مقالات

الإمام الجواد(ع)…

الفصل الأول : الأصل الكريم والميلاد المبارك

1 ـ والده

والده الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) .
ولقد كان عبقرياً ملأ فضله وعلمه آفاق العالم الإسلامي ، فلهج بمدحه مخالفوه ، كما هلل به شيعته وموالوه سواءً بسواء ، فكان الرضا الذي ارتضى به الخالق إماماً وحجه ، وللخلق سيداً وقدوةً .

2 ـ أمّه

السيدة سبيكة النوبية التي وفدت إلى المدينة مع من وفد من أهل إفريقيا ، فالتحقت بآل الرسول وأنجبت سيدهم الإمام الجواد (ع) ، وتذهب بعض الروايات إلى أنها كانت من قوم مارية القبطية زوجة النبي الأكرم ( صّلى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ أن ذلك مستبعد .

3 ـ ميلاده

في عقيدتنا : أن الإمام الذي يختاره الله لكي يكون قدوة صالحة للخير والصلاح يلزم أن يكون كاملاً من جميع الوجوه ، وأيما نقص أو عيب في الفكر أو في الجسم عند الإنسان يبين أنه ليس إماماً . ولقد كان الإمام الرضا (ع) قد بلغ الخامسة والخمسين ولم يرزق ولداً ، فذهبت بعض الإشاعات تنشر من قبل دعاة الواقفية الذين قالوا بغيبة الإمام موسى الكاظم (ع) ، وأنه لم يوص إلى أي إمام من بعده ، قائلين بأن الإمام الرضا عقيم ليس له ولد وهو عيب واضح في القدوة الدينية . فإذاً لا يكون هو الإمام الحق حسب زعمهم ، حتى كتب بعضهم إليه (ع) رسالة قال فيها :
كيف تكون إماماً وليس لك ولد ؟ فأجابه الرضا (ع) : وما علمك أنه لا يكون لي ولد والله لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني الله ولداً ذكراً يفرق بين الحق والباطل 1 .
وجاء إليه رجل من أصحابه يقول : من الإمام بعدك ؟ فقال : أبني ، ثم قال : هل يجترئ أحد أن يقول ابني وليس له ولد ؟ ، فيحدث الراوي أنه لم تمض الأيام حتى ولد أبو جعفر الجواد 2 .
ودخل عليه ابن قيام الواسطي وكان من الواقفية الذين لم يكونوا يعترفون بالإمام الرضا (ع) ، فأراد أن يعيب عليه فقال : أيكون إمامان ؟ ، قال : لا ، إلاّ أن يكون أحدهما صامتاً ، فقال الرجل : هو ذا أنت ليس لك صامت ، فقال : بلى والله ليجعلن الله لي من يثِّبت به الحق وأهله ويمحق به الباطل وأهله ، ولم يكن له في ذلك الوقت ولد ، فولد له أبو جعفر بعد سنة 2 .

الميلاد المبارك

وكانت سنة ( 195 ) هجرية ، وكان شهر رمضان وكان الشيعة المخلصون يعيشون أشد الانتظار لمقدم ولد الإمام الرضا (ع) ، ذلك الذي زخرت أحاديثهم تنبئ عن مقدمه المبارك ، وهم الراوون عن الرسول (ص) انه قال : يأبي خيرة الإماء النوبية ، وهو يشير إلى الإمام (ع) ، ليدحضوا حجة الواقفية الذين قد أكثروا من الدعايات ضده .
وكانت تلك الليلة توافق ليلة التاسع عشر من شهر الله المبارك ، حينما بزغ من أفق الحق بدر أضحى شمساً للهدى ، وسماءً في جلاله ، ألا وهو الإمام الجواد (ع) .
وتناقل الرواة الحديث على لسان والده العظيم يقول : هذا هو المولود الذي لم يولد في الإسلام أعظم بركة منه 3 .
أجل ، لقد ولد الإمام في الوقت الذي اختلفت فيه الشيعة أيما اختلاف ، وكانت دعايات بعض المخالفين لهم تشق طريقها إلى أفئدة بعض السذج منهم ، كانت آية صدق الإمام الرضا وإبطال زعم الواقفية تثبت بميلاد ابنه الموعود .
فلما ولد الجواد (ع) ذهبت دعايات الواقفية أدراج الرياح ، وذابت كما يذوب الملح في الموج الهادر ، وأصبح ميلاد الإمام سبباً لانتصار الحق واتحاد الشيعة ، أتباع الحق ، بعد الإختلاف والتفرقة ، أضف إلى ذلك أن الإمام الرضا (ع) كان يقول دائماً أن ابني خليفتي عليكم ، وهم يرون أن لا ابن له ، وحتى إذا بلغ مرحلة الكهولة ، ومضت الشكوك تراود أفئدة البسطاء من الموالين جاء الإمام الجواد (ع) ، فكان ميلاداً مباركاً ميموناً ، فهللت الشيعة وسبحت لله لمّا رأت في أحاديثها الصدق والحق .

عهد الصبا

وترعرع الطفل الشريف في رعاية والده العظيم (ع) كما يترعرع الورد على كف النسيم ، يضفي عليه والده المعارف والأداب ، فتجتمع أصول الحسب بشرف المحتد ، فإذا بالمواهب تتفتح كما يتفتح الفجر عن صبح بهيج .
وإذا بمشيئة اللـه تتعلق على أن يكون الطفل وهو في صباه سيداً وإماماً .
سبـق الدهر كله في صباه *** و مشى الدهر خادماً من ورائه
وعندما كان الإمام الجواد (ع) في الخامسة من عمره جاءت رسل المأمون العباسي تحث والده الإمام الرضا (ع) ليهاجر إلى العاصمة الجديدة للبلاد الإسلامية وهي خراسان ، ويكون ولي العهد وذلك بعدما قتل المأمون أخاه الأمين ، وكانت الظروف تُكره الإمام علي بن موسى (ع) على أن يغادر المدينة إلى خراسان عاصمة المسلمين الجديدة ، حيث إن الحرب التي قامت بين الأخوين العباسيين ، الأمين والمأمون ، كانت قد صرفت كثيراً من طاقات المسلمين وجعلتها وقوداً مشتعلاً لها ، بل قامت ثورة خراسان على كتف الشيعة هناك الذين استخدموا في ثورة العباسيين الأولى ضد الحكم الأموي ، ثم سرقت ثورتهم بانحراف القادة وذهبت مساعيهم أدراج الرياح ، وهذه الثورة الثانية قامت كرد فعل قوي لانحراف دفة الحكم عن آل بيت الرسول ، أصحابه الشرعيين ، والمأمون كان ممن تشيع ظاهراً ونادى بمبادئ الشيعة صريحاً في باكورة أمره ، وأكره الإمام الرضا (ع) على الرحيل إلى خراسان ليثبت فكرة تشيعه في قلوب التابعين ثم يصنع ما يشاء .
استعد الإمام الرضا للرحيل ولكنه كان يعلم يقيناً بما سوف يحدث له بعد سفره ، إنها رحلة واضحة المعالم ، ولكنها خطة يجب أن يسير عليها الإمام حسب الظروف وحسب التعاليم الظاهرية للدين الإسلامي ، يجب عليه أن يبلّغ فيعذر ، ويعمل حسب مقدرته على بث الوعي الصحيح للمسلمين وإن كان ذلك سوف يؤدي بحياته الكريمة ، ثم ودع أهله وجعل الخليفة عليهم ابنه الجواد ، وهو ابن الخامسة فقط ، لِمَا كان يعرف منه من الكفاءة الموهوبة ، وراح الرضا يخترق السهل والجبل إلى خراسان حيث تستقبله الجماهير المؤمنة ويجعلونه ولياً لعهدهم ، تنتقل إليه الخلافة الإسلامية بعد المأمون ، وكانت الرسائل تربط بين الوالد والولد ، فترد تباعاً بشأن الأمور الخاصة أو العامة .
أما الإمام الرضا (ع) فقد كان معجباً بنجله أيما إعجاب ، فإذا جاءت رسالة عن الجواد (ع) وأراد أن يخبر شيعته بها قال : كتب لي أبو جعفر أو كتبت إلى أبي جعفر ، فلا يقول ابني ولا يرضى باسمه الخاص ، بل يكنيه إجلالاً واحتراماً .
وأما ولده التقي في المدينة فقد كان يختلف إليه الشيعة اختلافهم إلى والده الرضا (ع) ، لأنهم كانوا يعرفون أنه إمامهم في المستقبل ، وعلى حد تعبيرهم ( إمامهم الصامت ) .
وذات يوم والشيعة في حضرة الجواد (ع) وفي مشهده إذ تغير حاله وأخذ يبكي ، وعندما جاء الخادم ، أمره بإقامة المأتم ..
ـ عزاء من ؟ ومأتم لمن ؟ جعلت فداك .
ـ مأتم أبي الحسن الرضا (ع) ، فقد استشهد الساعة في خراسان .
ـ بأبي أنت وأمي ، خراسان قطر يبتعد عن المدينة آلاف الأميال ، وتفصل بينهما سهول وجبال .
ـ نعم ، دخلني ذل من الله عزّ وجلّ لم أكن أعرفه ، فعرفت أن أبي قد توفي 4 .
وكان الإمام الجواد يكنى بأبي جعفر ليكون تذكاراً لجده أبي جعفر بن علي الباقر (ع) ، ولأئه لم يكن له ولد يسمى بجعفر .
وكان يلقب بألقاب شتى ، منها الجواد ، والتقي ، والمرتضى ، والمنتجب ، والقانع ، بيد أن لقباً واحداً اشتهر به أكثر من غيره وهو ” ابن الرضا ” ذلك أن أباهه الإمام الرضا (ع) طار صيتُه في الآفاق لما اشتهر به من الفضل والجد فعرف الناس ثلاثة من أبنائه باسم ابن الرضا ولذلك كان كل من الإمام التاسع والعاشر والحادي عشر يعرفون بـ ( ابن الرضا ) لِمَا كان للرضا من الصيت الواسع الحسن بين المسلمين .

الفصل الثاني :حياته وإمامته

إمام وهو ( صبي )

الإمامة في عقيدة الشيعة القائلين بها تختلف عنها في منطق الاخرين كثيراً . فإن الكلمة تعني عند الشيعة الخلافة المطلقة لشخص الرسول ولعلومه ومعارفه ومؤهلاته وصلاحياته ومسؤولياته ، وبتعبير آخر ” صورة كاملة للنبوة ” ، بفارق واحد فقط هو أن الإمام لا يوحى إليه ، بينما النبي يوحى إليه ، فلا نبي بغير وحي ، ولكن الإمام بدونه .
والنبوة ـ في منطق الإسلام ـ صلاحية فريدة في نوعها ومتميزة عن صلاحيات سائر البشر ، يهبها اللـه تعالى إلى فرد يختاره ويجعله وسيطاً يتلقى الوحي منه وينشره بين قومه ، وإذا تمت هذه الفكرة عن النبي تتم عن الإمام بنفس الملاك ونفس الحجة ، وكما أنه إذا صح القول بأنه من الممكن ان يغتدي الصبي نبياً وهو في المهد رضيع ، صح ذلك في الإمام (ع) .
والعمر وإن كان مقياساً للناس في الأغلب ولكنه ليس بمقياس عند الله ، فليس الأكبر سناً أعظم عند اللـه دائماً ، وربَّ شيخ يغيض عند ربه ولربَّ شاب أو طفل محبوب عند بارئه . العمل الصالح والنية الطيبة والإمكانيات الموهوبة وما إلى ذلك مما يهب الفرد قيمة وتقديراً هو المقياس الأول عند الإسلام وفي منطق القرآن ، أضف إلى ذلك أن القول بالنبوة والإمامة لا يمكن إلاّ بعد الإيمان الكامل بقدرة اللـه تعالى على أن يجعل من فرد واحد مجمعاً للفضائل ، ومرجعاً للمعارف ، وقدوة للناس وأسوة للخلق ، فالإعتقاد بالنبوة يفرض على الإنسان الإيمان بالمعجزة ( والتي هي ما يتعدى طاقة الإنسان ) وله ميزة على سائر البشر حتى يمكنه أن يقودهم ويقول لهم إنني نذير من الله .
وإذا كانت المعجزة تعني شيئاً خارجاً عن الطبيعة الجارية في سائر الخلق ، فلا فرق بين أن يكون الفرد الذي تتجلى فيه المعجزة كبيراً أو صغيراً ، غنياً أو فقيراً .
وطالما زعمت الأمم السالفة : أن النبي يجب أن يكون له مال وثراء عريض ، ويكون سيداً في قومه ورئيساً مهيباً ، فأفهمهم أنبياؤهم (ع) بأن اللـه إذا أراد أن ينزَّل رحمته في فرد لا تتوفر فيه هذه الشروط ويجعله نبياً ، فهل في ذلك من بأس ؟ قال تعالى : ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ 5
ولطالما أعجبت الأمم ودهشت حينما رأت أن الله قد بعث إليها صبياً نبياً ، ولكن ربنا أبرز لهم أن فعله ذلك إنما كان تعمداً ليعرفهم معنى النبوة ، وأنها ليست موهبة عادية تبرز في فرد دون فرد ، تبعاً للبيئة والتربية ، وإنما هو نبوءٌ عن عادة الخلق ، وخرق لسنة الكون ، ونداء جديد ليس يشابهه نداء المخلوقات ، بأن الله هو القادر وأنه إليه المصير ، يقول علي بن أسباط في حديث له عن الإمامة : رأيت أبا جعفر الجواد (ع) قد خرج إليّ فأحددت النظر إليه ، وإلى رأسه وإلى رجله لأصف قامته لأصحابنا بمصر فخر ساجداً وقال : إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة ، قال تعالى : ﴿ … وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ 6 .
وقال الله سبحانه وتعالى : ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ … ﴾ 7 .
وقال : ﴿ … وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً … ﴾ 8 .
فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز أن يؤتى وهو ابن أربعين سنة 9 .
أجل إذا كانت النبوة معجزة الله تعالى ، أو كانت آية الابتداع فسواء ـ إذاً ـ أن تظهر في كبير أو صغير.
وعن بعض الرواة أنه قال : كنت واقفاً عند أبي الحسن الرضا (ع) بخراسان فقال قائل : يا سيدي .. إن كان كون فإلى من ؟ ( يريد : إذا متَّ فمن الإمام بعدك ؟ ) .
قال : إلى أبي جعفر ابني .. وكأن القائل استصغر سن أبي جعفر .
فقال أبو الحسن (ع) : إن الله سبحانه بعث عيسى رسولاً نبياً صاحب شريعة مبتدئة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر (ع) 10 .
نعم : ليس هناك أي استبعاد لما يشاؤه اللـه ويفعله ، فقد يجعل عيسى نبياً في أول صباه .. ويهب محمد بن علي الإمامة صبياً أيضاً .
كان للإمام أبي عبد الله الصادق (ع) ولد كان يدعى علي بن جعفر وكان وجيهاً محترماً لدى الشيعة الإمامية ، وكان يفد إليه الناس ، وينهلون من علومه التي تلقاها مباشرةً عن أبيه الصادق (ع) .. وأخيه موسى بن جعفر (ع) .. فيروي بعض المحدثين : أنه كنت عند علي بن جعفر بن محمد (ع) جالساً بالمدينة ، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمعه من أخيه يعني موسى بن جعفر (ع) إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي بن موسى (ع) المسجد ـ مسجد رسول الله (ص) فوثب علي بن جعفر بلا رداء ولا حذاء ، فقبَّل يده وعظَّمه ، فقال له أبو جعفر (ع) : يا عم اجلس رحمك الله .
قال : يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم .
فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون أنت عم أبيه وأنت تفعل هذا الفعل؟
فقال : اسكتوا ، إذا كان الله عزَّ وجلَّ ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه ، اُنكر فضله ! نعوذ بالله مما تقولون بل أنا له عبد 11 .

بعد وفاة والده

توفي الإمام الرضا في خراسان مسموماً ، ودفن في طوس ، واختلفت ـ بسبب موته ـ الأمة الإسلامية ، وفقدت الأمة ملامحها التي كانت قد تميَّزت بها في عهد الرضا (ع) .. فرجعت الخلافة إلى بغداد .. وقرَّب المأمون العباسي من يريد وغدر بمن كان قد نصره على أخيه الأمين في نزع الملك عنه ، وغيَّر شعاره الذي اتخذه للثورة التي كانت نصف علوية ، ورجع إلى لبس السواد ، فأصبحت الدولة دولة عباسية مرة أخرى .
ومرة كان الإمام يسير في طرقات بغداد العاصمة المزدحمة وقد اصطف الناس لابن الرضا (ع) ، رافعين أعناقهم كي يفوزوا بنظرة منه .. وكان من الواقفين رجل زيدي المذهب ، يحدثنا فيقول :
خرجت إلى بغداد فبينما أنا بها ، إذ رأيت الناس يتدافعون ويتشرفون ويقفون ، فقلت :
ما هذا ؟ .. فقالوا : ابن الرضا (ع) ، فقلت : والله لأنظرن إليه ، فطلع على بغل أو بغلة ، فقلت لعن الله أصحاب الإمامة حيث يقولون أن الله افترض طاعة هذا ، فعدل إليَّ وقال : يا قاسم بن عبد الرحمن : ﴿ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ 12 . فقلت في نفسي : ” ساحر والله ” . فعمد إليَّ فقال : ﴿ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴾ 13 .
قال : فانصرفت وقلت بالإمامة وشهدت أنه حجة الله على خلقه واعتقدت به ( عليه السلام ) ، أجل … إن الاستغراب الذي غمر قلب هذا الرجل من جهة صغر السن كان جوابه في هاتين الآيتين المباركتين واضحاً مستبيناً .
وكان الإمام الجواد (ع) رابضاً بالمدينة وهو الفتى الحديث في السن ، المقدر عند الله والخلق ، قد أعطت الشيعة ـ وهي يومذاك كثرة لا يستهان بها ـ أزّمتها بيده فنهض بتدبيرها خير نهوض ، حتى التفت حوله طائفة من أصحاب أبيه وجده .

في المدينة

وبقي في المدينة المنورة بعد عهد إمامته زهاء ثمانية أعوام ، يحترمه الخاص والعام ويأوي إليه البعيد والقريب ، يسألونه عما أغمض وأشكل عليهم فيحل ذلك لهم في أسرع وقت .
يقول بعض الرواة : لما مات أبو الحسن الرضا (ع) حججنا فدخلنا على أبي جعفر وقد حضر من الشيعة من كل بلد لينظروا إلى أبي جعفر (ع) فدخل عمه عبد الله بن موسى وكان شيخاً كبيراً نبيلاً ، عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجادة .
فجلس وخرج أبو جعفر (ع) من الحجرة وعليه قميص قصب ورداء قصب ونعل خوص بيضاء ، فقام عبد الله ـ عمه ـ واستقبله وقبَّل بين عينيه وقامت الشيعة ، وقعد أبو جعفر (ع) على كرسي ونظر الناس بعضهم إلى بعض تحيراً لصغر سنه .
فانتدب رجل من القوم فقال لعمه : أصلحك الله ما تقول في رجل أتى بهيمة 14 . فقال تقطع يمينه ويقام عليه الحد .
فغضب أبو جعفر (ع) وقال : يا عم إتق الله ـ إتق الله ـ إنه لعظيم أن أفتيت يوم القيامة بين يدي الله عز وجل لما أفنيت الناس بما لا تعلم ، فقال له عمه : يا سيدي أليس قال هذا أبوك (ع) ؟
فقال أبو جعفر (ع) : إنما سُئِل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها ، فقال أبي : تقطع يمينه للنبش ويضرب حد الزنا ، فإن حرمة الميِّتة كحرمة الحية فقال : صدقت يا سيدي أنا أستغفر الله ، فتعجب الناس فقالوا له : يا سيدنا أتأذن أن نسألك ؟
فقـال : ” نعم ، فسألوه في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها وله تسع سنين” 15 .
وهذه القصة تبين مدى أهمية الإمام في عين الشيعة ثم غزارة علمه وطول باعه وسعة ثقافته التي نبعث عن قلب نفخ فيه الله علمه ومعرفته وأكثر فيه تقواه وخشيته .

إلى بغداد

وحينما انتقل المأمون العباسي إلى بغداد ، وكان يعيش في صراع دائم مع العباسيين الذين استنكروا عليه إعطائه ولاية العهد للرضا (ع) ، مذكرين له أن هؤلاء بني فاطمة هم المناوئون الذين يخشى جانبهم أكثر من أي مناوئ آخر لأن لهم أنصاراً وموالين في شرق البلاد وغربها .
وكان المأمون يبرر موقفه من علي بن موسى بنقل فضائله التي عجزت شفاه المأمون وغيره عن أن تحصيها عداً قائلاً : بأن أهل هذا البيت قد ورثوا العلم من آبائهم كما ورثوا المكارم والخلق الرفيع .
وكانت الشيعة يومئذ قد قويت شوكتهم بالإمام الرضا وأصبح لهم دعاة مخلصون في كل زاوية من البلاد الإسلامية ومالت إليهم العامة لما ظهر من الإمام الرضا (ع) في المسرح السياسي من آيات الفضل والكمال .
ثم إنه ذهبت دعوتهم إلى إمامة بني فاطمة تنتشر أكثر من أي يوم آخر ، لأن كثيراً منهم نالوا المناصب الرفيعة في الدولة وقاموا بحركات إيجابية دائمة بسبب الإختلاف الذي وقع بين العباسيين .. وعرفت السلطة طوائف كثيرة من العباسيين أنفسهم كانوا يكيدون للدولة ويريدون لأنفسهم السلطان فاضطرت إلى استخدام مناوئ هؤلاء ، من الشيعة .
هذا من جانب ومن جانب آخر كانت موجة من الاستياء العام تمثل العامة بسبب قتل المأمون للرضا (ع) . وتغطية لغدره بالرضا (ع) واحتجاجاً على الخاصة من العباسيين .. واستمالة لفؤاد العامة من غيرهم ، أرسل المأمون إلى المدينة يطلب الإمام الجواد (ع) في دعوة رسمية . .
كان ذلك في السنة ( 211 ) هجرية حيث كان لأبي جعفر الجواد من العمر زهاء ( 16) سنة فقط .
ومما يبدو من التاريخ : أن وفود الإمام (ع) كان حافلاً بالاحتفاء الملوكي … الذي هيأه الخليفة لمقدم موفوده المبارك . وكان الناس يبشرون أنفسهم بابن الرضا (ع) الذي طالما تشوقوا إلى رؤيته والمثول عنده .
واستقبله المأمون استقبالاً حافلاً ، ونوى أن يزوجه ابنته أم الفضل ، كما زوج أباه الرضا (ع) ابنته أم حبيب . فاعترضه العباسيون اعتراضاً شديداً ، خوفاً من انتقال الخلافة إلى بني فاطمة .
فاجتمع من أهل بيته الأدنون وقالوا له : نناشدك الله يا أمير المؤمنين ألا تقدم على هذا الأمر الذي عزمت من تزويج ابن الرضا (ع) ، فإنّا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكنا الله عزَّ وجلَّ ، وينزع منا عزّاً قد ألبسناه الله ، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وقد كنا في خشية من عملك مع الرضا (ع) ، فكفانا الله المهم في ذلك ، فالله أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا .
فقال لهم المامون : أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم ، واما ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان قاطعاً للرحم ، وأعوذ بالله من ذلك ، والله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا (ع) .. ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى وكان أمر الله قدراً مقدوراً !!
وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتفوِّقه على أهل الفضل كافة في العلم والثقافة مع صغر سنه . وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فتعلمون أن الرأي ما رأيت فيه .
فقالوا : إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه ، فأمهله ليتأدَّب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك .
فقال لهم : ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم ، وإن أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى لم يزل أباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يثبت لكم به ذلك .
قالوا : قد رضينا بذلك فخلِّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيْ ، من فقه الشريعة فإن أصاب لم يكن لنا اعتراض ، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه ، فإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب منه ، فرضي المأمون بذلك ، فاجتمع رأيهم على يحيى بن أكثم قاضي قضاة الديار الإسلامية في ذلك العهد أن يسأل الإمام الجواد (ع) عن المسائل الغامضة في الفقه الإسلامي ، وحان الموعد واجتمع الناس ، وجاء الإمام الجواد ( (ع) ) وحضر ابن أكثم ، وجلس يحيى بين يديه والمأمون بجانب الإمام يهيمن على المجلس ، فالتفت ابن أكثم إلى الخليفة وقال :
يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة ؟ فقال المأمون استأذنه في ذلك ، فأقبل عليه يحيى قائلاً : جعلت فداك ، تأذن لي في مسألة ؟ قال أبو جعفر (ع) : سل ما شئت .
قال يحيى : ما تقول ـ جعلت فداك ـ في محرم قتل صيداً ؟
فقال أبو جعفر :
ـ قتله في حـل أو حـرم ؟
ـ عالماً كان المحرم أو جاهلاً ؟
ـ قتله عمـداً أو خـطـأً ؟
ـ حُرَّاً كان المحرم أو عبـداً ؟
ـ صغـيراً كان أو كبـيراً ؟
ـ مبتـدئاً بالقتل أو معيـداً ؟
ـ من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها ؟
ـ من صغار الصيد أم من كبارها ؟
ـ مصرّاً على ما فعل أو نادماً ؟
ـ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار ؟
ـ محرماً كان بالعمرة إذ قتله ، أم بالحج كان محرماً ؟ 16 .
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والإنقطاع ولجلج حتى عرف الحاضرون امره ، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثم توجه إلى أهل بيته ، فقال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل على أبي جعفر (ع) فقال له : أتخطب يا أبا جعفر ؟ فقال : نعم يا أمير المؤمنين، فقال له المأمون : أخطب لنفسك جعلت فداك ، قد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي ، وإن رغم قوم لذلك .
فقال أبو جعفر : الحمد لله إقراراً بنعمته ولا إله إلاّ الله إخلاصاً لوحدانيته وصلى اللـه على محمد سيد بريَّته والأصفياء من عترته … أما بعد : فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام ، فقال سبحانه : ﴿ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ 17 .
ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد (ص) ، وهو خمسمائة درهم جياداً ، فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟
فقال المأمون : نعم قد زوجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح ، قال أبو جعفر (ع) : قد قبلت ذلك ورضيت به .

حفلة الزواج

قال المحدث : ولم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملاَّحين في محاوراتهم ، فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضلة مشدودة بالحبال من الإبريسم على عجلة مملوءة من الغالية ( قسم من العطر ) ، فأمر المأمون أن تخضب لحاء الخاصة من تلك الغالية ، ثم مدت إلى الدار العامة فتطيبوا منها ووضعت الموائد فأكل الناس وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم ، فلما تفرق الناس وبقي بعض الخاصة ، قال المأمون لأبي جعفر (ع) : إن رأيت جعلت فداك أن نذكر الفقه الذي فصلته من وجوه من قتل الصيد ، فقال أبو جعفر (ع) :
نعم ، إن المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير ، وكان من كبارها فعليه شاة ، فإن أصابه في الحرم فعليه جزاءً الضعف ، وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن ، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإن كان نعلماً فعليه بدنة ، وإن كان ظبياً فعليه شاة ، وإن كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه جزاءً مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة ، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى ، وإن كان أحرامه بالعمرة نحره بمكة ، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي العمد عليه المأثم ، وهو موضوع عنه في الخطأ والكفارة على الحر في نفسه ، وعلى السيد في عبده ، والصغير لا كفارة عليه ، وهي على الكبير واجبة ، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصّر يجب عليه العقاب في الآخرة .
فقال المامون : أحسنت يا أبا جعفر ، أحسن الله إليك ، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك ، فقال أبو جعفر (ع) ليحيى : أسألك ؟ قال : ذلك إليك ـ جعلت فداك ـ فإن عرفت جواب ما تسألني عنه ، وإلاّ استفدته منك ، فقال له أبو جعفر (ع) : أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار ، فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلما ارتفع النهار حلت له ، فلما زالت الشمس حرمت عليه ، فلما كان وقت العصر حلت له ، فلما غربت الشمس حرمت عليه ، فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلت له ، فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه ، فلما طلع الفجر حلت له ، فما حال هذه المرأة ، وبماذا حلت له وحرمت عليه ؟
فقال له يحيى : لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ، ولا أعرف الوجه فيه ، فإن رأيتك أن تفيدنا .
فقال أبو جعفر : هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلما ارتفع النهار أبتاعها من مولاها فحلت له ، فلما كان عند الظهر اعتقها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له ، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفَّر عن الظهار فحلت له ، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه ، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له .
فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم : هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟
قالوا : لا واللـه ، إن أمير المؤمنين أعلم ، وما رأى .
فقال : ويحكم ، إن أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل ، وإن صغر السن فيهم ، لا يمنعهم من الكمال ، أما علمتم أن رسول اللـه (ص) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الإسلام ، وحكم له به ، ولم يدع أحداً في سنه غيره ، وبايع الحسن والحسين (ع) وهما ابنان دون الست سنين ، ولم يبايع صبياً غيرهما ، أولا تعلمون ما اختص اللـه به هؤلاء القوم ؟ وإنهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم .
فقالوا : صدقت يا أمير المؤمنين ، ثم نهض القوم .

الجوائز

فلما كان من الغد أحضر الناس ، وحضر أبو جعفر (ع) ، وسار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وابي جعفر (ع) ، فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فيها بنادق 18 مسك زعفران معجون ، في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية وإقطاعات 19 فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته ، فكان كل من وقعت في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها ، والتمسه فأطلق يده له .
ووضعت البدر ، فنثرت ما فيها على القواد وغيرهم ( من كبار الموظفين ) وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا ، وتقدم المأمون بالصدقة على المساكين كافة ، ولم يزل مكرماً لأبي جعفر (ع) ، معظماً لقدره مدة حياته ، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته 20 .
وحينما تم زواج الإمام بابنة المأمون ، وبقي في بغداد مدة غير قليلة ناعماً مرفهاً يأتيه المسلمون ، فينهلون من فيضه ، ويستقون غمائمه ، ما تغنيهم وترويهم ، بيد أنه لم يكن يرضيه التنعم في قصور العباسيين تاركاً أمور الشيعة والمسلمين الدينية وراءه ظهريّاً ، وكما يبدو أنه إن لم يكن قد أكرهته الظروف بالمقام في بغداد ، لما أقام فيها إلاّ قليلاً .
يروي بعض أصحابه فيقول : دخلت عليه في بغداد ففكرت فيما به من نعم ، وقلت في نفسي إن هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً ، فأطرق رأسه ثم رفعه وقد اصفر لونه ، فقال : يا حسين خبز شعير وملح جريش في حرم رسول اللـه أحب إلي مما تراني فيه 21 .

إلى المدينة من جديد

وسار إلى المدينة عن طريق الكوفة ، فلما أن ورد الكوفة اجتمع إليه الشيعة ، فاستقبلوه استقبالاً حافلاً ، ثم ودعهم إلى مدينة جده ، حيث بقي فيها سائر أيام حياته يواصل أداء مسؤولياته الخطيرة التي منها إنشاء مدرسة فكرية جامعة حتى وفاة المأمون العباسي .

بعد المأمون

وأوصى المأمون إلى أخيه المعتصم العباسي ولبى دعوة ربه فمات في قرية من نواحي طرسوس ، التي كانت من الحدود الفاصلة بين البلاد الإسلامية وبلاد الروم وكانت قد اشتعلت فيها مناوشات وقد سار إليها الخليفة بنفسه حتى ظفر المسلمون .
وأوصى إليه بشأن العلويين بصورة خاصة فقال مخاطباً أخاه المعتصم : هؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي (ع) فأحسن صحبتهم وتجاوز عن مسيئهم وأقبل عليهم ولا تترك صِلاتهم في كل سنة عن محلها فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى .
في أواخر الصيف ، ليلة الثاني عشر من رجب سنة 218 هـ توفي المأمون العباسي ودفن في ضاحية طرسوس ، فأخذ المعتصم أزمّة الحكم ، وراح يثبت حكمه بكل قدر مستطاع ففكر في أن الإمام الجواد وهو صهر الخليفة الراحل وسيد الشيعة وهم قوة جبارة في الأمة ، قد يشكل خطراً ما علـى الدولة فأشخصه من المدينة إلى بغداد ، لا لشيء إلاّ لكي يكون الإمام تحت مراقبته الشخصية ، ونزح الإمام للمرة الثانية إلى بغداد ، وبقي فيها مبتعداً عن البلاط الملكي مشتغلاً بالشؤون العامة وذلك في الفترة ما بين ( 28 محرم الحرام سنة 220 هـ و 29 ذي القعدة الحرام من نفس السنة ) حيث وافته المنية بسم دس إليه من قبل السلطة بإشارة من الخليفة المعتصم باللـه ، وقصة ذلك حسب ما رواها المؤلف القدير العياشي عن خادم ابن أبي داود وصاحب سره الذي كان يسمى ( ونان ) ، وابن أبي داود هذا كان قاضياً شهيراً في بغداد قال : رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم وهو مغموم فقلت له فيما ذاك ، قال : لِما كان اليوم من هذا الأسود ” أي أبي جعفر الجواد (ع) ” بين يدي أمير المؤمنين ، قال قلت وكيف ذاك ؟ قال : إن سارقاً أقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره فجمع في ذلك الفقهاء وقد أحضر محمد بن علي (ع) فسألنا عن القطع في أي موضع ؟ فقلت من الكرسوع ( أي المفصل بين الكف والذراع ) ، قال : وما الحجة في ذلك ؟ قلت : لأن اليد من الأصابع إلى الكرسوع لقوله تعالى في التيمم ﴿ … فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ … ﴾ 22 .
واتفق معي على ذلك جماعة ، وقال آخرون بل يجب القطع من المرفق لأن الله تعالى يقول في الوضوء ﴿ … وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ … ﴾ 22 فدلّ على أن اليد من المرفق ، فالتفت المعتصم إلى محمد بن علي (ع) وقال : ما تقول أنت يا أبا جعفر (ع) فقال (ع) : قد تكلم فيه القوم يا أمير المؤمنين ، قال : دعني عما تكلموا به ، أي شيء عندك ؟ قال : اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين ، قال : أقسمت عليك باللـه تعالى لما أخبرت بما عندك فيه ؟ فقال : أما إذا أقسمت علي بالله فإني أقول أنهم اخطأوا فيه السنَّة ، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف ، فقال : فما الحجة في ذلك ؟
قال : قول رسول الله (ص) السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقد قال الله عزّ وجلّ : ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ … ﴾ 23 يعني بهذه الاعظاء السبعة التي يسجد عليها وما كان لله لم يقطع .
قال : فأعجب المعتصم بذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف .
( قال ابن أبي داود ) فقامت قيامتي وتمنيت أني لم أكُ حيّاً ، ( قال ) : ثم صرت إلى المعتصم بعد ثلاث وقلت : إن نصيحة أمير المؤمنين واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل النار به ، قال وما هو ؟ قلت إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر وقع من أمور الدين وسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم ، وقد حضر مجلسه قوّاده ووزراؤه وكتّابه ، وقد تسامع الناس ذلك من وراء بابه ، ثم يترك أقاويلهم كلهم ، لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ، ويدّعون أنه أولى منه بمقامه ، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء !! ( قال ) فتغير لونه وتَنبه لما نبهته له ، قال : جزاك اللـه عن نصيحتك خيراً . قال : فأمر في اليوم الرابع فلاناً ـ بالطبع ، ذكر اسماً حذفه بعض المؤلفين أو الرواة ـ من كتَّاب وزرائه ، أن يدعو الجواد (ع) إلى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه وقال : لقد علمت أني لا أحضر مجالسكم ، فقال : إنما أدعوك الى الطعام وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك ، فقد أحب فلان ابن فلان من وزراء الخليفة لقاءك ، فصار إليه ( ودسَّ إليه السم في الطعام ) فلما طعم (ع) أحس بالسم ، فدعى بدابته فسأله رب المنزل أن يقيم ، فقال: خروجي من منزلك خير لك فلم يزل يومه ذاك وليلته يجود بنفسه والسمَّ يسري في بدنه حتى قبض (ع) .
آه ، إمام الحق ، هذا جزاؤك بعد كل هذا أنك لم ترِم لهم إلاّ الخير ، ولم يبغوا لك إلاّ الشر فسقياً لك ورعياً ، وتعساً لهم وويلاً ، غدُر واللـه ومكّر واللـه إن يطعموك السم وأنت في ربيع أيامك ، ولكن لك في الأولين من آبائك أسوة حسنة ، ولهم في الأولين من آبائهم أسوة سيئة فعليك السلام وعليهم اللعنة والعذاب .
نعم ، انطفأ ذلك المشعل الوهاج وخلَّف وراءه الأمة الإسلامية تجّر حسراتها تندبه كالأرض تنتدب بعد مغيب الشمس .
لقد كان الإمام الجواد (ع) أحدث الأئمة الإثني عشر سناً باستثناء الإمام الحجة (ع) حين انتقلت إليه الخلافة الروحية في آخر صفر من سنة 202 ـ وهو ابن سبع وكان أحدثهم سناً على الإطلاق ، فحينما استشهد في آخر ( ذي القعدة سنة 220 من الهجرة ) وكان عمره آنذاك خمسة وعشرين ربيعاً كما كانت مدة إمامته ثماني عشرة سنة .
وضجت بغداد بوفاة ابن الرضا (ع) وذهبت الشكوك تحوم حول البلاط وكادت تتفجر ثورة عارمة على الحكم الجائر ، وصلى عليه ابن المعتصم وولي عهده الواثق بالله كما صلى عليه نجله الكريم الإمام علي بن محمد النقي (ع) ودفن في مرقده في الكاظمية حيث لا يزال يُقصد ويُزار ، فعلى محمد بن علي الجواد (ع) التحية والسلام .
وجاء في بعض الأحاديث عن وفاته (ع) أن المعتصم دعى بعض وزرائه وأمرهم بأن يشهدوا على محمد بن علي الجواد (ع) بأنه قد أراد أن يخرج عليه بثورة يفجرها مع تابعيه من الشيعة الإمامية ذلك لكي يسهل عليه أن يلقي به في السجن أو يقتله قتلاً .
فلما أحضر الإمام التفت المعتصم إليه قائلاً : انك اردت أن تخرج عليّ ، فقال الإمام : والله ما فعلت شيئاً من ذلك ، قال : إن فلاناً وفلاناً شهدوا عليك ، فأحضروا فقالوا : نعم هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك قال : وكان جالساً في بهو ( قاعة في مقدم الدار ) فرفع أبو جعفر يده وقال : اللهم إن كانوا كذبوا عليً فخذهم .
قال الراوي : فنظرنا إلى ذلك البهو كيف يرجف ويذهب ويجئ وكلما قام واحدٌ وقع .
فقال المعتصم : يابن رسول الله إني تائب مما فعلت فادع ربك أن يسكنه ، فقال : اللهم سكّنه إنك تعلم أنهم أعداؤك وأعدائي ، فسكن 24 .

الفصل الثالث

الإمام وعصره 25

عاصر الإمام محمد بن علي الجواد (ع) ، خليفتين عباسيين . والخليفة الذي عاش الإمام في عهده ظروفاً هادئةً ، هو المأمون العباسي .
ومعروف أن المأمون قام بالتقرب إلى العلويين وإلى سيدهم الإمام علي بن موسى الرضا (ع) ، بسبب الضغط الجماهيري الذي تعرض له النظام العباسي حيث تميز عهده بسلسلة من الثورات والإنتفاضات في كافة أرجاء الدولة الإسلامية .
ويقـول بعض المؤرخين : أن المأمون العباسي كان شيعياً ، وكان يذهب إلى أحقية أولاد الإمام علي (ع) بالخلافة ، وإلى إمامة الإمام علي (ع) ، ولكنتا لا نرى ذلك في المأمون العباسي لأن ذلك شرف لا يستحقه خليفة غاصب .
يبقى أن نعرف أنه بعد استشهاد الإمام الرضا (ع) على يد المأمون ، أصبح محمد بن علي الجواد (ع) الإمام الشرعي للرساليين ، ومعروف أن الإمام الجواد (ع) صاهر المأمون العباسي .

لماذا صاهر الإمام الخليفة ؟

ونتساءل لماذا أقدم الإمام الجواد (ع) على الزواج من بنت المأمون العباسي ؟
ولكي نعرف الإجابة عن مثل هذا السؤال لابدّ أن نلقي نظرة على الحركة الرسالية التي كان الأئمة (ع) يقودونها ويوسعونها ، في عصر الإمام الرضا ونجله الإمام الجواد (ع) .
في عهد المأمون تحوَّلت الحركة الرسالية إلى حركة تستطيع أن تتداخل مع النظام وتستفيد من مظلته أو حتى تكوّن ما يسمى اليوم بحكومة ائتلافية ، مع أي دولة من الدول ، والأئمة (ع) كانوا يقبلون بالحماية من قبل الدولة بدون أن يفقدوا رسالتهم .
والأئمة المعصومون (ع) لم يحلوا حركتهم ، أي أنهم لم يقبلوا بالخلافة ولم يشتركوا فيها ، والدليل على ذلك موقف الإمام الرضا من ولاية العهد حيث قبلها بشرط عدم التدخل في شؤون النظام .
أما الإمام الجواد (ع) فحينما خطب أبنة المأمون وتزوجها ، أصبح صهر الخليفة واستفاد من ذلك لأجل رسالته فماذا يعني أن يصبح شخص صهراً للخليفة ؟
إن من يدخل البلاط يمكن أن يصير والياً على منطقة ، أو حاكماً على بلد ، أو قاضي القضاة لا أقل ، ولكن الإمام الجواد لم يفعل شيئا من ذلك ، بل أخذ بيد زوجته وذهب إلى المدينة وبقي هناك حتى مات المأمون العباسي .

فماذا كسب الإمام (ع) من هذه المصاهرة ؟

كسب الإمام الجواد (ع) بهذا العمل أمرين :
أولاً :
منع المأمون من أن يقوم بعملية اغتياله ، وذلك بقبوله الزواج من ابنته .
ثانياً :
جعل مخالب السلطة وانيابها في قفص الحركة الرسالية ، وذلك أن المأمون ما كان ليجرؤ بعد ذلك على أن يقوم بالفتك برجالات الحركة ومجموعاتها .
ولقد كان هذا الأسلوب متبعاً في كثير من عصور الأئمة (ع) ، وخير شاهد على ذلك قصة علي بن يقطين بن موسى البغدادي الذي كان بمثابة مستشار للخليفة المهدي العباسي ، ثم صار في رتبة الوزير لهارون الرشيد ، وعندما حصل على هذا المنصب وكان اتجاهه رسالياً ، جاء إلى الإمام الصادق (ع) وقال : ” يا ابن رسول الله أنا صرت عوناً لهذا الطاغية ” وأراد أن يستقيل ، ومعروف أن الذي يحصل على هذا المركز ذلك اليوم يسيطر على مرافق أكبر دولة في العالم .
فطلب منه الإمام أن يظل في عمله ، ويستمر في أداء مهامه الرسالية ويبقى في بلاط هارون ، وعاود الطلب من الإمام بأن يأذن له بترك السلطة إلاّ أن الإمام لم يأذن له ، ولقد كانت أعماله كبيرة بالنسبة للحركة، حتى أن الإمام أبا الحسن (ع) قال فيه عندما دخل عليه داود الرقي، في يوم النحر : ” ما عرض في قلبي أحد وأنا على الموقف إلاّ علي بن يقطين ، فإنه ما زال معي وما فارقني حتى أفضت ” 26 .

عصر المعتصم العباسي

والإمام الجواد (ع) عاصر خليفة من الخلفاء الذين أثَّروا تأثيراً مباشراً على زوال الدولة العباسية ، وهو المعتصم العباسي .
المعتصم العباسي كان ابن أمة تركية ، فمال إلى أخواله فكان يحب جمع الأتراك وشراءهم من أيدي مواليهم ، فاجتمع له منهم أربعة آلاف ، وألبسهم أنواع الديباج والمناطق المذهبة والحلي المذهبة وأبانهم عن سائر الجنود 27 .
ثم وسمهم رتباً قيادية في الجيش حتى أنه ثارت ثائرة العسكريين العرب في الجيش ، فلقد حاول “عجيف ” أن يقلب الحكم على المعتصم ليولّي العباس بن المأمون ، ولكن هذه المحاولة أخفقت وقتله المعتصم .
والأتراك حينما جاؤوا إلى البلاد الإسلامية أخذوا شيئاً فشيئاً يسيطرون على الحكم ويجردون الخلفاء من سلطتهم الحقيقية ، وأخذوا يحدثون الانقلابات العسكرية ( كما نسميها الآن ) .
حتى وصل بهم الأمر إلى أنه إذا مال عنهم خليفة عباسي ، فإنهم كانوا يقتلونه غيلة ، ثم ينصبون رجلاً آخر من البيت العباسي مكانه ، فابتداءً من المتوكل إلى المستعين إلى المهتدي وانتهاءاً بالمقتدر ، كل هؤلاء قتلوا بواسطة القادة العسكريين الأتراك .
وهكذا كانوا يقومون بالخلع والقتل لأي خليفة لم تتجاوب أهواءه مع أهوائهم ، وليس ذلك لشيء في تركيبة العنصر التركي ، وإنما نتيجة للحالة المتردية التي وصل إليها المجتمع الإسلامي من الانحلال والفساد الخلقي الشامل .
والإمام الجواد (ع) استفاد من هذا الوضع في تغذية الحركات الرسالية التي كانت تضع جنينها للمستقبل ، وفي هذا الوقت كانت الثورة التي قام بها محمد بن القاسم بن علي الطالبي تقلق السلطة ولا تدعها تعيش في هدوء وسكينة .

نموذج من الثورة العلوية

لقد كانت ثورة محمد بن القاسم بن علي بن عمر ابن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) أبرز ثورة في عهد الإمام الجواد (ع) .
كان محمد بن القاسم جليل القدر إذا ما قرأنا يوميات جهاده . كانت العامة تلقبه بالصوفي ، لأنه كان يدمن لبس الصوف الأبيض الخشن ، وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد .
كان قد ذهب إلى ( مرو ) في مقاطعة خراسان ، وكان معه من الكوفيين بضعة رجال ، وذلك بعد أن رحل من الكوفة ، وكان قبل ذلك قد خرج إلى ناحية الرقة ، ومعه جماعة من وجوه الزيدية ، منهم يحيى بن الحسن بن الفرات ، وعبّاد بن يعقوب الرواجني ، والزيدية كانت تشكل القاعدة للكثير من الثورات .
روى إبراهيم بن عبد العطّار : ” كنا معه ، فتفرقنا في الناس ندعوهم إليه ، فلم نلبث إلاّ يسيراً حتى استجاب له أربعون ألفاً ، وأخذنا عليهم البيعة ، وكنا أنزلناه في رستاق من رساتيق مرو ، وأهله شيعة كلهم ، فأحلوه في قلعة لا يبلغها الطير في جبل حريز ” 2 .
ومرة سمع بكاء في ( مرو ) فندب أحد أصحابه ليرى ما هذا البكاء ، فجاءه بخبر أن أحد الذين بايعوه قد كان غصب شيئاً من أحد الرجال ، فأصلح بينهما ، فقال محمد لصاحبه إبراهيم : ” يا إبراهيم : أبمثل هذا ينصر دين اللـه ؟ ثم قال : فرقوا الناس عني حتى أرى رأيي ” .
فانتخب الصالحين من الذين بايعوه ثم سار بهم ، وهذا نموذج من طبيعة الثورات الرسالية إذ أنها لم تكن تبيح أية وسيلة في سبيل الوصول إلى الهدف ، بل مثلما يكون الهدف هو إقامة حكم الله عزّ وجلّ ، يجب أن تكون الوسيلة أيضاً مرضية من قبل الله تعالى .
وهذا كان يربي المجتمع على عشق المثل العليا ، والمبادئ السامية ، وبعدما نقّي اصحابه ، ساروا إلى الطالقان .

ويروي إبراهيم صاحبه

” ورحل محمد بن القاسم من وقته إلى الطالقان ، وبينها وبين مرو أربعين فرسخاً ، فنزلها وتفرقنا ندعو الناس فاجتمع عليه عالم ، وجئنا إليه ، فقلنا له : إن أتممت أمرك ، وخرجت فنابذت القوم ، رجونا أن ينصرك الله ، فإذا ظفرت اخترت حينئذ من ترضاه من جندك ، وإن فعلت كما فعلت بمرو ـ يقصد اختيار الصالحين فقط ـ ، أخذ عبد الله بن طاهر يعقبك ، وهكذا أراد صاحبه ” ابراهيم ” أن يثنيه عن إبعاد الذين ليسوا بملتزمين جيداً عن جيش الثورة ” . ولكن محمد بن القاسم أبى ذلك ، ودخل محمد بن القاسم مع عبد الله بن طاهر في حروب كثيرة وكان يلحق به شرَّ الهزائم .
ومرة هدأت صولات الحرب بينهما ، فسارع عبد الله بن طاهر بإرسال كل جيوشه مقسمة في فرق ضمن خطة ماكرة جداً ، وقال ابن طاهر لقائد جيوشه وهو ابراهيم بن غسان بن فرج العودي :
” قد جرَّدت لك ألف فارس من نخبة عسكري ، وأمرت أن يحمل معك مائة ألف درهم تصرفها فيما تحتاج إلى صرفها من أمورك ، وخذ من خيلي ثلاثة أفراس نجيبة معك تنتقل عليها ، وخذ بين يديك دليلاً قد رسمته لصحبتك فادفع إليه من المال ألف درهم ، واحمله على فرس من الثلاثة فليركض بين يديك ، فإذا صرت على فرسخ واحد من ” نسا ” ، ( وهي المدينة التي يتواجد فيها محمد بن القاسم ) فافضض الكتاب ، واقرأه واعمل بما فيه ولا تغادر منه حرفاً ، ولا تخالف مما رسمته شيئاً واعلم أن لي عيناً في جملة من صحبك يخبرني بأنفاسك ، فاحذر ثم احذر وأنت أعلم ” .
وهذا يبين مدى خوف ابن طاهر من أن يكون هذا القائد يميل إلى صف محمد بن القاسم ، فلقد كان ذلك شيئا طبيعياً لأن نفوس الناس كانت مع الحركة الثورية ، ولكن السلطات كانت تجلب وتسخّر الناس في ضرب الحركة الرسالية مرة بالتهديد ومرة بالإغراء ومرة بالإفساد ومرات بأساليبها المختلفة حتى أن ابن طاهر يقول : جعلت عيوناً عليك يرقبون أنفاسك .
فسار قائده إلى ” نسا ” وقبل أن يصل بفرسخ فتح كتاب ابن طاهر وإذا فيه الخطة كاملة ، والبيت الذي يسكن فيه محمد بن القاسم ، وصاحبه أبو تراب ، ويأمره فيه أن يستوثقهما بالحديد ، استيثاقاً شديداً ، وأن ينفذ خاتمه مع خاتم محمد بن القاسم أول ما يظفر به ، وقبل أن يعود خطوة واحدة لكي يطمئن ، وعلى الذي يرسلهما معه أن يركض بهما ركضاً ، ثم يكتب إليه شرح ما حدث . ” وكن على غاية التحرز والتحفظ والتيقظ من امره حتى تصير به وصاحبه إلى حضرتي ” .
نجحت الخطة وحمل محمد بن القاسم مع صاحبه أبو تراب إلى ابن طاهر في نيسابور ، فجاء ابن طاهر ليراهما فقال لقائده :
” ويحك يا إبراهيم ” أما خفت اللـه في فعلك ـ يقصد القيود الثقيلة جداً التي وضعها على محمد وصاحبه ـ أتقيد هذا الرجل الصالح بمثل هذا القيد الثقيل ؟
فقال إبراهيم العودي ( قائده ) :
” أيها الأمير خوفك أنساني خوف الله ووعدك الذي قدمته إليّ أذهل عقلي عما سواه ” .
وكانا يتكلمان من فوق سطح يطل على الغرفة المسجون بها محمد بن القاسم في نيسابور .
فقال ابن طاهر : خفف هذا الحديد كله عنه ، وقيِّده بقيد خفيف في حلقته رطل وليكن عموده طويلاً ، وحلقتاه واسعتين ليخطو فيه ، وفي فترة سجن محمد بن القاسم طلب قرآناً يتدارس فيه .
وكان عبد الله بن طاهر يخرج من اصطبله بغالاً عليها القباب ليوهم الناس أنه قد أخرجه ، ثم يردّها حتى استتر بنيسابور ، سلّه في جوف الليل ، وخرج به مع إبراهيم العودي ووافى به الري ، وقد أمره عبد اللـه بن طاهر أن يفعل به كما فعل هو ، يخرج في كل ثلاث ليال ومعه بغل عليه قبة ، ومعه جيش حتى يجوز الري بفرسخ ، ثم يعود إلى أن يمكنه سلّه ، ففعل ذلك خوفاً من أن يغلب عليه لكثرة من أجاب محمد بن القاسم بالبيعة له ، حتى أخرجه من الري ولم يعلم به أحد ، ثم اتبعه حتى أورده بغداد على المعتصم .
وقد سمع المعتصم بمسير محمد إلى بغداد ، فأرسل إلى طاهر العودي أن انزع العمامة من عليه واجعله حاسراً وانزع رداء قبة البغل ليكون على البغل حاسراً ، ثم أدخله بغداد .
وكان يريد بذلك تعذيب محمد نفسياً والحط من كرامته ، وقد ازدحم الناس ازدحاماً شديداً على الطرقات حين إدخال محمد بن القاسم إلى بغداد ، ثم أدخل على المعتصم في مجلس اللهو والشراب .
وقيل : وجعلت الفراغنة يحملون على العامة ويرمونهم بالقذر والمعتصم يضحك ، ومحمد بن القاسم يسبّح ويستغفر اللـه ويحرك شفتيه يدعو عليهم ، والمعتصم جالس يشرب ، ومحمد واقف إلى أن انتهى من لعبه فأمر بسجنه .
وسرعان ما دبّر محمد بن القاسم حيلة ذكية للهروب ، ثم توارى عن الأنظار في بغداد ثم إلى واسط ، وقد شَدَّ وسطه للوهن الذي أصاب فقار ظهره عند عملية هروبه . وظل محمد مختفياً بعد ذلك إلى نهاية عهدَي المعتصم ومحمد الواثق ، ثم بعض أيام المتوكل ، وقيل أنه أخذ إليه فحمل إلى السجن حتى مات فيه .
ولكن ماذا فعل خلال فترة تواريه عن الأنظار وهي ليست بالفترة القليلة ؟ هذا ما أجابت عليه الثورات العديدة التي قامت بعد ذلك في عهد المتوكل ، والمستعين وما بعده من الخلفاء ، التي لم تدع الخليفة يلعب ويلهو براحة .
وفي واسط سكن محمد بيتاً يعود إلى أم ابن عمه علي بن الحسن بن علي بن عمر ابن الإمام زين العابدين (ع) وكانت عجوزاً مقعدة ، فلما نظرت إليه وثبت فرحاً وقالت : ” محمد والله ، فدتك نفسي وأهلي ، الحمد لله على سلامتك ” فقامت على رجلها وما قامت قبل ذلك بسنين .
وقال إبراهيم العودي ، قائد جيوش ابن طاهر يصف محمداً :
ما رأيت قط أشدّ اجتهاداً منه ، ولا أعف ، ولا أكثر ذكراً لله عزّ وجلّ مع شدة نفس ، واجتماع وما أظهر من جزع ولا انكسار ولا خضوع في الشدائد التي مرت به ، وإنهم ما رأوه قط مازحاً ولا هازلاً ولا ضاحكاً إلا مرة واحدة ، فإنهم لما انحدروا من عقبة حلوان أراد الركوب ، فجاء بعض أصحاب إبراهيم بن غسان العودي ، فطأطأ له ظهره ، حتى ركب في المحمل على البغل ، فلما استوى على المحمل قال للذي على ظهره مازحاً : ” أتأخذ أرزاق بني العباس وتخدم بني علي بن أبي طالب ؟ وتبسم ” .
وقال : عرضوا على محمد بن القاسم كل شيء نفيس من مال وجواهر وغير ذلك ، فلم يقبل إلاّ مصحفاً جامعاً كان لابن طاهر فلمّا قبله ، سُر عبد الله بن طاهر بذلك ، وإنما قبله لأنه كان يدرس فيه .
ووجود شخصية ثورية مثل محمد وثورة مثل ثورته تدلان على أن الحركة الرسالية لم تتوقف يوماً ما عن مسيرتها ، وأنها لا يمكن أن تميل عن استقامتها التي كانت معهودة بها ، وهاتان ميزتان موجودتان في طول الثورات التي قامت بها الحركة الرسالية .
بجانب وضع السلطة المتأزم ومن عهد الإمام الجواد (ع) بدأت مسيرة ذات كيفية خاصة للثورات وطبيعتها ، ووضع الحركة الرسالية في أيام الإمام الجواد كان جيداً ، وإذا كان أحرج وقت مرّ على الحركة الرسالية هو في أيام الإمام موسى بن جعفر (ع) ، فإن أحسن الأوقات كانت في عهد الإمام الجواد (ع) ، وربما لذلك جاء في الحديث المأثور عن ابن اسباط وعبّاد بن إسماعيل :
” أنا لَعند الرضا (ع) بمنى إذ جيء بأبي جعفر (ع) قلنا : هذا المولود المبارك ؟ قال : نعم هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام أعظم بركة منه ” 28 .
وروي أبو يحيى الصنعاني قال : كنت عند أبي الحسن (ع) فجيء بابنه أبي جعفر (ع) وهو صغير فقال :
” هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم على شيعتنا بركة منه ” .
والبركة التي حصلت للحركة الرسالية بولادة الإمام الجواد (ع) ليست في ارتفاع الإرهاب والاختناق السياسي عنهم فقط بل وأهم من ذلك في تجذر الرسالة عقيدة وفكراً وسياسةً وفقهاً .

الفصل الرابع

خلقه وفضائله

أ ـ الجواد الكريم

كان يلقب إمامنا التاسع بالجواد لما كان يشتهر به من الجود الذي فاض فغمر السهل والجبل كما يغمر الضوء السهول .

وإليك قصصاً من جوده

ـ لقد كان برنامجه العملي ، كتاب وفد إليه من والده من خراسان وله زهاء ست سنوات من العمر ومضمون الكتاب ما يلي :
فأسألك بحقي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلاّ من الباب الكبير وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة ثم لا يسألك أحد إلاّ وأعطيته . من سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً والكثير إليك، ومن سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة وعشرين ديناراً والكثير إليك ، إني أريد أن يرفعك اللـه فأنفق ولا تخشى من ذي العرش افتقاراً .
ـ وروي أنه حمل له حمل بزّله قيمة كثيرة ، فسل في الطريق ، فكتب إليه الذي حمله يعرفه الخبر ، فوقَّع بخطه أن أنفسنا وأموالنا من مواهب اللـه الهنيئة وعواريـه المستودعة يمنع بما منع منها في سرور وغبطة ويأخذ ما أخذ منها في أجر وحسبة فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره ونعوذ باللـه من ذلك 29 .
ـ ودخل عليه بعض أصحابه الذي كان للإمام عليه دين يقول له : جعلت فداك اجعلني من عشرة آلاف درهم في حل فإني انفقتها ، فقال له أبو جعفر (ع) : أنت في حل ، الحديث 30 .

ب ـ زهده وتقواه

ـ ينقل بعض الرواة أنه حججت أيام أبي جعفر (ع) وجئت إليه في المدينة فدخلت الدار فإذا أبو جعفر (ع) قائم على دكان لم يكن فُرِش له ما يقعد عليه ، فجاء غلام بمصلى فألقاه له فجلس فلما نظرت إليه تهيبته ودهشت فذهبت لأصعد الدكان من غير درجه فأشار إلى موضع الدرجة فصعدت وسلمت فردّ السلام ومد إلي يده فأخذتها وقبّلتها ووضعتها على وجهي وأقعدني بيده فأمسكت بيده مما دخلني من الدهشة فتركها في يدي فلما سكنت خليتها .
ـ واستقبل الناس في حفلة أقيمت تكريماً له أيام الحج ، وقد حضرها من فقهاء العراق ومصر والحجاز جمع غفير استقبلهم بقميصين وعمامة بذؤابتين ونعلين .
ـ وينقل عن ابي هاشم قوله : أن أبا جعفر أعطاني ثلاثمائة دينار في مرة وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمه ، وقال : أما أنه سيقول لك دلني على من أشتري بها منه متاعاً ، فدلّه ، قال : فأتيته بالدنانير، فقال لي يا أبا هاشم ، دلني على عريف يشتري بها متاعاً ففعلت 31 .
ـ وعن أحد أصحابه الذي كان يدعى ( ابن حديد ) قال : خرجت مع جماعة حجاجاً ، فقطع علينا الطريق ، فلما دخلت المدينة لقيت أبا جعفر (ع) في بعض الطريق ، فأتيته إلى المنزل فأخبرته بالذي أصابنا ، فأمر لي بكسوة وأعطاني دنانير وقال : فرّقها على أصحابك على قدر ما ذهب ، فقسمتها بينهم فإذا هي على قدر ما ذهب منهم لا أقل ولا أكثر .
ـ وقال بعضهم : جئت إلى أبي جعفر (ع) يوم عيد فشكوت إليه ضيق المعاش ، فرفع المصلى وأخذ من التراب سبيكة من ذهب فأعطانيها فخرجت بها إلى السوق فكانت ستة عشر مثقالاً 32 .
ـ وقال عمر بن الريّان : احتال المأمون على أبي جعفر (ع) ـ لكي يهوي به مزالق الفساد فينقص من كرامته وهيبته لدى الناس جمـيعاً ـ فأحتال بكل حيلة فلم يمكنه في شيء ، فلما أراد أن يثني عليه ابنته جاء بمائة وصيفة من أجمل ما يكون ، ودفع إلى كل واحدة منهن جاماً فيه جوهر يستقبلن ابا جعفر (ع) إذا قعد في موضع الأختان ، فلم يلتفت الإمام (ع) إليهن ، وكان رجل يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب ، طويل اللحية فدعاه المأمون فقال : إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره ، فقعد بين يدي أبي جعفر فشهق شهقة اجتمع إليه أهل الدار ، وجعل يضرب بعوده ويغني ، فلما فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت لا يميناً ولا شمالاً ، ثم رفع رأسه إليه وقال : إتق اللـه يا ذا العثنون ( أي اللحية ) فسقط المضراب من يده والعود ، فلم ينتفع بيده إلى أن مات 33 .
ـ وجاء بعض أصحاب أبيه ، وقد كان حديثاً في السن ، وحمل معه شيئاً مما يلعب به الأطفال ، فيقول لما جئته ووقفت أمامه مسَلّماً لم يأذن لي بالجلوس ، فرميت بما كان معي بين يديه فغضب علي وقال : ما لهذا خلقنا .

ج ـ علمه وثقافته

لقد سبق الحديث عن علم الأوصياء (ع) في كتابي الخاص بحياة الإمام جعفر الصادق ناشر علوم آل البيت ومبلغها الشرق والغرب ، وسبق بيان معنى علم الأوصياء بالمغيبات ، ومع ذلك فلا أجد بُدّاً من أن أبحث ها هنا عن علم الإمام الجواد الغزير ، وثقافته التي نبعت عن قلب ملهم ، وفؤاد مفعم أقول : لقد كثر في الأحاديث إنباؤه (ع) الناس بما يجول في خاطرهم وبما يأتي عليهم مستقبلاً ، ولا يعني ذلك أن الأئمة (ع) يعلمون الغيب ، وإنما يعني أنهم (ع) متصلون بالله سبحانه وتعالى عن طريق الإلهام أو عن طريق النبي (ص) ، فيستقون معارفهم بشكل مباشر بينما يستقي سائر البشر معارفهم عبر الحواس والتجارب مثلاً .
وإذا أثبتت التجارب الحديثة وجود الحس السادس عند بعض الأفراد ، سهل علينا أن نعتقد بأن شيئاً ما يوجد في بعض الأشخاص الذين يشاء اللـه لهم ذلك ، أضف إلى ذلك أن الإيمان بقدرة اللـه واستطاعته على أن يفعل كل شيء دون أي استثناء ، يحدو بالفرد إلى تقبل كل ممكن إذا ثبت أن الله قد أراده .
وروي أن والي مكة والمدينة ( فرج الرغجي ) ، الذي كان من المعارضين لآل البيت قال مرة لأبي جعفر (ع) : إن شيعتك تدَّعي أنك تعلم كل ماء دجلة ووزنه ، وكانا في ذلك الوقت واقفين على شاطئ دجلة ، فقال (ع) : أيقدر الله تعالى أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضة من خلقه أم لا ؟ يقول الراوي : فقال فرج : نعم يقدر ، فقال (ع) : أنا أكرم على الله تعالى من بعوضة ومن أكثر خلقه .
نعم ، إن الغرابة الناشئة عن الشك في قدرة الله لهي أوهى من الشك في ضياء الشمس ، بل يبقى الريب فـي محله إذا كان في الرجل الذي يدّعي هذا المنصب الرفيع ، فلا يستطيع المرء أن يتقبله إلاّ بعد الفحص والتدقيق ، أما إذا كان في أهل بيت الرسول فسوف لا يبقى للشك مجال ، بعد استفاضة حديث متواتر عن النبي (ص) في أنهم قدوة الخلق وأئمتهم ، وبعد أن عرفنا أن كل إمام كان أعلم أهل زمانه في كل شيء منذ ان تنتقل إليه الخلافة الروحية ، وكذلك كان النبي (ص) وأوصياؤه (ع) جميعاً .
ويكفيك في الإمام الجواد ما سبق من أنه سئل في مجلس واحد ثلاثين ألف مسألة ، فأجاب عنها وهو ابن ثمان أو تسع ، وأنه كان في زهاء السادسة عشرة من عمره إذ حضر مجلس المأمون وباحث مع قاضي القضاة ، فأفحمه إفحاماً ، وإذا علمنا بان المأمون كان كما يحدثنا التاريخ أعلم الخلفاء العباسيين وأعرفهم بعلوم أهل زمانه ، ثم رأيناه كيف يخشع لجلال ابن الرضا (ع) في المشاهد التي مضت علينا ، نعرف معنى العلم الإلهي ونوعيته .
وإليك بعض الأحاديث التي تنبئنا عن جانب من علم الإمام الجواد (ع) :
1 ـ عن أمية بن علي قال : كنت مع أبي الحسن بمكة في السنة التي حج فيها ، ثم صار إلى خراسان ومعه أبو جعفر وأبو الحسن يودع البيت ، فلما قضى طوافه عدل إلى المقام فصلى عنده فصار أبو جعفر على عنق موفق يطوف به ، فصار أبو جعفر إلى الحجر ، فجلس فيه فأطال ، فقال له موفق : قم جعلت فداك ، فقال : ما أريد أن ابرح من مكاني هذا إلاّ أن يشاء الله ، واستبان في وجهه الغم ، فأتى موفق أبا الحسن (ع) ، فقال له : جعلت فداك قد جلس أبو جعفر في الحجر وهو يأبى ان يقوم ، فقام أبو الحسن (ع) فأتى أبا جعفر فقال له : قم يا حبيبي، فقال : ما أريد أن أبرح من مكاني هذا، فقال : بلى يا حبيبي ، ثم قال : كيف أقوم وقد ودّعت البيت وداعاً لا ترجع إليه ، فقال : قم يا حبيبي ، فقام معه .
2 ـ كان يحيى بن أكثم قاضي القضاة في عهد المأمون ، ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه تشيع أخيراً أو كان شيعياً ، وينقل عنه أنه قال : فبينا أطوف بقبر رسول اللـه (ص) ، رأيت محمد بن علي الرضا (ع) يطوف به ، فناظرته في مسائل عندي ، فاخرجها إلي ، فقلت له واللـه إني أريد أن أسألك مسألة واحدة ، وإني والله لأستحي من ذلك ، فقال لي ، أنا أخبرك قبل أن تسألني ، تسألني عن الإمام ، فقلت هو واللـه هذا ، فقال : إذاً هو ، فقلت : علامة ، فكان في يده عصا فنطقت وقالت : إنه مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة 34 .
3 ـ نقل بعض الرواة أنه اجتاز المأمون بابن الرضا (ع) وهو ما بين صبيان ، فهربوا سواه فقال : عليّ به ، ثم قال له : مالك لم تهرب في جملة الصبيان ؟ قال : مالي ذنب فأفرّ منه ، ولا الطريق ضيق فأوسعه عليك ، سر حيث شئت ، فقال : من تكون أنت ؟ قال : أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) ، فقال : ما تعرف من العلوم ؟ قال : سلني عن أخبار السماوات ، فقال : ما عندك من أخبار السماوات ، فقال : نعم يا أمير المؤمنين حدثني أبي عن آبائه عن النبي (ص) عن جبرائيل عن رب العالمين أنه قال : بين السماء والهواء بحر عجاج ، تتلاطم به الأمواج ، فيه حيات خضر البطون ، رقط الظهور ، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب يمتحن به العلماء .
فقال : صدقت وصدق أبوك وصدق جدك وصدق ربك ، فأركبه ، ثم زوّجه أم الفضل 35 .
4 ـ ويروي عن فاصد طلبه الإمام أبو جعفر الثاني في عهد المأمون ، فقال له : افصدني في العرق الزاهر ، فقال له : ما أعرف هذا العرق يا سيدي ، ولا سمعت به ، فأراه إياه ، فلما فصده خرج منه ماء أصفر فجرى حتى امتلأ الطشت ، ثم قال له أمسكه ، وأمر بتفريغ الطشت ثم قال خل عنه ، فخرج دون ذلك ، فقال شده الآن ، فلما شد يده ، أمر له بمائة دينار فأخذها وجاء إلى يوحنا بن بختيشوع ، فحكى له ذلك ، فقال واللـه ما سمعت بهذا العرق من نظرتي في الطب ، ولكن هاهنا فلان الأسقف ، قد مضت عليه السنون ، فامض بنا إليه ، فإن كان عنده علمه ، وإلاّ لم نقدر على من يعلمه ، فمضينا ودخلنا عليه ، وقصّ القصص ، فأطرق ملياً ثم قال : يوشك أن يكون هذا الرجل نبياً أو من ذرية نبي .
وهكذا تمضي الأحاديث تنقل عن الأئمة عجباً ، ولكن لا عجب من أمر الله ، إذ يشاء أن يجعل علمه ومعرفته وقوته وقدرته في إنسان امتحن قلبه ، فزكّاه وطهّره تطهيراً .

د ـ من كلمات الإمام

الروايات المفتعلة ـ يروى أن المأمون لما زوّج ابنته أم الفضل أبا جعفر (ع) ، كان ذات يوم في المجلس وعنده الإمام ويحيى بن أكثم ، وجماعة كثيرة ، فقال له يحيى بن أكثم : ما تقول يا ابن رسول اللـه في الخبر الذي روي أنه نزل جبرائيل على رسول الله (ص) وقال : يا محمد إن الله عز وجلّ يقرؤك السلام ويقول لك : سل أبا بكر هل هو عني راضي ، فإني عنه راضي فقال أبو جعفر : لست بمنكر فضل أبي بكر ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله (ص) في حجة الوداع :
( قد كثرت علي الكذّابة ، وستكثر ، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث فأعرضوه على كتاب الله وسنتي فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به ) .
ولا يوافق هذا الخبر كتاب الله ، قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ 36 .
فالله عزّ وجلّ خفي عليه رضا أبي بكر من سخطه حتى سأل من مكنون سره ، هذا مستحيل في المعقول .
ثم قال يحيى بن أكثم : وقد روي أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرائيل وميكائيل في السماء .
فقال (ع) : وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه لأن جبرائيل وميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، وهما قد أشركا باللـه عزّ وجلّ وإن أسلما بعد الشرك ، وكان أكثر أيامهما في الشرك بالله فمحال أن يشبّههما بهما .
قال يحيى : وقد روي أيضاً أنهما سيدا كهول أهل الجنة فما تقول فيه ؟
فقال (ع) : وهذا الخبر محال أيضاً لأن أهل الجنة كلّهم يكونون شباباً ولا يكون فيهم كهل ، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول اللـه في الحسن والحسين بأنهما سيدا شباب أهل الجنة .
فقال يحيى بن أكثم : إن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة ؟
فقال (ع) : هذا أيضاً محال ، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين ، وآدم ومحمداً وجميع الأنبياء والمرسلين ، لا تضيء بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر .
فقال يحيى : وقد روي أن السكّينة تنطق على لسان عمر .
فقال (ع) : إن أبا بكر كان أفضل من عمر فقال على رأس المنبر : إن لي شيطاناً يعتريني ، فإذا ملت فقّوموني .
فقال يحيى : قد روي أن النبي (ص) قال : لو لم أبعث لبُعِثَ عمر ؟
فقال (ع) : كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، يقول الله في كتابه : ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ … ﴾ 37 .
فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه ، وكان الأنبياء لم يشركوا طرفة فكيف يبعث بالنبوة من أشرك ، وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله وقال رسول الله (ص) : نبئت وآدم بين الروح والجسد .
فقال يحيى بن أكثم : وقد روي أن النبي (ص) قال :
ما أحْتُبس الوحي عنّي قط إلاّ ظننته قد نزل على آل الخطاب ، فقال (ع) : وهذا محال أيضا لأنه لا يجوز أن يشك النبي في نبوته . قال الله تعالى : ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ 38 .
فكيف يمكن أن تنقل النبوة ممن اصطفاه الله إلى من أشرك به .
قال يحيى بن أكثم : ان النبي (ص) قال : لو نزل العذاب لما نجي منه إلاّ عمر .
فقال (ع) : وهذا محال أيضاً ، إن الله يقول : ﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ 39 .
فأخبر سبحانه ألا يعذب أحداً مادام فيهم رسول الله (ص) وماداموا يستغفرون 40 .

هـ ـ أنا محمد

ـ وروي أنه جيء بأبي جعفر (ع) إلى مسجد رسول الله (ص) بعد موت أبيه وهو طفل ، وجاء المنبر ورقى منه درجة ثم نطق فقال :
( أنا محمد بن الرضا ، أنا الجواد ، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب ، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم ، وما أنتم صائرون إليه ، علم منحنا به من قبل خالق الخلق أجمعين ، وبعد فناء السماوات والأرضين ، ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الضلال ، ووثوب أهل الشك لقلت قولاً تعجب منه الأولون والآخرون ) .
ثم وضع يده الشريفة على فيه وقال : يا محمد اصمت كما صمت آباؤك من قبل .
وفيما نأتي على هذا القدر المقدور نحمد الله تعالى ونصلّي على نبيّه والمعصومين من آله ونسلم لهم تسليماً 41 .

  • 1. بحار الأنوار : ( ج 50 ، ص 22 ) .
  • 2. a. b. c. المصدر .
  • 3. المصدر : ( ص 20 ) .
  • 4. بحار الأنوار : ( ج 50 ، ص 63 ) .
  • 5. القران الكريم : سورة الزخرف ( 43 ) ، الآية : 32 ، الصفحة : 491 .
  • 6. القران الكريم : سورة مريم ( 19 ) ، الآية : 12 ، الصفحة : 306 .
  • 7. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 22 ، الصفحة : 237 .
  • 8. القران الكريم : سورة الاحقاف ( 46 ) ، الآية : 15 ، الصفحة : 504 .
  • 9. بحار الأنوار : ( ج 50 ، ص 24 ـ 37 ) .
  • 10. نفس المصدر .
  • 11. الكافي : ( ج 1 ، ص 322 ) .
  • 12. القران الكريم : سورة القمر ( 54 ) ، الآية : 24 ، الصفحة : 529 .
  • 13. القران الكريم : سورة القمر ( 54 ) ، الآية : 25 ، الصفحة : 529 .
  • 14. أي باشر ووطئ بهيمة .
  • 15. المصدر : ص 85 ومن المحتمل أن يكون عمره ثمان سنوات فقط كما هو مذكور في بعض الأحاديث ، حيث أن الذي يبدو من هذا الحديث : أن الشيعة كانت قد اجتمعت بالمدينة في الموسم بعد وفاة الإمام الرضا مباشرة .. وكان للإمام الجواد (ع) ، ( 7 ) سنين حين موته في آخر شهر صفر ، فلما انقضت سبعة أشهر جاء شهر رمضان ودخل الجواد في الثامنة ، وفي موسم الحج من تلك السنة كانت هذه المحاورة كما وإن من الممكن كون الأسئلة وجهت إلى الإمام في أيام متعددة مع وحدة المجلس فيكون مجلسه أشبه بالمؤتمرات التي تطول أياماً تباعاً يقضونها بالبحث باستثناء أوقات الراحة والطعام .
  • 16. في هذه الفقرات التالية تبدو بطولته العلمية التي تظهر في مدى استطاعته على التشقيق .
    وقديماً قالوا : تشقيق السؤال نصف الجواب ، بالإضافة إلى بديهة الخاطر ، والذكاء النادر الذي يحيط بجميع جوانب المسألة ، وكل سؤال ثنائي للإمام (ع) يضرب في السؤال السابق عليه ويضرب فيه السؤال اللاحق به ، لأن السؤال يكون على هذا الوجه ، لو كان القتل في الحل فهو على قسمين ، إما أن يكون المحرم عالماً أو جاهلاً ، كما أن القتل في الحرم ينقسم بدوره إلى قسمين ¨ إما أن يكن المحرم عالماً أو جاهلاً ، وهكذا دواليك .
  • 17. القران الكريم : سورة النور ( 24 ) ، الآية : 32 ، الصفحة : 354 .
  • 18. جمع بندقة ، وهي شيء مدور يشبه الجوز .
  • 19. كان الملوك يهبون لبعض الأفراد قطعا كبيرة من الأراضي الأميرية ، فكانت تسمى إقطاعاً .
  • 20. الاحتجاج : ( ص 227 ـ 229 ) وبحار الأنوار : ( ج 50 ، ص 73 ـ 77 ) .
  • 21. مختار الخرائج والجرائح ( ص 208 ) .
  • 22. a. b. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 6 ، الصفحة : 108 .
  • 23. القران الكريم : سورة الجن ( 72 ) ، الآية : 18 ، الصفحة : 573 .
  • 24. مختار الخرائج والجرائح : ( ص 237 ) .
  • 25. اقتبسنا هذا الفصل من كتاب التاريخ الإسلامي للمؤلف : ( ص 343 وص 348 ـ 355 ) .
  • 26. جامع الرواة / العلامة الأردبيلي : ( ج 1 ، ص 609 ) .
  • 27. المسعودي : ( ج 3 ، ص 465 ) .
  • 28. البحار : ( ج 50 ، ص 23 ) .
  • 29. تحف العقول : ( ص 339 ) .
  • 30. بحار الأنوار : ( ج 50 ، ص 105 ) .
  • 31. بحار الأنوار : ( ج 50 ، ص 41 ، ط 2 ) .
  • 32. بحار الأنوار : ( ج 50 ، ص 49 ) .
  • 33. مناقب آل أبي طالب : ( ج 4 ، ص 396 ) .
  • 34. الكافي : ( ج 1 ، ص 353 ) .
  • 35. بحار الأنوار : ( ج 50 ، ص 56 ) .
  • 36. القران الكريم : سورة ق ( 50 ) ، الآية : 16 ، الصفحة : 519 .
  • 37. القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 7 ، الصفحة : 419 .
  • 38. القران الكريم : سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 75 ، الصفحة : 341 .
  • 39. القران الكريم : سورة الأنفال ( 8 ) ، الآية : 33 ، الصفحة : 180 .
  • 40. بحار الأنوار : ( ج 50 ، ص 83 ، ط 2 ) .
  • 41. الإمام الجواد ( عليه السلام ) قدوة وأسوة ، آية الله السيد محمد تقي المدرسي ، مطبعة : مكتب آية الله المدرسي ، الطبعة : الخامسة .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى