مقالات

هل الإمامُ المهديُّ (عج) سيقتُل المُعمَّمين؟

بسم اللّٰه الرَّحمٰن الرَّحيم

بقلم: زكريَّا بركات
5 مايو 2022


تحاول مراكز العداء للتشيُّع والشيعة في العالم إشاعة مجموعة من الشبهات والأفكار المضلِّلة بهدف إضعاف محور المقاومة الذي يحمل لواءه الشيعةُ بكلِّ اقتدار، ومن ذلك ما يرمي إلى إضعاف مكانة الفُقهاء الأُمَناء في الوسط الشيعيِّ، وإيجاد مرجعيَّات بديلة ذات ارتباط بمراكز القرار المعادية.

ومن تلك الشبهات المُغرضة ادِّعاؤهم أنَّ الإمام المهدي (عج) إذا ظهر يبدأ بالمعمَّمين، ويقصدون بالمعمَّمين: علماء الشيعة وطُلَّاب الحوزات الدينيَّة، فيقتلهم الإمامُ المهدي (عج) بعد أن يكونوا في طليعة من يواجهونه.

وتعتمد الشبهة على رواية دلائل الإمامة للطبري (ص242) ، والتي ورد فيها أنَّه (عج) يقتل أوَّلاً ألفاً وخمسمائة قرشيٍّ في المدينة، ثمَّ يقتل خمسمائة مرتاب، ثم يسير إلى الكوفة فيقتل ستَّة عشر ألفاً من البُتريَّة المنافقين من قُرَّاء القرآن الفقهاء في الدين حين يقولون له (عج) : “يا ابن فاطمة؛ ارجع لا حاجة لنا فيك”. وفي كتاب مجمع النورين لأبي الحسن المرندي (ص) رواية أخرى ورد فيها: “فإذا خرج القائم من كربلاء وأراد النجف والناس حوله، قتل بين الكربلاء والنجف ستَّة عشر ألف فقيه”. ومع تطابق العدد المذكور في المصدرين، يحتمل جدًّا أنَّ الكلام في الروايتين حول موضوع واحد مع اختلاف التعبير.

الجواب عن الشبهة:

أوَّلاً: سند رواية “الدلائل” في غاية الضعف، لأنَّ فيه الحسن بن بشير؛ وهو مجهول. وفيه أيضاً محمَّد بن حمران [أو حمدان] المدائني؛ وهو مجهول أيضاً. وفيه أيضاً جعفر بن محمَّد بن مالك الفزاري، وهو مختلف فيه، ضعَّفه النجاشي وغيره، وقد اتُّهم بوضع الحديث. فالرواية ضعيفة السند لا تصلح لإثبات شيءٍ. وأمَّا رواية “مجمع النورين” فهي مجهولة المصدر والسند معاً، ولم يذكر المرندي المتوفَّى سنة 1352 هـ أو 1349 هـ المصدرَ الذي نقل منه هذه الرواية، ولا سندها، ولم أجد لها عيناً ولا أثراً في كتب الشيعة والسنَّة.

ثانياً: ورد في رواية “دلائل الإمامة” وصفُ القوم بالبُترية، والمعروف إطلاق هذا الوصف على الَّذين يخلطون ولاية أهل البيت بولاية غيرهم، ويعتقدون بإمامة أبي بكر وعمر.. ففي رجال الكشي (ص233) ما نصُّه: “هم الذين دعوا إلى ولاية علي (ع) ثمَّ خلطوها بولاية أبي بكر وعمر ويثبتون لهما إمامتهما”. وغنيٌّ عن البيان أنَّ هذا الوصف والمعتقد لا ينطبقان على الشيعة الإماميَّة الاثناعشرية؛ لأنهم لا يعتقدون بإمامة أبي بكر وعمر. وفي كتاب الإرشاد للمفيد (2/384) رواية ضعيفة هي الأخرى، ورد فيها وصف القوم بالبترية. وثمة رواية في بداية الجزء الثالث والخمسين (ج53) من كتاب البحار للمجلسي، وهي ضعيفة السند أيضاً، ورد فيها وصف القوم الكوفيِّين الذين يرفضون بيعة الإمام المهدي (عج) بأنهم أصحاب المصاحف المعروفون بالزيديَّة. وهذه الروايات ـ بسبب ضعفها ـ لا تصلح لإثبات شيء، ولو أصرَّ المعاند الجهول على التمسُّك بها، فمن الواضح أنَّها تتحدَّث عن غير الإماميَّة.

ثالثاً: بالمقارنة بين رواية دلائل الإمامة للطبري (ص242) ورواية الإرشاد للمفيد (2/384) ، نلاحظ أنَّ كلتا الروايتين عن أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام، إلَّا أنَّ رواية الإرشاد للمفيد تخلو من وصف القوم بقرَّاء القرآن أو الفقهاء في الدين، وهذا ممَّا يوجب زيادة الريبة في رواية دلائل الإمامة؛ لأنَّ كتاب الإرشاد أنقى وأصح، بالإضافة إلى وجود مجهولَين مع متَّهم بالوضع في سند دلائل الإمامة، فمن المحتمل أن يكون وصفا (قرَّاء القرآن) و (فقهاء في الدين) ـ وكذا كلمة فقيهاً في كتاب المرندي ـ من اختلاق بعض المجهولين والكذَّابين. ومن المحتمل جدًّا أن يكون هذا هو سبب استبعاد المجلسي لرواية دلائل الإمامة، فلم يوردها في بحار الأنوار، في حين أنه أورد رواية الإرشاد في البحار: الجزء 52 ، الصفحة 338 ، برقم 81 . وأمَّا رواية المرندي فهي غير مذكورة في أي كتاب معروف لعالم شيعي يُعتدُّ به، كما تخلو منها مصادر غير الشيعة، ولا يُستبعد أن تكون مدسوسة في كتاب المرندي نفسه.

رابعاً: ممَّا زعمه خصومُ الشيعة أنَّ الإمام المهدي (عج) إذا ظهر ـ بحسب الرواية الشيعيَّة ـ يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقَّهْ في الدِّين..! حكى ذلك الشيخُ الطبرسي في كتاب إعلام الورى (ص476) ، في المسألة السابعة من الباب الخامس. ومع أنَّ الطبرسي لم يعرف هذه الرواية، وقال إنَّها ـ على تقدير وجودها ـ فهي غير مقطوع بها، ولم أجدها في شيء من كتب الشيعة أو غيرهم، وقد تكون من اختلاقات بعض الوضَّاعين، فإنَّ أصحاب الشبهة حين تمسَّكوا بالضعيف، وهذا ضعيف أيضاً، فحُقَّ لنا أن نقابل ضعيفهم بهذا الضعيف، ونقول لهم: هذه الرواية الضعيفة تؤكِّد على طلب العلم والتفقُّه في الدين وأهمِّية الاتصاف بالفقه قبل بلوغ العشرين عند ظهور الإمام المهدي، فعند من يتفقَّه الآن من أراد طلب العلم؟ أليس عند علماء الشيعة ومن الكتب التي رووها وألَّفوها؟ فإن قلتم: إنَّ الرواية غير محتملة الصِّدق لأنَّ ترك طلب العلم قبل العشرين ليس ذنباً يستحقُّ مرتكبُه القتل، قلنا: قد يكون المرادُ أنَّ الجهلة الذين لم يطلبوا العلم قبل العشرين يكونون ـ بسبب جهلهم ـ منكرين للإمام المهدي (عج) ولذلك يقتلهم، وقد يكون المراد خصوص شريحة من الناس يعادون العلم والعلماء، ولذا يكونون عملاء لأعداء الأمَّة الإسلامية من اليهود والنصارى وأشباههم وأتباعهم، فلذلك يرفضون بيعة الإمام المهدي (عج) فيكونون مستحقين بذلك للقتل.. فليس هناك سبيل إلى الجزم ببطلان الرواية.

خامساً: من المقطوع به ـ عقلاً ونقلاً ـ أنَّ التفقُّه في الدين من أهمِّ الواجبات في الشريعة الإسلاميَّة، والذي يحمل لواء الفقاهة والعلم في كل زمان هم العلماء الصالحون والفقهاء الأمناء ومن يدور في فلكهم من خيار طلَّاب العلم وفضلائهم.. وتعتبر شريحة العلماء والفقهاء شريحة مقدَّسة ذات احترام سامٍ عند جميع المؤمنين، لأنَّهم قُدوة المجتمع ومعلِّمو الناس والحُجَّة التي يعتمد عليها العباد فيما بينهم وبين أهل البيت عليهم السلام، كما إنَّ أهل البيت (ع) هم الحجَّة فيما بينهم وبين الله تعالى.. وهذا كلُّه وارد في نصوص ثابتة صريحة، ومتظافرة صحيحة، بالإضافة إلى الدلالة القطعيَّة للعقل والسيرة العقلائيَّة.

وفي ضوء ذلك نقول: إن كان مراد خصوم الشيعة من شبهتهم هو ذمُّ جميع العلماء والفقهاء، والحكمُ عليهم بالزيغ والانحراف، وبالتالي تعطيل الحوزات العلمية الشريفة، فمن الواضح أنَّها دعوة كاذبة باطلة، بل هي من أقبح صور الكذب والباطل، وأفظع مصاديق المنكر؛ لأنَّها دعوة إلى إلغاء الحجَّة العلميَّة، وإزالة موقع القدوة الصالحة، والهدف من ذلك هو منع الفقهاء الأمناء من قيادة الأمَّة، بما يمهِّد لتمكين السفهاء والعملاء والفسقة والمنافقين من رقاب الناس وإشاعة الجهل والجهالة والفساد في أوساط المجتمع.

وإن كان المراد من ذلك هو القول بأنَّ الفقهاء والعلماء غير الصالحين من الاثناعشرية بالإمكان أن يقفوا في وجه الإمام المهدي (عج) حين يظهر، فنقول: ما الفرق بين غير الصالحين من علماء الاثناعشرية وغير الصالحين من علماء الفرق الأخرى في هذا المجال؟! إن كان فساد النفس وفسق الذات وانعدام التقوى هو السبب في الانحراف عن الإمام المهدي (عج) ، فيستوي في ذلك فسقة الناس جميعاً، بلا فرق بين شيعي وسني وزيدي، بل لا فرق بين مسلم وكافر ومنافق.. فتخصيص علماء الشيعة بالذمِّ ليس له أساس منطقيٍّ، فينبغي أن يُقال ـ مثلاً ـ : إنَّ الإمام المهدي (عج) إذا ظهر فسيقتل الفاسدين من علماء الشيعة والسنَّة والزيديَّة والإباضيَّة.. إلخ. فتخصيص علماء الشيعة بالذكر هو دليل على أنَّ الشبهة أُعدِّت في مطابخ أعداء شيعة أهل البيت (عج) بدوافع كيديَّة، وليست تنطلق من أُسس موضوعية محايدة.

على إنَّنا لا نعرف في التاريخ زعامةً دينيَّة شيعيَّة عامَّة (أقصد مراجع التقليد) اتَّصفت بالانحراف، بل جميع زعمائهم ـ بلا استثناء ـ عُرفوا بأعلى درجات التَّقوى، وأسمى مراتب الاستقامة، والكتُب التي تحدَّثت عن علماء الشيعة البارزين الذين تسنَّموا المرجعيَّة الدينيَّة والزعامة العامَّة، حافلةٌ بذكر مناقبهم، بل مشحونة بقصص كراماتهم، وكثير من علماء الشيعة شهداء قدَّموا أنفسهم فداءً لعزَّة الدين وكرامة المؤمنين.

نعم؛ لقد عُرف عن الفقهاء والعلماء من الطوائف الأخرى خلاف ذلك، فقد كان كثير منهم خُدَّاماً عند سلاطين الجور، وبعض من تولَّوا الزعامة منهم اقتتلوا فيما بينهم وكانوا سبباً في المزيد من الفساد والظلم. وقد يكون هذا هو الموجبَ لسوء ظنِّ أتباعهم بعلماء المسلمين بما يعمُّ علماء الشيعة الأبرار، وقد يكون هذا من أسباب تصديق أتباعهم بمثل هذه الشبهات الواهية.

سادساً: إنَّ علماء الشيعة الاثناعشرية هم الرُّواة لأحاديث الإمام المهدي عليه السلام، وهم أصحاب التصانيف النفيسة والشيِّقة في هذا المجال، وهم الدعاة للناس إلى الانتظار الإيجابي، وهم الذي يشجِّعون الشيعة على الاستعداد لنصرة الإمام المهدي عليه السلام، بينما يقف خصوم الشيعة موقفاً سلبيًّا، يشكِّكون ويحبِّطون، ويحاولون ـ بكلِّ حيلة ـ إنكار وجود الإمام المهدي عليه السلام.. فأيُّ عاقل يمكن أن يصدِّق بأنَّ العلماء الصالحين المؤمنين بالإمام المهدي (عج) والدعاة إليه وإلى نصرته سينكرونه فيقتلهم ويبيدهم، بينما سيكون هؤلاء الفسقة المنكرون له في عصر غيبته هم المتَّبعون له والناجون بولايته عند ظهوره؟! لا يقتنع بهذا الهُراء من أُوتي أدنى حظٍّ من الفهم.

سابعاً: لا شكَّ أنَّ المؤمن كلَّما ازداد علماً وفقهاً في الدين مع التقوى والاستقامة، كان أشدَّ تمسُّكاً بإمام زمانه، وأقدرَ على تفنيد الشبهات التي يحيكها عناكبُ النِّفاق والكفر، وبالتالي فالعلماء الأمناء ومراجع التقليد من الشيعة الاثناعشرية سيكونون سادةَ أنصار الإمام المهدي (عج) حين يأذن الله تعالى له بالظهور، وقد وردَ في وصف أصحاب الإمام المهدي (عج) أنَّهم “القُضاة والحُكَّام والفُقهاء في الدين”، انظر الرواية في كتاب دلائل الإمامة (ص309) ، واللَّفظ في الرواية: “هم النُّجباء والقُضاة والحُكَّام والفُقهاء في الدِّين، يمسح الله بطونهم وظهورهم فلا يشتبه عليهم حُكم”. انتهى. وفي كتاب الفتن للحافظ السنِّي نعيم بن حماد (ص217) ، بسنده عن عبد الله بن مسعود، قال: “يبايع المهديَّ سبعةُ رجالٍ علماء توجَّهوا إلى مكَّة من أُفق شتَّى على غير ميعاد، قد بايع لكلِّ رجُلٍ منهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، فيجتمعون بمكَّة فيبايعونه”. انتهى. فهذان الخبران ـ اللَّذان يصدِّقُهما النظرُ والاعتبار ـ يشهدان بأنَّ للفقهاء والعلماء دوراً قياديًّا في نُصرة الإمام المهدي عليه السلام، فلماذا أغفلهما أصحاب الشبهة؟!

فلو صحَّ أنَّ الإمام المهدي (عج) سيقتل فقهاء وعلماء، فينبغي القول بأنَّ معه من القادة والأنصار الكثيرَ من الفقهاء والعلماء، ولا بُدَّ أنَّ الفقهاء والعلماء الذين سيقتلهم فاسدون منحرفون عن إمامته، خارجون عن طاعته، بغض النظر عمَّا يظهرونه من انتماءات طائفيَّة، ولا بُدَّ أنَّ الفقهاء والعلماء الذين معه ـ قادةً وأنصاراً ـ صالحون عارفون بإمامته وإمامة آبائه الطاهرين.. فالآن ـ قبل ظهوره الشريف ـ ينبغي للمؤمن أن ينظر إلى فقهاء المسلمين وعلمائهم، فمن وجده منهم عارفاً بالإمام المهدي (عج) ، وداعياً إليه، ومنتظراً لظهوره، مع صحَّة العقيدة والاستقامة الفقهيَّة والتقوى والورع والاجتهاد، فهؤلاء هم المتوقَّع أنهم أنصار الإمام المهدي (عج) ، فعليه أن يتَّبعهم وينصرهم ويكون معهم، فهم حُجَّة الله وحُجَّة الإمام المهدي (عج) على سائر الناس. وأمَّا من وجده من الفقهاء والعلماء غير عارف بالإمام المهدي (عج) ، أو غير متَّصف بالاستقامة في العقيدة والفقه، فذاك الذي ينبغي الحذر منه؛ لأنَّه المتوقَّع أن يكون ممَّن يرفض الإمامَ المهديَّ (عج) عندَ ظهوره، كما جَهِلَه ورَفَضَهُ عند استتاره وغيبته.

واللّٰه وليُّ التوفيق، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى