لا يكتمل الحديث عن الثقافة دون الاقتراب من تحديد أنماط علاقتها بالسياسة. العلاقة التي لا ينفك الحديث عنها قديماً وحديثاً، في معظم أو جميع الكتابات التي عالجت موضوع الثقافة، أو التي حاولت تكوين رؤية أو فكرة عنها. ودائماً كان الباعث موجوداً في الحديث عن هذه العلاقة، لكنه باعث يتغير ويتجدد من زمن إلى آخر، وتتغير معه صورته وقوته، وذلك لشدة التعقيد والالتباس الذي أصاب هذه العلاقة، وشدة الجدل والحراك فيها. ومع أنّ الكتابات التي تُصنف على هذا المجال، قد توسّعت في الحديث عن هذه العلاقة وتراكمت، إلا أنها لا تجزم في التوصل لنظرية ثابتة تساهم في ضبط هذه العلاقة بين الثقافة والسياسة، وفي السيطرة عليها وتحريكها ضمن قواعد وأصول لا تحيد عنها أو تخرج عليها. ولم أجد بين هذه الكتابات التي تمكنت من الاطلاع عليها، نظرية يمكن الرجوع إليها في هذا الشأن، أو نظرية يُشار إليها وتُتابع باهتمام. كما لم أجد بين الكتّاب المشتغلين في حقل الثقافة والدراسات الثقافية، من يدعي أنه صاحب نظرية في هذا المجال. وما وجدته كان مُخيِّباً بعض الشيء، فتوماس إليوت خصّص فصلاً في كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة)، حول الثقافة والسياسة، ولم يأت بما هو جدير بالتأمل والنظر، بل كان ضحلاً وقليل الجدوى. وهكذا الحال مع لويس دوللو الذي خصص فصلاً بعنوان: الثورات الثقافية في القرن العشرين، في كتابه (الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية)، واعتبر أن العلاقة بين الثقافة والسياسة هي أولى هذه الثورات، التي سببت حسب رأيه اضطرابات في الثقافة، وفي طرق اكتسابها، وغيرت النظرة إلى الثقافة بكاملها. مع ذلك فإنه حين يتحدث عن العلاقة بين الثقافة والسياسة يكون مملا وشديد العمومية، ولا يقترب كثيراً من جوهر هذه العلاقة، أو من مناطق وحدود النزاع فيها. إلى جانب كتابات أخرى، لم تُظهر تميزاً مهمًّا حول هذه العلاقة. وليست المشكلة بالتأكيد في وجود النظرية أو عدمها، النظرية التي تضبط أو توازن أو تفصل بين مجال الثقافة ومجال السياسة. ولعل عدم وجود مثل هذه النظرية، يكشف عن مدى الصعوبة التي تعترض بناء نظرية في هذا الشأن يمكن الالتزام بها، والاحتكام والرجوع إليها. ولا أظن أن هذه المسألة كانت غائبة عن الأذهان، أو بعيدة عن الإدراك والخيال، وإنما لعدم تركيز الاهتمام نحو هذه المسألة، بالشكل الذي يجعل منها موضع اختصاص. ولهذا لم يُعرف بين الكتاب والباحثين من استحوذت هذه المسألة على اهتمامه، وعُرف بهذا الاهتمام وتميز به عن أقرانه، وقدّم نظرية يمكن أن تكون مرجعاً في النظر لهذه المسألة. والمطروح في هذا الشأن هو مجرد أفكار وتصورات، لا تكاد تتجاوز إطار الجدل والسجال، الذي وقفنا عنده ولم نبرحه، بدل أن يكون هذا الجدل والسجال معبراً عن مرحلة ما قبل النظرية، وممهّداً ومخصّباً لها، ومحفّزاً على السعي نحوها. لا بمعنى أن النظرية تأتي كبديل عن الجدل والسجال، ولإطفائه وإخماده، وإنما بمعنى أنها تأتي كتطوير لذلك الجدل والسجال، والارتقاء المعرفي به، وإعطائه درجة من الوضوح والثبات، وإخراجه من دائرة القلق والتطاحن، الذي قد ينتهي إلى حالة من الفوضى والاضطراب. كما أن من الصعب تحديد بداية لتاريخ هذه الإشكالية بين الثقافة والسياسة، والتي دائماً ما تصور في الكتابات الثقافية على أنها إشكالية قديمة، دون تحديد لهذا القدم من حيث العصر والزمان. بمعنى في أي عصر أو زمان بدأت هذه الإشكالية، وعرفت ودخلت مجال التداول، وتحددت بهذا الوضع، وبهذه الأوصاف والتسميات. والقدر الذي يمكن أن يعرف، ويمكن الحديث عنه في شأن هذه الإشكالية، هو أن السياسة هي التي اقتحمت على الثقافة مجالها، ويذهب إلى هذا الرأي لويس دوللو الذي يبدو له كما يقول أن امتداد السياسة إلى الحياة الثقافية هو الذي ظهر في بداية الأمر، وقد أدّى ذلك إلى تدخل السلطات العامة في القضايا التي لم يكن لها عليها سلطان حتى ذلك الحين. وحتى هذا الامتداد والاقتحام من السياسة على الثقافة، من الصعب تحديده بوقت أو بتاريخ محدد، ولا بعصر أو زمان1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 11 مايو 2005م، العدد 14137.