خلق أعمال العباد، فما الوجه فيما وما عذر إبراهيم عليه السلام في إطلاقه؟.

الجواب: 

قلنا من تأمل هذه الآية حق التأمل، علم أن معناها بخلاف ما يظنه المجبرة، لأن قوله تعالى خبر عن إبراهيم (ع) بأنه غير قومه بعبادة الأصنام واتخاذها آلهة من دون الله تعالى، بقوله: ﴿ … أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴾ 1، وإنما أراد منحوت وما حمله النحت دون عملهم الذي هو النحت، لأن القوم لم يكونوا يعبدون النحت الذي هو فعلهم في الأجسام، وإنما كانوا يعبدون الأجسام أنفسها.

ثم قال: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ 2. وهذا الكلام لا بد من أن يكون متعلقا بالأول ومتضمنا لما يقتضي المنع من عبادة الأصنام، ولا يكون بهذه الصفة إلا والمراد بقوله: وما تعملون الأصنام التي كانوا ينحتونها. فكأنه تعالى قال: كيف تعبدون ما خلقه الله تعالى كما خلقكم.
وليس لهم أن يقولوا إن الكلام الثاني قد يتعلق بالكلام الأول على خلاف ما قدرتموه، لأنه إذا أراد أن الله خلقكم وخلق أعمالكم، فقد تعلق الثاني بالأول، لأن من خلقه الله لا يجوز أن يعبد غيره. وذلك أنه لو أراد ما ظنوه، لكفى أن يقول الله تعالى: والله خلقكم. ويصير ما ضمنه إلى ذلك من قوله: ﴿ … وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ 2لغوا ولا فائدة فيه، ولا تعلق له بالأول ولا تأثير له في المنع من عبادة الأصنام. فصح أنه أراد ما ذكرناه من المعمول فيه، ليطابق قوله: ﴿ … أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴾ 1.
فإن قالوا هذا عدول عن الظاهر، لقوله تعالى: ﴿ … وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ 2لأن هذه اللفظة لا تستعمل على سبيل الحقيقة إلا في العمل دون المعمول فيه. ولهذا يقولون: أعجبني ما تعمل وما تفعل، مكان قولهم: أعجبني عملك وفعلك. قيل لهم: ليس نسلم لكم إن الظاهر ما ادعيتموه، لأن هذه اللفظة قد تستعمل في المعمول فيه، والعمل على حد واحد. بل استعمالها في المعمول فيه أظهر وأكثر. ألا ترى أنه تعالى قال في العصا ﴿ … تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ 3وفي آية أخرى: ﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا … ﴾ 4.
ومعلوم أنه لم يرد أنها تلقف أعمالهم التي هي الحركات واعتمادات، وإنما أراد أنها تلقف الحبال وغيرها مما حله الإفك. وقد قال الله تعالى: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ … ﴾ 5فسمى المعمول فيه عملا.
ويقول القائل في الباب أنه عمل النجار، ومما يعمل النجار، وكذلك في الناسج والصايغ. وههنا مواضع لا يستعمل فيها (ما) مع الفعل إلا والمراد بها الأجسام دون الأعراض التي هي فعلنا. لأن القائل إذا قال: أعجبني ما تأكل وما تشرب وما تلبس، لم يجز حمله إلا على المأكول والمشروب والملبوس دون الأكل والشرب واللبس.
فصح أن لفظة (ما) فيما ذكرناه أشبه بأن تكون حقيقة، وفيما ذكروه أشبه بأن تكون مجازا. ولو لم يثبت فيها إلا أنها مشتركة بين الأمرين، وحقيقة فيهما، لكان كافيا في إخراج الظاهر من أيديهم، وإبطال ما تعلقوا به. وليس لهم أن يقولوا أن كل موضع استعملت فيه لفظة (ما) مع الفعل، وأريد بها المفعول فيه، إنما علم بدليل، والظاهر بخلافه.
وذلك أنه لا فرق بينهم في هذه الدعوى وبين من عكسها، فادعى أن لفظة (ما) إذا استعملت مع الفعل وأريد بها المصدر دون المفعول فيه كانت محمولة على ذلك بالدليل، وعلى سبيل المجاز. والظاهر بخلافه، على أن التعليل وتعلق الكلام الثاني بالأول على ما بيناه أيضا ظاهر، فيجب أن يكون مراعى.
وقد بينا أيضا أنه متى حمل الكلام على ما ظنوه لم يكن الثاني متعلقا بالأول ولا تعليلا فيه، والظاهر يقتضي ذلك.
فقد صار فيما ادعوه عدول عن الظاهر الذي ذكرناه في معنى الآية، فلو سلم ما ادعوه من الظاهر في معنى اللفظة معه لتعارضتا، فكيف وقد بينا أنه غير سليم ولا صحيح ؟. وبعد: فإن قوله: ﴿ … وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ 2لا يستقل بالفائدة بنفسه، ولا بد من أن يقدر محذوف، ويرجع إلى (ما) التي بمعنى (الذي)، وليس لهم أن يقدروا الهاء ليسلم ما ادعوه بأولى منا إذا قدرنا لفظة فيه، لأن كلا الأمرين محذوف، وليس تقدير أحدهما بأولى من الآخر، إلا بدليل هذا.
على أنا قد بينا أن مع تقدير الهاء يكون الكلام محتملا لما ذكرناه، كاحتماله لما ذكروه. ومع تقديرنا الذي بيناه يكون الكلام مختصا غير مشترك، فصرنا بالظاهر أولى منهم، وصار للمعنى الذي ذهبنا إليه الرجحان على معناهم.
على أن معنى الآية والمقصود منها يدلان على ما ذكرناه، حتى أنا لو قدرنا ما ظنه المخالف لكان ناقضا للغرض في الآية ومبطلا لفايدتها، لأنه تعالى خبر عن إبراهيم (ع) بأنه قرعهم ووبخهم بعبادة الأصنام، واحتج عليهم بما يقتضي العدول عن عبادته.
ولو كان مراده بالآية ما ظنوه من أنه تعالى خلقهم وخلق أعمالهم، وقد علمنا أن عبادتهم للأصنام من جملة أعمالهم، فكأنه قال الله تعالى: والله خلقكم وخلق عبادة أصنامكم. لوجب أن يكون عاذرا لهم ومزيلا للوم عنهم، لأن الانسان لا يذم على ما خلق فيه ولا يعاتب ولا يوبخ. وبعد فلو حملنا الآية على ما توهموه، لكان الكلام متناقضا من وجه آخر، لأنه قد أضاف العمل إليهم بقوله ﴿ … وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ 2. وذلك يمنع من كونه خلقا لله تعالى، لأن العامل للشئ هو من أحدثه وأخرجه من العدم إلى الوجود.
والخلق في هذا الوجه لا يفيد إلا هذا المعنى، فكيف يكون خالقا ومحدثا لما أحدثه غيره وعمله ؟ على أن الخلق إذا كان هو التقدير في اللغة، فقد يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا كان مقدرا له ومدبرا. ولهذا يقولون خلق الأديم فيمن قدره ودبره، وإن كان ما أحدث الأديم نفسه. فلو حملنا قوله: ﴿ … وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ 2على أفعالهم دون ما فعلوا فيه من الأجسام، لكان الكلام على هذا الوجه صحيحا.
ويكون المعنى: والله دبركم ودبر أعمالكم. وإن لم يكن محدثا لها وفاعلا. وكل هذه الوجوه واضح لا إشكال فيه بحمد الله تعالى ومنه 6.

  • 1. a. b. القران الكريم: سورة الصافات (37)، الآية: 95، الصفحة: 449.
  • 2. a. b. c. d. e. f. القران الكريم: سورة الصافات (37)، الآية: 96، الصفحة: 449.
  • 3. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 117، الصفحة: 164.
  • 4. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 69، الصفحة: 316.
  • 5. القران الكريم: سورة سبإ (34)، الآية: 13، الصفحة: 429.
  • 6. تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد مرتضى علم الهدى، دار الأضواء: 61 ـ 65.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى