لا ريب في أنّ من منازل هارون : خلافته عن موسى ( عليه السلام ) ، قال تعالى عن لسان موسى يخاطب هارون : ﴿ … اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ 1.
فكان هارون خليفة لموسى ، و علي بحكم حديث المنزلة خليفة لرسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، فيكون هذا الحديث نصّاً في الخلافة و الإمامة و الولاية بعد رسول الله .
و من جملة آثار هذه الخلافة : وجوب الطاعة المطلقة ، و وجوب الانقياد المطلق ، و الطاعة المطلقة و الانقياد المطلق يستلزمان الإمامة و الولاية العامة .
و لا يتوهمنّ أحدٌ بأنّ وجوب إطاعة هارون و وجوب الانقياد المطلق له كان من آثار و أحكام نبوّته ، لا من آثار و أحكام خلافته عن موسى ، حتّى لا تجب الإطاعة المطلقة لعلي ، لأنه لم يكن نبيّاً .
هذا التوهم باطل و مردود ، و إنْ وقع في بعض الكتب من بعض علمائهم ، و ذلك لانّ وجوب الإطاعة المطلقة إنْ كان من آثار النبوّة لا من آثار الخلافة ، إذن لم يثبت وجوب الإطاعة للمشايخ الثلاثة ، لأنهم لم يكونوا أنبياء ، و أيضاً : لم يثبت وجوب الإطاعة المطلقة لعلي في المرتبة الرابعة التي يقولون بها له ( عليه السلام ) ، إذ ليس حينئذ نبيّاً ، بل هو خليفة .
فإذن ، وجوب الإطاعة لهارون كان بحكم خلافته عن موسى لا بحكم نبوّته ، و حينئذ تجب الإطاعة المطلقة لعلي ( عليه السلام ) بحكم خلافته عن رسول الله ، و بحكم تنزيله من رسول الله منزلة هارون من موسى . فالمناقشة من هذه الناحية مردودة .
و إذا ما رجعنا إلى الكتب المعنيّة بمثل هذه البحوث ، لرأينا تصريح علمائهم بدلالة حديث المنزلة على خلافة علي ( عليه السلام ) .
فراجعوا مثلاً كتاب التحفة الاثنا عشرية الذي ألّفه مؤلّفه ردّاً على الشيعة الامامية الاثنا عشرية ، فإنّه يعترف هناك بدلالة حديث المنزلة على الخلافة ، بل يضيف أنّ إنكار هذه الدلالة لا يكون إلاّ من ناصبي و لا يرتضي ذلك أهل السنة .
إنّما الكلام في ثبوت هذه الخلافة بعد رسول الله بلا فصل ، أمّا أصل ثبوت الخلافة لأمير المؤمنين بعد رسول الله بحكم هذا الحديث فلا يقبل الإنكار ، إلاّ إذا كان من النواصب المعاندين لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، كما نصّ على ذلك صاحب التحفة الاثنا عشرية .
يقول صاحب التحفة هذا الكلام و يعترف بهذا المقدار من الدلالة .
إلاّ أنّك لو راجعت كتب الحديث و شروح الحديث لرأيتهم يناقشون حتّى في أصل دلالة حديث المنزلة على الخلافة و الولاية بعد رسول الله ، أي ترى في كتبهم ما ينسبه صاحب التحفة إلى النواصب ، و يقولون بما يقوله النواصب .
فراجعوا مثلاً شرح حديث المنزلة في كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني الحافظ ، و شرح صحيح مسلم للحافظ النووي ، و المرقاة في شرح المشكاة ، تجدوهم في شرح حديث المنزلة يناقشون في دلالة هذا الحديث على أصل الإمامة و الولاية ، و هذا ما كان صاحب التحفة ينفيه عن أهل السنّة و ينسبه إلى النواصب .
أقرأ لكم عبارة النووي في شرح صحيح مسلم ، و نفس العبارة أو قريب منها موجود في الكتب التي أشرت إليها و غيرها أيضاً من الكتب ، يقول النووي 2 : و ليس فيه [ أي في هذا الحديث ] دلالة لاستخلافه [ أي استخلاف علي ] بعده [ أي بعد الرسول ] ، لانّ النبي ( صلى الله عليه و سلم ) إنّما قال لعلي حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك [ أي إنّ هذا الحديث وارد في مورد خاص ] .
يقول : و يؤيّد هذا أنّ هارون المشبّه به لم يكن خليفة بعد موسى ، بل توفي في حياة موسى قبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة على ما هو المشهور عند أهل الأخبار و القصص ، قالوا : و إنّما استخلفه ـ أي استخلف موسى هارون ـ حين ذهب لميقات ربّه للمناجاة ، فكانت الخلافة هذه خلافة موقتة ، و كانت في قضية خاصة محدودة ، و ليس فيها أي دلالة على الخلافة بالمعنى المتنازع فيه أصلاً .
و هل هذا إلاّ كلام النواصب الذي يأبى أن يلتزم به مثل صاحب التحفة ، فينسبه إلى النواصب ؟
و أمّا ما يقوله ابن تيميّة و غير ابن تيميّة من أصحاب الردود على الشيعة الاماميّة ، فسنذكر مقاطع من عباراتهم ، لتعرفوا من هو الناصبي ، و تعرفوا النواصب أكثر و أكثر .
و إلى هنا بيّنا وجه دلالة حديث المنزلة على الخلافة و الإمامة و الولاية بعد رسول الله بالنص ، و أنّ صاحب التحفة لا ينكر هذه الدلالة ، و إنّما يقول بأنّ الدلالة على الإمامة بلا فصل أوّل الكلام ، لان النزاع و الكلام في دلالة الحديث على الإمامة بعد رسول الله مباشرة .
محاولات القوم في ردّ حديث المنزلة
و حينئذ ندخل في الجهة الثالثة من جهات بحثنا عن حديث المنزلة ، أي في المناقشات العلمية ، و في محاولات القوم في ردّ هذا الحديث و إبطاله .
أوّلاً : المناقشات العلمية
و نحن على استعداد تام لقبول أيّ مناقشة إنْ كانت مناقشة علمية ، و على أُسس علمية و قواعد مقرّرة في كيفيّة البحث و المناظرة ، و يتلخّص ما ذكروه في مقام المناقشة في دلالة هذا الحديث في المناقشات الثلاثة التالية :
المناقشة الاُولى
إنّ هذا الحديث لا يدلّ على عموم المنزلة ، و حينئذ تتمّ المشابهة بين علي و هارون بوجه شبه واحد ، و يكفي ذلك في صحّة الحديث ، أمّا أنْ يكون علي نازلاً من رسول الله منزلة هارون من موسى بجميع منازل هارون فلا نوافق على هذا .
المناقشة الثانية
إنّ هذه الخلافة كانت خلافة موقتةً في ظرف خاص ، و زمان محدود ، و في حياة النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، كما كانت خلافة هارون عن موسى في حياة موسى عندما ذهب لمناجاة ربّه ، و كانت تلك الخلافة أيضاً في حياة موسى ، و يؤيّد ذلك موت هارون في حياة موسى ، فأين الخلافة بالمعنى المتنازع فيه ؟
المناقشة الثالثة
إنّ حديث المنزلة إنّما ورد في خصوص غزوة تبوك ، و إنّ رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قال هذا الكلام عندما خرج في غزوة تبوك و ترك عليّاً ليقوم بشؤون أهله و عياله و من بقي في المدينة المنوّرة ، فالقضيّة خاصة و حديث المنزلة إنّما ورد في هذه القضية المعيّنة .
و لا بدّ من الإجابة عن هذه المناقشات واحدة واحدة :
الجواب عن المناقشة الاُولى
و المناقشة الاُولى كانت تتلخّص في نفي عموم المنزلة ، فنقول في الجواب : بأنّ الحديث يشتمل على لفظ و هو اسم جنس مضاف إلى عَلَم قال : « أنت منّي بمنزلة هارون » ، فكلمة المنزلة اسم جنس مضاف إلى علم و هو هارون ، ثمّ يشتمل الحديث على استثناء « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » ، فالكلام مشتمل على اسم جنس مضاف إلى علم ، و مشتمل على استثناء باللفظ الذي ذكرناه ، هذا متن الحديث .
و لو رجعنا إلى كتب علم أُصول الفقه ، و لو رجعنا إلى كتب علم البلاغة و كتب الأدب ، لوجدناهم ينصّون على أنّ الاستثناء معيار العموم ، و ينصّون على أنّ من ألفاظ العموم اسم الجنس المضاف ، فأي مجال للمناقشة ؟ اسم الجنس المضاف « بمنزلة هارون » من صيغ العموم ، و الاستثناء أيضاً معيار العموم ، فيكون الحديث نصّاً في العموم ، إذْ ليس في الحديث لفظ آخر ، فلفظه : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي » ، و حينئذ يسقط الإشكال و تبطل المناقشة .
و هذه عبارة ابن الحاجب الذي هو من أئمّة علم الاُصول و من أئمّة علم النحو و الصرف و علوم الأدب ، يقول في كتاب مختصر الاُصول ـ و هو المتن الذي كتبوا عليه الشروح و التعاليق الكثيرة ، و كان المتن الذي يدرّس في الحوزات العلمية ـ : ثمّ إنّ الصيغة الموضوعة له ـ أي للعموم ـ عند المحققين هي هذه : أسماء الشرط و الاستفهام ، الموصولات ، الجموع المعرفة تعريف جنس لا عهد ، و اسم الجنس معرفاً تعريف جنس أو مضافاً 3 .
و إن شئتم أكثر من هذا ، فراجعوا كتابه الكافية في علم النحو بشرح المحقق الجامي المسمّى بـ ( الفوائد الضيائيّة ) ، و هو أيضاً كان من الكتب الدراسيّة إلى هذه الأواخر .
و راجعوا من كتب الاُصول أيضاً كتاب المنهاج للقاضي البيضاوي و شروحه .
و أيضاً راجعوا فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت ، الذي هو من كتب علم أُصول الفقه المعتبرة المشهورة عند القوم .
و راجعوا من الكتب الأدبية كتاب الأشباه و النظائر للسيوطي .
و راجعوا من كتب علم البلاغة المطوّل في شرح التلخيص و مختصر المعاني في شرح التلخيص للتفتازاني ، هذين الكتابين اللذين يدرّسان في الحوزات العلمية .
و هكذا غير هذه الكتب المعنية بعلم أُصول الفقه و علم النحو و البلاغة .
و أمّا الاستثناء ، فقد نصّ أئمّة علم أُصول الفقه كذلك كما في كتاب منهاج الوصول إلى علم الاُصول للقاضي البيضاوي ، و في شروحه أيضاً ، كشرح ابن إمام الكاملية و غير هذا من الشروح ، كلّهم ينصّون على هذه العبارة يقولون : معيار العموم الاستثناء .
فكلّ ما صحّ الاستثناء منه ممّا لا حصر فيه فهو عام ، و الحديث يشتمل على الاستثناء .
و قد يقال : لابدّ من رفع اليد عن العموم ، بقرينة اختصاص حديث المنزلة بغزوة تبوك ، و إذا قامت القرينة أو قام المخصص سقط اللفظ عن الدلالة على العموم ، فيكون الحديث دالاًّ على استخلافه ليكون متولّياً شؤون الصبيان و النساء و العجزة ـ بتعبير ابن تيميّة ـ الباقين في المدينة المنوّرة لا أكثر من هذا .
لكن يردّ هذا الإشكال و هذه الدعوى ، ورود حديث المنزلة في غير تبوك ، كما سنقرأ .
و قد يقال أيضاً : إنّ الاستثناء إنّما يدلّ على العموم إنْ كان استثناء متّصلاً ، و هذا الاستثناء منقطع ، لانّ الجملة المستثناة جملة خبرية ، و لا يمكن أنْ تكون الجملة الخبرية استثناؤها استثناءً متصلاً .
و هذه بحوث علمية لابدّ و أنّكم مطّلعون على هذه البحوث ، و هذا وجه للإشكال وجيه ، ذكره صاحب التحفة الاثنا عشرية 4 ، فإنْ تمّ سقط الاستدلال بعموم الاستثناء .
و لكن عندما نراجع ألفاظ الحديث نجد فيها مجيء كلمة « النبوّة » مستثناة بعد « إلاّ » ، و ليس هناك جملة خبرية ، و سند هذا الحديث أو هذه الأحاديث سند معتبر ، و ممّن نصّ على صحّة سند الحديث بهذا اللفظ : ابن كثير الدمشقي في كتابه في التاريخ البداية و النهاية 5 .
على أنّ من المقرّر عندهم في علم الاُصول و في علم البلاغة أيضاً : إنّ الأصل في الاستثناء هو الاتّصال ، و لا ترفع اليد عن هذا الأصل إلاّ بدليل ، إلاّ بقرينة ، و أراد صاحب التحفة أن يجعل الجملة الخبرية المستثناة قرينة ، و قد أجبنا عن ذلك بمجيء المستثنى إسماً لا جملة خبريّة .
و لو أردتم أن تطّلعوا على تعابيرهم وتصريحاتهم بأنّ الاصل في الاستثناء هو الاتّصال لا الانقطاع ، فراجعوا كتاب المطوّل ، هذا الكتاب الموجود بأيدينا ، الذي ندرسه وندرّسه في الحوزة العلميّة 6 .
و أيضاً يمكنكم مراجعة كتاب كشف الاسرار في شرح أُصول البزدوي 7 للشيخ عبد العزيز البخاري الذي هو من مصادرهم الاُصولية .
كما بإمكانكم مراجعة كتاب مختصر الاُصول (لابن الحاجب) 8 أيضاً ، و هو ينصّ على هذا .
بل لو راجعتم شروح الحديث ، لوجدتم الشرّاح من المحدّثين أيضاً ينصّون على كون الاستثناء هذا متّصلاً لا منقطعاً ، فراجعوا عبارة القسطلاني في إرشاد الساري 9، و راجعوا أيضاً فيض القدير في شرح الجامع الصغير .
إذن ، سقطت المناقشة الاُولى ، و تمّت دلالة الحديث على العموم أي عموم المنزلة ، و هذه البحوث بحوث تخصصيّة ، أرجو الالتفات إليها و تذكّر ما درستموه من القواعد العلمية المفيدة في مثل هذه المسائل .
الجواب عن المناقشة الثانية
و المناقشة الثانية كان ملخصها : إنّ الاستخلاف هذا كان في قضية معيّنة ، و في حياة النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، كما أنّ استخلاف هارون كان في حياة موسى ، و قد مات هارون قبل موسى ، إذن لا دلالة على الامامة والخلافة بالمعنى المتنازع فيه .
هذا الإشكال الذي طرحه كثيرون منهم ، من ابن حجر العسقلاني ، و من القسطلاني ، و من القاري ، و من غيرهم من كبار المحدّثين ، و أيضاً من المتكلّمين ، لو راجعتم إلى كتبهم لوجدتم هذا الاشكال و هذه المناقشة .
مع ابن تيمية
بل لو رجعتم إلى منهاج السنّة لوجدتم عبارات ابن تيميّة مشحونة بالبغض و العداء و التنقيص و الطعن في علي ( عليه السلام ) ، لاقرأ لكم بعض عباراته يقول :
كان النبي كلّما سافر في غزوة أو عمرة أو حجّ يستخلف على المدينة بعض الصحابة ، حتّى أنّهم ذكروا استخلاف رسول الله ابن أُم مكتوم في بعض الموارد ، و لا يدّعى لابن أُم مكتوم مقام لاستخلاف النبي إيّاه في تلك الفترة .
يقول ابن تيميّة : فلمّا كان في غزوة تبوك ، لم يأذن في التخلّف عنها وهي آخر مغازيه ، ولم يجتمع معه الناس كما اجتمعوا معه فيها ، أي في المغازي الاُخرى ، فلم يتخلّف عنه إلاّ النساء و الصّبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق ، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم ، كما كان يستخلف عليهم في كلّ مرّة ، الباقون عجزة و أطفال و صبيان و نسوان ، هؤلاء الباقون في المدينة لم يكن حاجة أنْ يستخلف عليهم رسول الله رجلاً مهمّاً و شخصيّةً من شخصيّاته الملتفّين حوله ، بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه ( صلى الله عليه و سلم ) ، أي استخلاف علي في تبوك كان أضعف من استخلاف ابن أُم مكتوم في بعض الموارد التي خرج من المدينة المنوّرة فيها .
يقول : لانّه لم يبق في المدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم ، فكان كلّ استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممّن استخلف عليه عليّاً ، فلهذا خرج إليه علي يبكي و يقول : أتخلّفني مع النساء و الصبيان ؟ فبيّن له النبي أنّي إنّما استخلفتك لأمانتك عندي ، و أنّ الاستخلاف ليس بنقص و لا غضّ ، فإنّ موسى استخلف هارون على قومه ، و الملوك و غيرهم إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعه به و معاونته له ، و يحتاجون إلى مشاورته و الانتفاع برأيه و لسانه و يده و سيفه ، فلم يكن رسول الله محتاجاً إلى علي في هذه الغزوة ، حتّى يشاوره أو أن يستفيد من يده و لسانه و سيفه ، فأخذ معه غيره ، لانّهم كانوا ينفعونه في هذه القضايا .
يقول : و تشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلّ عليه السياق ، و لا يقتضي المساواة في كلّ شيء ، ألا ترى إلى ما ثبت بالصحيحين من قول النبي في حديث الاُسارى لمّا استشار أبا بكر فأشار بالفداء ، و استشار عمر فأشار بالقتل ، قال : سأُخبركم عن صاحبيكم ، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم ، و مثلك يا عمر مثل نوح ، فقوله ( صلى الله عليه و سلم ) لهذا مثلك مثل إبراهيم و عيسى ، و قوله لهذا مثلك مثل نوح و موسى أعظم من قوله : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى .
هذا كلام ابن تيميّة ، أي : قطعة من كلامه ، و إنّا لنسأل الله سبحانه و تعالى أنْ يعامل هذا الرجل بعدله ، و أن يجازيه بكلّ كلمة ما يستحقّه .
و هنا ملاحظات مختصرة على هذا الكلام
أوّلاً: إذا لم يكن لعلي في هذا الاستخلاف فضل و مقام ، و كان هذا الاستخلاف أضعف من استخلاف غيره من الاستخلافات السابقة ، فلماذا تمنّى عمر أنْ يكون هذا الاستخلاف له ؟ و لماذا تمنّى سعد بن أبي وقّاص أن يكون هذا الاستخلاف له ؟
ثانياً: قوله : إنّ عليّاً خرج يبكي ، هذا كذب ، علي خرج يبكي لعدم حضوره في تلك الغزوة ، و لما سمعه من المنافقين ، لا لانّ النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم )خلّفه في النساء و الصبيان .
و بعبارة أُخرى : قول علي لرسول الله : أتخلّفني في النساء و الصبيان ، كان هذا القول قبل خروج رسول الله في الغزوة ، قبل أنْ يخرج ، و بكاء علي و خروجه خلف رسول الله و التقاؤه به و هو يبكي ، كان بعد خروج رسول الله و إنّما خرج ـ و كان يبكي ـ لما سمعه من المنافقين ، لا لانّ هذا الاستخلاف كان ضعيفاً ، فالقول بأنّه لمّا استخلف مع النساء و الصبيان جعل يبكي و يعترض على رسول الله هذا الاستخلاف ، افتراء عليه .
و ثالثاً: ذكره الحديث الذي شبّه فيه رسول الله أبا بكر بإبراهيم ، و شبّه فيه عمر بنوح ، و قوله : هذا الحديث في الصحيحين ، هذا كذب ، فليس هذا الحديث في الصحيحين ، و دونكم كتاب البخاري و مسلم ، و يشهد بذلك كتاب منهاج السنّة ، هذه الطبعة الجديدة المحقّقة التي حقّقها الدكتور محمّد رشاد سالم ، المطبوعة في السعوديّة في تسعة أجزاء ، راجعوا عبارته هنا ، و استشهاد ابن تيميّة بهذا الحديث و نسبة الحديث إلى الصحيحين ، يقول محقّقه في الهامش : إنّ هذا الحديث إنّما هو في مسند أحمد ، و يقول محقّقه ـ أي محقّق المسند الشيخ أحمد شاكر في الطبعة الجديدة ـ : هذا الحديث ضعيف .
و هو أيضاً في مناقب الصحابة لاحمد بن حنبل ، المطبوع في جزئين في السعودية أخيراً ، فراجعوا لتروا المحقق يقول في الهامش : إنّ سنده ضعيف .
فالحديث ليس في الصحيحين ، ليعارض به حديث المنزلة الموجود في الصحيحين ، و إنّما هو في بعض الكتب ، و ينصّ المحققون في تعاليقهم على تلك الكتب بضعف هذا الحديث .
و كأنّ ابن تيميّة ما كان يظنّ أن ناظراً ينظر في كتابه ، و أنّه سيراجع الصحيحين ، ليظهر كذبه و يتبيّن دجله .
و أمّا ما في كلامه من الطعن لامير المؤمنين ، فكما ذكرنا ، نحيل الامر إلى الله سبحانه وتعالى ، و هو أحكم الحاكمين .
مع الاعور الواسطي
و مثل كلمات ابن تيميّة كلمات الأعور الواسطي ، هناك عندهم يوسف الأعور الواسطي ، له رسالة في الرد على الشيعة ، يقول هذا الرجل : لو سلّمنا دلالة حديث المنزلة على الخلافة ، فقد كان في خلافة هارون عن موسى فتنة و فساد و ارتداد المؤمنين و عبادتهم العجل ، و كذلك خلافة علي ، لم يكن فيها إلاّ الفساد ، لم يكن فيها إلاّ الفتنة ، ولم يكن فيها إلاّ قتل للمسلمين في وقعة الجمل و صفين .
وهذا كلام هذا الناصبي الخبيث .
و بعدُ ، إذا لم يكن لاستخلاف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في تبوك قيمة ، ولم يكن له هذا الاستخلاف مقاماً ، بل كان هذا الاستخلاف أضعف من استخلاف مثل ابن أُم مكتوم ، فلماذا هذا الاهتمام بهذا الحديث بنقل طرقه و أسانيده ، و بالتحقيق في رجاله ، و بالبحث في دلالاته و مداليله ؟
إذا كان شيئاً تافهاً لا يستحق البحث ، و كان أضعف من أضعف الاستخلافات ، فلماذا هذه الاهتمامات ؟
و لماذا قول عمر : لو كان لي واحدة منهنّ كان أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ؟
و قول سعد : والله لانْ تكون لي إحدى خلاله الثلاث أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ؟
و لماذا استشهاد معاوية بهذا الحديث أمام ذلك الرجل الذي سأله مسألةً ، و كان معاوية بصدد بيان مقام علي و فضله ؟
ولماذا كلّ هذا السعي لإبطال هذا الحديث و ردّه ؟
ألم يقل الفضل ابن روزبهان ـ الذي هو الاخر من الرادّين على الاماميّة و استدلالاتهم بالأحاديث النبويّة ـ ما نصّه : يثبت به ـ أي بحديث المنزلة ـ لأمير المؤمنين فضيلة الاُخوّة و المؤازرة لرسول الله في تبليغ الرسالة و غيرهما من الفضائل .
و هكذا تسقط المناقشة الثانية .
الجواب عن المناقشة الثالثة
و المناقشة الثالثة كانت دعوى اختصاص حديث المنزلة بغزوة تبوك .
نعم لو كان الحديث مختصّاً بغزوة تبوك ، و لو سلّمنا بأنّ سبب الورود و شأن النزول مخصّص ، لكان لهذا الاشكال و لهذه المناقشة وجه .
و لكن حديث المنزلة ـ كحديث الثقلين و كحديث الغدير ـ كرّره رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) في مواطن كثيرة ، و هذه كتب القوم موجودة بين أيدينا ، و الباحث الحرّ المنصف يمكنه العثور على تلك الروايات ، و تلك المواطن الكثيرة التي ذكر فيها رسول الله هذا الحديث 10 .
- 1. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 142، الصفحة: 167.
- 2. شرح النووي لصحيح مسلم المجلد الثامن الجزء : 15 / 174 .
- 3. المختصر ( بيان المختصر 2 ) : 111 ـ مركز إحياء التراث الإسلامي ـ مكة المكرمة .
- 4. التحفة الاثنا عشرية : 211 .
- 5. البداية و النهاية ، المجلّد 4 الجزء : 7 / 340 .
- 6. المطوّل : 204 ـ 224 ـ انشارات داوري قم ـ 1416 هـ .
- 7. كشف الأسرار : 3 / 178 باب بيان التغير ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1418 .
- 8. المختصر ( بيان المختصر 2 ) : 246 .
- 9. ارشاد الساري : 6 / 117 ـ 118 ـ دار احياء التراث العربي ـ بيروت .
- 10. كتاب حديث المنزلة للسيد علي الحسيني الميلاني : 43 ـ 62 .