نشأة نصير الدين الطوسي قدس سره
أبو جعفر نصير الدين ، محمد بن محمد بن الحسن الطوسي قدس سره ، ويصفونه بالقمي ويصفون أولاده بالدستجردي ، لأن والده من قرية في دَسْتَجِرْد ، وهي تابعة لولاية قم 1 .
ولد في طوس سنة 597 ، حيث كان يسكن والده الفقيه المحدث محمد بن الحسن فتربى في حجره ودرس عليه الفقه والحديث ، ودرس الفلسفة والرياضيات على خاله نور الدين علي بن محمد الشيعي ، ودرس على كمال الدين محمد الحاسب . أما وفاته فكانت في بغداد يوم الغدير سنة 672 ، ودفن في مشهد الكاظمين عليهما السلام في قبر كان أعده الخليفة الناصر العباسي لنفسه فلم يدفنوه فيه 2 .
ويظهر أنه قدس سره نبغ في علوم عصره من مطلع شبابه في طوس ، ثم هاجر الى نيشابور مواصلاً طلب العلم عند كبار علمائها 3 .
وكان في نيشابور في العشرين من عمره عندما اجتاح المغول منطقة خراسان في غزوهم الأول سنة 617 ، وأعملوا سيوفهم قتلاً عاماً في المسلمين ، ودمروا المدن التي احتلوها ، فهرب الناس من بطشهم الى القرى والمناطق البعيدة . وكان أكبر سبب في هلع الناس وفرارهم هروب سلطان السلاطين غياث الدين خوارزم شاه ، حاكم إيران وما وراء النهر ، فقد هرب بقسم من جيشه هروباً ذليلاً ، فطارده المغول من بلد الى بلد ، حتى وصل الى البحر ثم اختفى ، وقيل اختبأ في قلعة شاهقة في الهند !
كما هرب أهل نيشابور قبل أن يصلوا اليها : ( كان الطوسي حائراً لا يدري أين يلجأ ولا بمن يحتمي ، وكان المحتشم ناصر الدين عبد الرحيم بن أبي منصور متولي قهستان ، قد ولي السلطة على قلاع الإسماعيليين في خراسان من قبل علاء الدين محمد زعيم الإسماعيليين آنذاك ، وكان ناصر الدين هذا من أفاضل زمانه وأسخياء عهده وكان يعني بالعلماء والفضلاء ، وكانت شهرة الطوسي قد وصلت اليه وعرف مكانته في العلم والفلسفة والفكر ، وكان من قبل راغباً في لقياه ، فأرسل يدعوه إلى قهستان ، وصادفت الدعوة هوى في نفس المدعو الشريد ، ورأى أنه وجد المأمن الذي يحميه فقبل الدعوة وسافر إلى قهستان ) 4 .
أقول : ذهب بعضهم الى أن نصير الدين قدس سره أجبر على الذهاب الى قهستان ، وأن حاكمها الإسماعيلي بعث اليه بعض رجاله فأسروه وأتوه به ، وكان الحكام يحرصون على من هو طبيب ومنجم وحكيم . ففي أعيان الشيعة : 9 / 415 : ( جاء في درة الإخبار أن أوامر قد صدرت إلى فدائيي الإسماعيليين باختطاف الطوسي وحمله إلى قلعة ألَمُوت وأن الفدائيين ترصدوه في أطراف بساتين نيسابور وطلبوا اليه مرافقتهم إلى ألَمُوت وأنه امتنع فهددوه بالقتل وأجبروه على مرافقتهم ، وأنه كان يعيش هناك سنواته شبه أسير أو سجين . وكذلك فإن سرجان ملكم في تاريخه قد أيد إرغامه على السفر إلى ألَمُوت وأن كان قد ذكر هذا الإرغام برواية تختلف عن رواية درة الإخبار ) . انتهى .
وقد استشهد أصحاب هذا الرأي بما كتبه قدس سره في آخر شرح الإشارات / 636 ، حيث قال : ( رقمت أكثرها في حال صعب لا يمكن أصعب منها حال ورسمت أغلبها في مدة كدورة بال ، بل في أزمنة يكون كل جزء منها ظرفاً لغصة وعذاب أليم وندامة وحسرة عظيم ، وأمكنة توقد كل آن فيها زبانية نار جحيم ويصب من فوقها حميم . ما مضى وقت ليس عيني فيه مقطراً ولا بالي مكدراً ، ولم يجئ حين لم يزد ألمي ولم يضاعف همي وغمي . نعم ما قال الشاعر بالفارسية :
بلا أنكشترى ومن نكينم . . . بكردا كرد خود جندانكه بينم
وما لي ليس في امتداد حيأتي زمان ليس مملواً بالحوادث المستلزمة للندامة الدائمة والحسرة الأبدية ، وكان استمرار عيشي أمير جيوشه غموم وعساكره هموم . اللهم نجني من تزاحم أفواج البلاء وتراكم أمواج العناء ، بحق رسول المجتبن ووصيه المرتضى ، وفرج عني ما أنا فيه بلا إله إلا أنت وأنت أرحم الراحمين ) انتهى .
لكن لا يمكن لخبير بالكلام أن يقبل أن هذا النص الركيك من كلام المحقق الطوسي قدس سره ، صاحب الأسلوب البليغ والعبارات المليئة الغنية ، التي شغلت العلماء بشروحها وما زالت ! مضافاً الى أنه كلامٌ لا يتناسب ما يكتبه المؤلفون في ختام كتبهم ، فليس فيه ذكر لتاريخ انتهاء التأليف ولا إسم مؤلفه ! وغاية ما فيه قوله ( رقمت أكثرها في حال صعب ) ورقمتُ تنطبق على الناسخ أيضاً ، فالظاهر أنه كلامه لا كلام المؤلف !
وفي قهستان ألف نصير الدين قدس سره لحاكمها المحتشم ناصر الدين كتاباً في الأخلاق سماه ( أخلاق ناصري ) وعدداً من الكتب في علم الفلك والرياضيات والطب ، ثم طلبه علاء الدين محمد زعيم الإسماعيليين من واليه المحتشم فذهب به اليه في قلعة ألَمُوت ، فاستبقاه علاء الدين عنده حتى توفي ، ثم استبقاه ابنه الأكبر ركن الدين خورشاه حتى استسلم مع أعوانه لهلاكو سنة 651 ، فقَتَل هولاكو الزعماء المستسلمين واستبقى نصير الدين لنفسه لأنه طبيب ومنجم ، يحرص الحكام أن يكون عندهم مثله ولا بد أن يكون هولاكو سمع باسمه ! 4 .
وهكذا قَدَّرَ الله لنصير الدين رحمه الله أن يكون مع هولاكو في حملته على بغداد ، فبدأ يُخطط للتأثير على هذا الطاغية وتخفيف طغيانه وبطشه ما استطاع ، فكان هولاكو يأنس بكلامه وينفذ نصائحه أحياناً ، من ذلك أنه استطاع حفظ ما بقي من مكتبات بغداد ومدارسها ، فقد جعله هولاكو مسؤولاً عنها وعن كل الأوقاف ، كما قبل وساطته بعدم قتل بعض العلماء كابن العلقمي وابن أبي الحديد ، لكنه لم يستطع إنقاذ مشهد الكاظمين عليه السلام ومحلات الشيعة من نهب وتخريب الجنود الوحوش ! لكن مع ذلك وطد علاقته مع هلاكو وأولاده حتى أسلم بعضهم ، كما يأتي !
من إيمان نصير الدين الطوسي وأخلاقه قدس سره
قال المناوي في فيض القدير : 5 / 412 : ( لو كان الفحش خلقاً لكان شرَّ خلق الله : وقد اتفقت الحكماء على تقبيح الفحش والنطق به ، ووقع للحكيم نصير الدين الطوسي أن إنساناً كتب إليه ورقة فيها يا كلب يا ابن الكلب ! فكان جوابه : أما قولك كذا فليس بصحيح ، لأن الكلب من ذوات الأربع ، وهو نابح طويل الأظفار ، وأنا منتصب القامة ، بادي البشرة عريض الأظفار ، وناطق ضاحك ، فهذه فصول وخواص غير تلك الفصول والخواص ، وأطال في نفض كل ما قاله برطوبة وحشمة وتأن ، غير منزعج ، ولم يقل في الجواب كلمة فاحشة ) !
***
قال الماحوزي في كتاب الأربعين / 98 : ( روى ثقة الإسلام في الكافي عن زرارة عن الباقر عليه السلام أنه قال : أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحجَّ جميع عمره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حق في ثوابه ، ولا كان من أهل الايمان ) .
وقد نظم هذا المعنى العلامة الفيلسوف أفضل المتأخرين ورئيس المحققين ، نصير الدين محمد بن محمد الطوسي قدس الله سره وبجنان الخلد سَرَّه ، في هذه القطعة :
لو أن عبـداً أتى بالصالحاتِ غداً *** وودَّ كـل نبيٍّ مـرسـلٍ وولي
وصام ما صام صواماً بلا ضـجر *** وقـام ما قام قوامـاً بلا مـلل
وحج ما حجَّ من فرض ومن سُنَنٍ *** وطاف ما طاف حافٍ غيرَ مُنتعل
وطار في الجوِّ لا يـأوي إلى أحد *** وغاص في البحر مأموناً من البلل
يكسو اليتامى من الديباج كُلِّهِمُ *** ويُطـعم الجائعـينَ البُرَّ بالعَـسَل
وعاشَ في النـاس آلافاً مـؤلفة *** عار من الذنب معصوماً من الزلل
ما كان ذلك يـوم الحشر ينفعه *** إلا بحُـبِّ أمير المـؤمنين عـلي
والذريعة : 22 / 237 ، وأعيان الشيعة : 9 / 418 ، ومفاتيح الرحمة : 2 / 46 ، والأربعون في حب علي عليه السلام : 3 / 11 ، والكنى والألقاب : 2 / 141 ، وقد نسبها بعضهم الى الخليفة الناصر العباسي مثل ابن جبر في نهج الإيمان / 459 ، وابن عقيل في النصائح الكافية / 109 . وفي روايتهم تفاوت يسير في بعض ألفاظها .
***
وفي تأويل الآيات : 1 / 190 : ( سئل عن الفرقة الناجية فقال : بحثنا عن المذاهب وعن قول رسول الله’ : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية والباقي في النار . فوجدنا الفرقة الناجية هي الإمامية لأنهم باينوا جميع المذاهب في أصول العقائد وتفردوا بها ، وجميع المذاهب قد اشتركوا فيها ، والخلاف الظاهر بينهم في الإمامة . فتكون الإمامية الفرقة الناجية ، وكيف لا وقد ركبوا فلك النجاة الجارية وتعلقوا بأسباب النجوم الثابتة والسارية ، فهم والله أهل المناصب العالية ، وأولوا الأمر والمراتب السامية ، وهم غداً ﴿ … فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ 5، ويقال لهم : ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ 6. والصلاة والسلام على الشموس المشرقة والبدور الطالعة في الظلمات الداهية ، محمد المصطفى وعترته الهادية صلاة دائمة باقية ) .
شبه نصير الدين الطوسي بالحسين بن روح قدس سره
نلاحظ شبهاً كبيراً بين نصير الدين الطوسي عليه السلام وبين السفير أبي القاسم الحسين بن روح قدس سره ، في عمق الشخصية والمتانة وأسلوب العمل . وكذلك في الدقة والتقوى ، وعلاقاتهما بحكام عصريهما ، ومكانتهما الجليلة عندهم !
أما الحسين بن روح قدس سره فهو معدٌّ من رب العالمين عز وجل لدور كبير عظيم ليكون سفيراً عن وليه الأعظم الإمام المهدي أرواحنا فداه ، ويقوم بما يأمره به من أعمال لم نكتشف الى الآن إلا قليلاً منها ، وقد كتبتُ شيئاً من سيرته في المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي .
وأما نصير الدين الطوسي قدس سره فهو عالمٌ مرجع نابغ ، قدَّر له الله تعالى دوراً عظيماً ، أدَّاه حسب اجتهاده ظاهراً ، لكني أحدس بأنه كان يتلقى في خطوط عمله توجيهات الإمام المهدي أرواحنا فداه ! ومن الطبيعي أن ذلك يحتاج الى دليل أقوى من الحدس وإن كان قوياً . لكن من مؤشراته شهادة العلامة الحلي قدس سره التي تقدمت في حقه ، قال : ( وكان هذا الشيخ أفضل أهل عصره في العلوم العقلية والنقلية ، وله مصنفات كثيرة في العلوم الحكمية والأحكام الشرعية على مذهب الإمامية ، وكان أشرف من شاهدناه في الأخلاق ، نور الله ضريحه ) . فإن أفعلي التفضيل من العلامة قدس سره يدلان على مقام مميز بين العلماء والأتقياء ، عالٍ جداً ، وخاصٍّ جداً .
ومنها : توجيهاته قدس سره العملية لطالب العلم في كتابه آداب المتعلمين ، وكتبه الأخلاقية والعرفانية ، بمثل قوله : ( ينبغي لطالب العلم أن يفرغ يومه للكتابة والمطالعة والفكر والحفظ ، فيجد بذلك بركة عظيمة ، وأن يفعل أفعال الخير كالمواظبة على الصلاة والصيام في كل أسبوع يوماً أو يومين ، والصدقة ولو بفلس واحد ، ويتجنب عن الشر والخبائث ، على اختلاف أنواعها ) 7 .
وكذلك شهادة المحقق الكركي قدس سره في حقه ، قال في الخراجيات / 74 : ( ومن تأمل في كثير من أحوال الكبراء من علمائنا السالفين مثل السيد الشريف المرتضى علم الهدى وأعلم المحققين من المتقدمين والمتأخرين : نصير الحق والدين الطوسي ، وبحر العلوم ، ومفتي العراق جمال الملة والدين الحسن بن مطهر ، وغيرهم رضوان الله عليهم ، نظر متأمل منصف ، لم يعترضه الشك في أنهم كانوا يسلكون هذا المنهج ويفتحون هذا السبيل ، وما كانوا ليودعوا بطون كتبهم إلا ما يعتقدون صحته ) 8 .
***
شذَّ ابن تيمية فاتَّهم الطوسي قدس سره بالتآمر مع هلاكو !
مع أن الجميع يعرفون أن نصير الدين الطوسي قدس سره كان أسيراً بيد الطاغية هولاكو ، فقد أخذه بعد أن احتل قلاع الإسماعيلية وقتل زعماءهم !
لكن ابن تيمية المعروف بعقدته من الشيعة استغل وجوده مع هولاكو فاتهمه بأنه هو الذي دعاه الى غزو بغداد ، وأشار عليه بقتل الخليفة المستعصم ! وقد خالف ابن تيمية بعض مؤيديه كالذهبي وابن كثير ، ودافعوا عن النصير قدس سره .
قال ابن كثير في النهاية : 13 / 313 : ( النصير الطوسي محمد بن عبد الله الطوسي ، كان يقال له المولى نصير الدين ويقال الخواجا نصير الدين ، اشتغل في شبيبته وحصل علم الأوائل جيداً ، وصنف في ذلك في علم الكلام وشرح الإشارات لابن سينا ، ووزر لأصحاب قلاع الألَمُوت من الإسماعيلية ، ثم وزر لهولاكو وكان معه في واقعة بغداد ، ومن الناس من يزعم أنه أشار على هولاكو خان بقتل الخليفة فالله أعلم ، وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل ، وقد ذكره بعض البغاددة ( أي الحنابلة ) فأثنى عليه وقال : كان عاقلاً فاضلاً كريم الأخلاق ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أعد للخليفة الناصر لدين الله ، وهو الذي كان قد بنى الرصد بمراغة ورتب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء ، وبنى له فيه قبة عظيمة وجعل فيه كتباً كثيرة جداً ، توفي في بغداد في ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة وله خمس وسبعون سنة ، وله شعر جيد قوي . وأصل اشتغاله على المعين سالم بن بدار بن علي المصري المعتزلي المتشيع ، فنزع فيه عروق كثيرة منه حتى أفسد اعتقاده ) . انتهى .
وقال في النهاية : 13 / 281 : ( وفيها ( سنة 662 ) قدم نصير الدين الطوسي إلى بغداد من جهة هولاكو فنظر في الأوقاف وأحوال البلد ، وأخذ كتباً كثيرة من سائر المدارس وحولها إلى رصده الذي بناه بمراغة ، ثم انحدر إلى واسط والبصرة ) .
***
وقد كتب آية الله السيد الميلاني بحثاً بعنوان ( الشيخ نصير الدين الطوسي قدس سره وسقوط بغداد ) وفَنَّدَ فيه اتهام ابن تيمية ، ومما قاله : ( يقول ابن تيمية : هذا الرجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزيراً للملاحدة الباطنية الإسماعيلية في الألَمُوت ، ثم لما قدم الترك المشركون إلى بلاد المسلمين وجاؤوا إلى بغداد دار الخلافة ، كان هذا منجماً مشيراً لملك الترك المشركين هولاكو ، أشار عليه بقتل الخليفة وقتل أهل العلم والدين ، واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا ، وأنه استولى على الوقف الذي للمسلمين ، وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم .
وأنه لما بنى الرصد الذي بمراغة على طريقة الصابئة المشركين ، كان أبخس الناس نصيباً منه من كان إلى أهل الملل أقرب ، وأوفرهم نصيباً من كان أبعدهم عن الملل مثل الصابئة المشركين ومثل المعطلة وسائر المشركين .
ومن المشهور عنه وعن أتباعه الإستهتار بواجبات الإسلام ومحرماته ، لا يحافظون على الفرائض كالصلوات ولا ينزعون عن محارم الله من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات ، حتى أنهم في شهر رمضان يذكر منهم من إضاعة الصلوات وارتكاب الفواحش وشرب الخمور ما يعرفه أهل الخبرة بهم . ولم يكن لهم قوة وظهور إلا مع المشركين الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى ، ولهذا كان كلما قوي الإسلام في المغل وغيرهم من الترك ضعف أمر هؤلاء ، لغرض معاداتهم للإسلام وأهله . . . .
وبالجملة فأمر هذا الطوسي وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف . ومع هذا فقد قيل : إنه في آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوي وبالفقه ونحو ذلك ، فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات والله تعالى يقول : ﴿ … يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ 9.
لكن ما ذكره هذا إن كان قبل التوبة لم يقبل قوله وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض بل من الإلحاد وحده ، وعلى التقديرين فلا يقبل قوله . والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لما كان منجماً للمغل المشركين ، والإلحاد معروف من حاله إذ ذاك ، فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء ، كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق ، من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، ويستحلون المحرمات المجمع على تحريمها كالفواحش والخمر في شهر رمضان ، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وخرقوا سياج الشرائع واستخفوا بمحرمات الدين وسلكوا غير طريق المؤمنين . . . . لكن هذا حال الرافضة دائماً يعادون أولياء الله المتقين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، ويوالون الكفار والمنافقين ) 10 .
ورد عليه السيد الميلاني بأن اتهامه تعصبٌ وافتراءٌ بلا دليل ، واستشهد بنصوص مؤرخين عاصروا سقوط بغداد ، وأولهم ابن الفوطي البغدادي الذي شهد تلك الحادثة وأُسِرَ فيها ، وهو عالم سني حنبلي ، مدحه الذهبي ووصفه بأنه إمام ( تذكرة الحفاظ : 4 / 1493 ، وابن كثير في النهاية : 14 / 106 ) وقد أرُخّ لسقوط بغداد في كتابه الحوادث الجامعة ولم يذكر شيئاً من افتراء ابن تيمية !
ثم قال السيد الميلاني في ابن قيم الجوزية : ( لم يتبع ابن تيمية فقط بل زاد على ما قال شيخه أشياء أخرى أيضاً ! لاحظوا عبارته بالنص عندما يذكر نصير الدين الطوسي قدس سره يقول : نصير الشرك والكفر والإلحاد وزير الملاحدة النصير الطوسي وزير هولاكو ، شفى نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه فعرضهم على السيف حتى شفى إخوانه من الملاحدة ، واشتفى هو فقتل الخليفة المستعصم ، والقضاة ، والفقهاء والمحدثين . . . . واستبقى الفلاسفة والمنجمين ، والطبايعيين والسحرة ، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم وجعلهم خاصته وأولياءه ، ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جل جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ، واتخذ للملاحدة مدارس ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك ، فقال : هي قرآن الخواص وذلك قرآن العوام ، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر ! وتعلم السحر في آخر الأمر فكان ساحراً يعبد الأصنام ) ! انتهى .
ثم بيَّن السيد الميلاني أن سبب اتهامهم للطوسي قدس سره نجاح كتابه ( تجريد الإعتقاد ) الذي نصر به مذهب التشيع المظلوم ، فهو أول كتاب أصَّل بحوث علم الكلام ، وفرض نفسه على الأوساط العلمية والمعاهد ، وصار مرجع البحث والتدريس ، قال : ( حينئذ أصبح الآخرون عيالاً على الخواجة نصير الدين الطوسي قدس سره في علم الكلام والعقائد ، وبتبع كتاب التجريد ألفت كتبهم في العقائد ، وهذا مما يغتاظ منه القوم ) ! ثم نقل إعجاب عدد من علمائهم بالمحقق الطوسي قدس سره .
أقول : ومن مفارقات ابن القيم أنه لخص في شرح قصيدته : 1 / 245 ، ترجمة نصير الدين الطوسي قدس سره من تاريخ ابن شاكر ، واختار في تلخيصه مديحاً قوياً له فقد جاء فيه : ( وأما النصير الطوسي فهو محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الطوسي صاحب الرياضي والرصد ، كان رأساً في علم الأوائل لا سيما في الأرصاد والمجسطي فإنه فاق الكبار . . . وكان حسن الصورة سمحاً كريماً جواداً حليماً حسن العشرة غزير الفضائل ، واختصر المحصل للإمام فخر الدين وهذبه وزاد فيه ، وشرح الإشارات ورد على الإمام فخر الدين في شرحه وقال : هذا جرح وما هو بشرح ! وقال فيه : حررته في عشرين سنة وناقض فخر الدين كثيراً ، ومن تصانيفه التجريد في المنطق ، وأوصاف الأشراف ، وقواعد العقائد والتلخيص في علم الكلام ، وشرح كتاب ثمرة بطليموس ، وكتاب المجسطي ، وشرح مسألة العلم ورسالة الإمامة ، ورسالة إلى نجم الدين الكاتبي في إثبات الواجب ، وحواش على كليات القانون ، وغير ذلك ) . انتهى .
فقد تبنى ما لخصه في مديحه وهو أقوى من نقله كلام ابن شاكر كاملاً ، وأقوى من نقله اتهامات شيخه ابن تيمية دون أن يتبناها بل تركها على عهدة شيخه وذمته .
أما الذهبي فقد خالف اتهامات ابن تيمية بوضوح ، قال السيد الأمين في كتابه : الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي / 129 : ( حتى الذهبي وهو في العصبية مع ابن تيمية فَرَسَا رهان ، حتى الذهبي لم يستطع أن يدعي هذه الدعوى على الطوسي فقال في كتابه : سير أعلام النبلاء : 23 / 181 : فضرب ( هولاكو ) أعناق الكل ورفس المستعصم حتى تلف . وقال في / 182 : ثم جرت له ( هولاكو ) محاورة معه وأمر به وبابنه أبي بكر فرفسا حتى ماتا ) . وحسبنا أن يكون المكذب لابن تيمية هو الذهبي ) ! انتهى .
أقول : وقد خالف الذهبي ابن تيمية حيث ترجم لنصير الدين الطوسي قدس سره في تاريخه : 50 / 113 ، ونقل فيه مديحاً كثيراً ولم يتهمه ، قال : ( محمد بن محمد بن حسن الشيخ نصير الدين أبو عبد الله الطوسي ، الفيلسوف ، كان رأساً في علم الأوائل لا سيما معرفة الرياضي وصنعة الأرصاد فإنه فاق بذلك على الكبار ، قرأ على المعين سالم بن بدران المصري المعتزلي الرافضي وغيره ، وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو ، وكان يطيعه فيما يشير به ، والأموال في تصريفه ، وابتنى بمدينة مراغة قبة ورصداً عظيماً ، واتخذ في ذلك خزانة عظيمة عالية فسيحة الأرجاء وملأها بالكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة ، حتى تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد . وقرر للرصد المنجمين والفلاسفة والفضلاء وجعل لهم الجامكية ( الرواتب ) وكان سمحاً جواداً حليماً حسن العشرة غزير الفضائل جليل القدر ، لكنه على مذهب الأوائل في كثير من الأصول نسأل الله الهدى والسداد . توفي في ذي الحجة ببغداد وقد نيف على الثمانين ويعرف بخواجا نصير .
قال الظهير الكازروني : مات المخدوم خواجا نصير الدين أبو جعفر الطوسي في سابع عشري ذي الحجة ، وشيعه خلائق وصاحب الديوان والكبراء ودفن بمشهد الكاظم . وكان مليح الصورة جميل الأفعال مهيباً عالماً متقدماً سهل الأخلاق متواضعاً كريم الطباع محتملاً ، يشتغل إلى قريب الظهر . ثم طول الكازروني ترجمته وفيها تواضعه وحلمه وفتوته . ثم رأيت في تاريخ تاج الدين الفزاري : حدثني شمس الدين الأيكي أن النصير تمكن إلى الغاية والناس كلهم من تحت تصرفه ، وكان حسن الشكل فصيحاً خبيراً بجميع العلوم . كان يقول : اتفق المحققون على أن علم الكلام قليل الفائدة وأقل المصنفات فيه فائدة كتب فخر الدين ، وأكثرها تخليطاً كتاب المحصل . قال : وأقمت مع شيخنا النصير سبع سنين وصنَّف كتباً عدة ، ومولده بطوس يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى سنة 597 ) . انتهى 11 .
- 1. خاتمة المستدرك : 2 / 426 ، ورياض العلماء : 1 / 235 .
- 2. أعيان الشيعة : 9 / 414 .
- 3. خاتمة المستدرك : 2 / 423 .
- 4. a. b. أعيان الشيعة : 9 / 415 .
- 5. القران الكريم: سورة الحاقة (69)، الآيات: 21 – 23، الصفحة: 567.
- 6. القران الكريم: سورة الحاقة (69)، الآية: 24، الصفحة: 567.
- 7. الذريعة : 1 / 26 .
- 8. ورسائل الكركي : 1 / 270 ، والمكاسب : 2 / 219 ، ونهاية الدراية للسيد الصدر / 31 .
- 9. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 53، الصفحة: 464.
- 10. منهاج السنة : 3 / 445 .
- 11. كيف رد الشيعة غزو المغول (دراسة لدور المرجعين نصير الدين طوسي و العلامة الحلي في رد الغزو المغولي ) ، العلامة الشيخ علي الكوراني العاملي ، مركز الثقافي للعلامة الحلي رحمه الله ، الطبعة الأولى ، سنة 1426 ، ص 117 ـ 129 .