بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: زكريَّا بركات
24 جمادى الآخرة 1445 هـ
يُلقِّب بعضُ المؤمنين السيدةَ فاطمة الزهراء (عليها السلام) بالكوثر الذي أُعْطِيَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد يعترض عليهم البعضُ مستنكراً وقائلاً إنَّ المقصود بالكوثر هو نهرٌ في الجنَّة، ظانِّين أنَّ بين تفسير الكوثر بالنهر وتفسيرها بسيِّدة نساء العالمين ـ عليها السلام ـ تنافياً. فلذلك أحببتُ أن أخدم إخوتي طُلَّاب العلم بهذا البحث الوجيز؛ لإلقاء الضوء على المقصود بالكوثر.. ومن الله نستمد العون، وهو وليُّ التوفيق.
في تفسير كلمة الكوثر ـ من سورة الكوثر ـ ستَّةُ أقوال حسب إحصاء ابن الجوزي في تفسيره “زاد المسير في علم التفسير” ج4 ص497، قال: “وفي «الكوثر» ستَّةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّه نهرٌ في الجنَّة”. انتهى.
ومن الأقوال في تفسير الكوثر أنَّه الخير الكثير، ذكره الإمامُ الطبري في تفسيره ج24 ص647، ورواه عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة. وقال هؤلاء إنَّ النبوَّة والحكمة والنَّهر وكلَّ ما أُوتيه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من خيرٍ فهو يدخل تحت عنوان الكوثر الذي يعني: الخير الكثير. واختار ذلك جماعةٌ من أهل العلم، كالبيضاوي الذي قال في تفسيره: “الْكَوْثَرَ: الخير المفرطُ الكثرةِ من العلمِ والعملِ وشرفِ الدَّارَين”. انتهى.
أقول: وبناءً عليه تدخل السيِّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تحت عنوان (الكوثر) ؛ لأنها من أعظم النِّعم التي رُزقها النبيُّ (ص) بإجماع الأمَّة الإسلامية.
ومنه يُفهم أنَّه لا يوجد تنافٍ بين تفسير الكلمة بالنَّهر الذي في الجنَّة وبين تفسيرها بالسيَّدة فاطمة الزهراء (ع) أو بأيِّ خير كثير أوتِيَه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي كتاب “لباب النقول” للسيوطي عدَّةُ روايات تُفيد أنَّ سورة الكوثر نزلت بمناسبة موت إبراهيم ـ أو القاسم ـ ابن رسول الله (ص) ، فشمت بعض كفار قريش ووصفوا النبي الأكرم (ص) بالأبتر، فنزلت السورةُ تطييباً لقلب رسول الله (ص) ، وإليك مرويَّات “لباب النقول” الدالَّة على ذلك:
1 ـ عن السُّدِّي، قال: كانت قريش تقول إذا مات ذكورُ الرَّجُل: بُتر فلانٌ، فلمَّا ماتَ ولدُ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قال العاصي ابن وائل: بُتر محمَّدٌ، فنزلت.
2 ـ عن أبي أيوب [الأنصاري] ، قال: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشى المشركون بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنَّ هذا الصابئ قد بُتر اللَّيلةَ، فأنزل اللهُ: (إنا أعطيناك الكوثر…) إلى آخر السورة.
3 ـ عن شمر بن عطيَّة، قال: كان عقبةُ بن أبي معيط يقول: إنَّه لا يبقى للنبيِّ (صلى الله عليه وسلم) ولد، وهو أبتر، فأنزل الله فيه: (إنَّ شانئك هو الأبتر) .
4 ـ عن ابن جريج، قال: بلغني أنَّ إبراهيم ـ ولدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ـ لما مات، قالت قريشٌ: أصبح محمَّدٌ أبتر، فغاظه ذلك، فنزلت: (إنا أعطيناك الكوثر) تَعْزِيةً له.
أقول: فهذه النُّقول تؤيِّد أنَّ المقصودَ بالكوثر هو الخيرُ الكثير الذي تكون السيِّد فاطمة الزهراء (ع) أولى ما قُصِد به؛ لأنَّ بها يَطِيبُ قلبُ رسولِ الله (ص) في مقابل وصمة (الأبتر) التي أطلقها أعداؤه، أكثر مما تطيب بنهر في الجنة أو غير ذلك.
فتلخَّص من ذلك أنَّه لا تنافي بين تفسير كلمة الكوثر بالنَّهر الذي في الجنَّة وبين تفسيرها بالسيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام؛ لأنَّها من الخير الكثير الذي أُوتِيَهُ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والخير الكثير هو المقصود بكلمة كوثر حسب اختيار غير واحد من أهل التفسير. بل هي أولى ما قُصد بالكوثر، أي إن عنوان الكوثر ـ بتفسيره بالخير الكثير ـ أولى انطباقاً على السيِّدة الزهراء؛ لمناسبة ذلك لأسباب النُّزول التي ذكرناها.
واللهُ وليُّ التَّوفيق، والحمدُ لله ربِّ العالمين.