كلما تسامى الإنسان في حركته نحو الله سبحانه وتعالى وارتقى سلم الكمالات كلما استطاع أن يرى الأمور على حقيقتها بشكل يدهش الناس العاديين الذين غرقوا فيما يسمونه الواقعية.
وهنا درسان من كربلاء، الأول قبل كربلاء والآخر بعدها.
معلم الدرس الأول هو علي الأكبر الذي تربى في حجر الإمام الحسين فنهل من صفاء روحه الطاهرة ما جعله يجيب أباه ذلك الجواب الذي يكشف عن إنسان يرى بعين الله.
– أولسنا على الحق؟
– بلى، والذي إليه مرجع العباد
– إذن لا نبالي: وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.
إن هذا الجواب ما كان ليصدر إلا من نفس تربت في أحضان الطاهرين، وبلغت من السمو مقاما رفيعا محوره الحق والحق فقط. فالمهم لديه أن تكون المسيرة محقة تتوسل الحق وتطلب رضا الحق. وما دامت المسيرة كذلك فلا يهم كيف يكون الموت بمجيئه أو بالذهاب إليه.
وما أبلغ هذا الدرس الذي لن نفهمه حق فهمه إلا إذا كنا مريدين لمعلمه.
معلم الدرس الثاني زينب عليها أفضل الصلاة والسلام، والمكان مجلس الطاغية ابن زياد في هذا المشهد البطولي الذي ينقله التاريخ:
– ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟
زينب تعرض عنه، ويكرر السؤال مرتين ولم تجبه استهانة به واحتقارا. ثم تنبري إحدى السيدات:
– هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله
يغتاظ الخبيث، فيسري خبثه من قلبه إلى لسانه:
– الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم.
فترد عليه زينب بشجاعة نادرة مصححة المفاهيم المغلوطة التي يريد تثبيتها في أذهان الأمة، وفاضحة نهجه وسيرته متحدية جبروته وطغيانه:
– الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه، وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يابن مرجانة.
وفي محاولة مستميتة لتغطية الجريمة يحاول مرة أخرى نسبتها لله تعالى، فيسأل في تشف حقير:
– كيف رأيت فعل الله بأخيك؟
فينطلق لسان الحق معبرا عما تشاهده العيون التي لا ترى إلا بعين الله:
– ما رأيت إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يابن مرجانة.
من أين يأتي مثل هذا الجواب الجميل: ما رأيت إلا جميلا.
لقد رأت في مصرع الحسين وأصحابه شيئا جميلا فقالت: اللهم تقبل منا هذا القربان، ورأت في الرؤوس المقطعة والصدور المرضضة وذل السبي وشماتة الأعداء شيئا جميلا لأنه في سبيل الله، ولأن الجميل لا يصنع إلا جميلا.
هكذا تتحول المصائب والآلام في عيون هؤلاء إلى مشهد مختلف لأنهم يرون الحياة بمنظار غير ما نراه1.
- 1. نقلا عن شبكة مزن الثقافية – 17/2/2005 م.