مقالات

عبس و تولى …

نص الشبهة: 

ويذكر المؤرخون بعد قضية الغرانيق، القضية التي نزلت لأجلها سورة عبس وتولى، المكية، والتي نزلت بعد سورة النجم. وملخص هذه القضية: أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يتكلم مع بعض زعماء قريش، ذوي الجاه والمال، فجاءه عبد الله بن أم مكتوم ـ وكان أعمى ـ فجعل يستقرئ النبي (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن، قال: يا رسول الله، علمني مما علمك الله. فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعبس في وجهه، وتولى، وكره كلامه، وأقبل على أولئك الذين كان (صلى الله عليه وآله) قد طمع في إسلامهم، فأنزل الله تعالى: ﴿… عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴾ . وفي رواية: أنه (صلى الله عليه وآله) كره مجيء ابن أم مكتوم وقال في نفسه: يقول هذا القرشي: إنما أتباعه العميان والسفلة، والعبيد، فعبس (صلى الله عليه وآله) الخ.. (وكأن ذلك الزعيم لم يكن يعلم بذلك!! وكأن قريشاً لم تكن قد صرحت بذلك وأعلنته!!). وعن الحكم: ما رؤي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد هذه الآية متصدياً لغني، ولا معرضاً عن فقير. وعن ابن زيد: لو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتم شيئاً من الوحي، كتم هذا عن نفسه (راجع في هذه الروايات: مجمع البيان ج10 ص437 والميزان عن المجمع وتفسير ابن كثير ج4 ص470 عن الترمذي، وأبي يعلى، وحياة الصحابة ج2 ص520 عنه، وتفسير الطبري ج30 ص33 و34، والدر المنثور ج6 ص314 و315. وأي تفسير قرآن آخر لغير الشيعة؛ فإنك تجد فيه الروايات المختلفة التي تصب في هذا الاتجاه، فراجع الأخير على سبيل المثال). فابن زيد يؤكد بكلامه هذا على مدى قبح هذا الأمر، وعلى مدى صراحة الرسول (صلى الله عليه وآله)، حتى إنه لم يكتم هذا الأمر، رغم شدة قبحه وشناعته!. لقد أجمع المفسرون، وأهل الحديث، باستثناء شيعة أهل البيت (عليهم السلام) على أصل القضية المشار إليها.

الجواب: 

ونحن نرى: أنها قضية مفتعلة، لا يمكن أن تصح، وذلك.

أولاً: لضعف أسانيدها، لأنها تنتهي: إما إلى عائشة، وأنس، وابن عباس، من الصحابة، وهؤلاء لم يدرك أحد منهم هذه القضية أصلاً، لأنه إما كان حينها طفلاً، أو لم يكن ولد 1، أو إلى أبي مالك 2، والحكم، وابن زيد، والضحاك، ومجاهد، وقتادة، وهؤلاء جميعاً من التابعين فالرواية إليهم تكون مقطوعة، لا تقوم بها حجة.

ثانياً: تناقض نصوصها 3 حتى ما ورد منها عن راوٍ واحد، فعن عائشة، الأمر الذي يشير إلى وجوب كذب وافتعال لكثير من نصوصها فلا يمكن الاعتماد على الروايات إلا بعد تحديد ما هو صحيح منها.

في رواية: إنه كان عنده رجل من عظماء المشركين، وفي أخرى عنها: عتبة وشيبة.
وفي ثالثة عنها: في مجلس فيه ناس من وجوه قريش، منهم أبو جهل، وعتبة بن ربيعة.
وفي رواية عن ابن عباس: إنه (صلى الله عليه وآله) كان يناجي عتبة، وعمه العباس، وأبا جهل.
وفي التفسير المنسوب إلى ابن عباس: إنهم العباس، وأمية بن خلف، وصفوان بن أمية.
وعن قتادة: أمية بن خلف، وفي أخرى عنه: أبي بن خلف.
وعن مجاهد: صنديد من صناديد قريش، وفي أخرى عنه: عتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف.
هذا، عدا عن تناقض الروايات مع بعضها البعض في ذلك، وفي نقل ما جرى، وفي نص كلام الرسول (صلى الله عليه وآله)، ونص كلام ابن أم مكتوم.
ونحن نكتفي بهذا القدر، ومن أراد المزيد فعليه بالمراجعة والمقارنة.
ثالثاً: إن ظاهر الآيات المدعى نزولها في هذه المناسبة هو أنه كان من عادة هذا الشخص وطبعه، وسجيته، وخلقه: أن يتصدى للغني، ويهتم به ولو كان كافراً ويتلهى عن الفقير ولا يبالي به أن يتزكى، ولو كان مسلماً.
وكلنا يعلم: أن هذا لم يكن من صفات وسجايا نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولا من طبعه، وخلقه.
كما أن العبوس في وجه الفقير، والإعراض والتولي عنه، لم يكن من صفاته (صلى الله عليه وآله) حتى مع أعدائه، فكيف بالمؤمنين من أصحابه وأودائه 4، وهو الذي وصفه الله تعالى بأنه ﴿ … بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ 5.
بل لقد كان من عادته (صلى الله عليه وآله) مجالسة الفقراء، والاهتمام بهم، حتى ساء ذلك أهل الشرف والجاه، وشق عليهم، وطالبه الملأ من قريش بأن يبعد هؤلاء عنه ليتبعوه، وأشار عليه عمر بطردهم، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ … ﴾ 6.
ويظهر: أن الآية قد نزلت قبل الهجرة إلى الحبشة لوجود ابن مسعود في الرواية، أو حين بلوغهم أمر الهدنة، ورجوعهم إلى مكة.
ولكن يبقى إشكال أن ذكر عمر في هذا المقام في غير محله، حيث لم يكن قد أسلم حينئذٍ لأنه إنما أسلم قبل الهجرة إلى المدينة بيسير، كما سنرى.
كما أن الله تعالى: قد وصف نبيه في سورة القلم التي نزلت قبل نزول (عبس وتولى) بأنه على خلق عظيم، فإذا كان كذلك، فكيف يصدر عنه هذا الأمر المنافي للأخلاق، والموجب للعتاب واللوم منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله)، فهل كان الله ـ والعياذ بالله ـ جاهلاً بحقيقة أخلاق نبيه؟ أم أنه يعلم بذلك، لكنه قال هذا لحكمة ولمصلحة اقتضت ذلك؟ نعوذ بالله من الغواية، عن طريق الحق والهداية.
رابعاً: إن الله تعالى يقول في الآيات: ﴿ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴾ 7، وهذا لا يناسب أن يخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه مبعوث لدعوة الناس وتزكيتهم.
وكيف لا يكون ذلك عليه، مع أنه هو مهمته الأولى والأخيرة، ولا شيء غيره.
ألم يقل الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ … ﴾ 8فكيف يغريه بترك الحرص على تزكية قومه 9.
خامساً: لقد نزلت آية الإنذار: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ 10قبل سورة عبس بسنتين فهل نسي (صلى الله عليه وآله): أنه مأمور بخفض الجناح لمن اتبعه؟
وإذا كان نسي، فما الذي يؤمننا من أن لا يكون قد نسي غير ذلك أيضاً، وإذا لم يكن قد نسي، فلماذا يتعمد أن يعصي هذا الأمر الصريح؟! 11.
سادساً: إنه ليس في الآية ما يدل على أنها خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله)، بل الله سبحانه يخبر عن رجل مَّا أنه: ﴿ … عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴾ 12 ثم التفت الله تعالى بالخطاب إلى ذلك العابس نفسه، وخاطبه بقوله: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴾ 13 أي بحضوره مجلس النبي (صلى الله عليه وآله) وسماعه لما يدور فيه الخ..
سابعاً: لقد ذكر العلامة الطباطبائي: أن الملاك في التفضيل وعدمه ليس هو الغنى والفقر، وإنما هو الأعمال الصالحة، والسجايا الحسنة، والفضائل الرفيعة.
وهذا حكم عقلي وجاء به الدين الحنيف، فكيف جاز له (صلى الله عليه وآله) أن يخالف ذلك، ويميز الكافر لما له من وجاهة على المؤمن؟ 14.
والقول: بأنه إنما فعل ذلك لأنه يرجو إسلامه، وعلى أمل أن يتقوى به الدين، وهذا أمر حسن، لأنه في طريق الدين، وفي سبيله، لا يصح، لأنه يخالف صريح الآيات التي تنص على أن الذم للعابس كان لأجل أنه يتصدى لذاك الغني لغناه، ويتلهى عن الفقير لفقره.
ولو صح هذا، فقد كان اللازم أن يفيض القرآن في مدحه وإطرائه على غيرته لدينه، وتحمسه لرسالته؛ فلماذا هذا الذم والتقريع إذاً؟!
ونشير أخيراً: إلى أن البعض قد ذكر: أنه يمكن القول بأن الآية خطاب كلي مفادها: أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا رأى فقيراً تأذى وأعرض عنه.

والجواب

أولاً: إن هذا يخالف القصة التي ذكروها من كونها قضية في واقعة واحدة لم تتكرر..

ثانياً: إذا كان المقصود هو الإعراض عن مطلق الفقير؛ فلماذا جاء التنصيص على الأعمى؟!.
ثالثاً: هل صحيح أنه قد كان من عادة النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك؟!!.

المذنب رجل آخر

فيتضح مما تقدم: أن المقصود بالآيات شخص آخر غير النبي (صلى الله عليه وآله) ويؤيد ذلك:
ما روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، أنه قال: كان رسول الله إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال: مرحباً، مرحباً، والله لا يعاتبني الله فيك أبداً، وكان يصنع به من اللطف، حتى يكف عن النبي (صلى الله عليه وآله) مما كان يفعل به 15.
فهذه الرواية تشير: إلى أن الله تعالى لم يعاتب نبيه في شأن ابن أم مكتوم، بل فيها تعريض بذلك الرجل الذي ارتكب في حق ابن أم مكتوم تلك المخالفة، إن لم نقل: إنه يستفاد من الرواية نفي قاطع حتى لإمكان صدور مثل ذلك عنه (صلى الله عليه وآله)، بحيث يستحق العتاب والتوبيخ؛ إذ لا معنى لهذا النفي لو كان الله تعالى قد عاتبه فعلاً.
هذا ولكن الأيدي غير الأمينة قد حرفت هذه الكلمة؛ فادعت أنه (صلى الله عليه وآله) كان يقول: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، فلتراجع كتب التفسير، كالدر المنثور وغيره، والصحيح هو ما تقدم.

سؤال وجوابه

ولعلك تقول: إنه إذا كان المقصود بالآيات شخصاً آخر؛ فما معنى قوله تعالى: ﴿ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴾ 16وقوله: ﴿ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴾ 17فإن ظاهره: أن هذا التصدي والتلهي من قبل من يهمه هذا الدين؛ فيتصدى لهذا، ويتلهى عن ذاك؟!.

فالجواب

أولاً: إنه ليس في الآيات ما يدل على أن التصدي كان لأجل الدعوة إلى الله أو لغيرها.
فلعل التصدي كان لأهداف أخرى دنيوية، ككسب الصداقة، أو الجاه، أو نحو ذلك.
ثانياً: وقوله تعالى: ﴿ … لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴾ 13 ليس فيه أنه يزكى على يد المخاطب، بل هو أعم من ذلك، فيشمل التزكي على يد غيره ممن هم في المجلس، كالنبي (صلى الله عليه وآله) أو غيره.
ثم لنفرض: أن التصدي كان لأجل الدعوة، فإن ذلك ليس محصوراً به (صلى الله عليه وآله)؛ فهم يقولون: إن غيره كان يتصدى لذلك أيضاً، وأسلم البعض على يديه، لو صح ذلك!.

الرواية الصحيحة

وبعدما تقدم نقول: الظاهر هو أن الصحيح ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله)؛ فجاءه ابن أم مكتوم.
فلما جاءه تقذر منه، وعبس في وجهه، وجمع نفسه، وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك عنه، وأنكره عليه 18.
ويلاحظ: أن الخطاب في الآيات لم يوجه أولاً إلى ذلك الرجل؛ بل تكلم الله سبحانه عنه بصورة الحكاية عن الغائب: إنه ﴿ … عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴾12.
ثم التفت إليه بالخطاب، فقال له مباشرة: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ … ﴾ 13.
ويمكن أن يكون الخطاب في الآيات أولاً للنبي (صلى الله عليه وآله)، من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة). والأول أقرب، وألطف ذوقاً.

إتهام عثمان

ولعلك تقول: إن بعض الروايات تتهم عثمان بهذه القضية، وأنه هو الذي جرى له ذلك مع ابن أم مكتوم 19.
ولكننا نشك في هذا الأمر، لأن عثمان قد هاجر إلى الحبشة مع من هاجر، فمن أين جاء عثمان إلى مكة، وجرى منه ما جرى؟!.
ونجيب بأن هناك نصوصاً تاريخية صرحت بأن أكثر من ثلاثين رجلاً قد عادوا إلى مكة بعد شهرين من هجرتهم كما تقدم، وكان عثمان منهم ثم عاد إلى الحبشة 20.
وعلى كل حال، فإن أمر اتهام عثمان 21 أو غيره من بني أمية، لأهون بكثير من اتهام النبي المعصوم، الذي لا يمكن أن يصدر منه أمر كهذا على الإطلاق.
وإن كان يهون على البعض اتهام النبي (صلى الله عليه وآله) بها أو بغيرها، شريطة أن تبقى ساحة قدس غيره منزهة وبريئة!!.

تاريخ هذه القضية

ونسجل أخيراً: تحفظاً على ذكر المؤرخين لرواية ابن أم مكتوم ونزول سورة عبس، بعد قضية الغرانيق؛ فإن الظاهر هو أن هذه القضية قد حصلت قبل الهجرة إلى الحبشة لأن عثمان كان قد هاجر إلى الحبشة قبل قضية الغرانيق بشهرين كما يقولون، إلا أن يكون عثمان قد عاد إلى مكة مع من عاد بعد أن سمعوا بقضية الغرانيق كما يدعون.

أعداء الإسلام وهذه القضية

ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أن بعض المسيحيين الحاقدين قد حاول أن يتخذ من قضية عبس وتولى وسيلة للطعن في قدسية نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله) 1، ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
فها نحن قد أثبتنا: أنها أكاذيب وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.

أكاذيب أخرى مشابهة

وبالمناسبة فقد رووا: أن الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، جاءا إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فوجداه قاعداً مع عمار، وصهيب، وبلال وخباب، وغيرهم من ضعفاء المؤمنين، فحقروهم، فَخَلَوا بالنبي (صلى الله عليه وآله)، فقالا: إن وفود العرب تأتيك؛ فنستحي أن يرانا العرب قعوداً مع هذه الأعبد فإذا جئناك فأقمهم عنا، قال: نعم.
قالا: فاكتب لنا عليك كتاباً؛ فدعا بالصحيفة، ودعا علياً ليكتب، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ … ﴾ 6 فرمى (صلى الله عليه وآله) بالصحيفة، ودعاهم وجلس معهم، وصار دأبه هذا: أن يجلس معهم، فإذا أراد أن يقوم قام وتركهم فأنزل الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ … ﴾ 22.
فكان يجلس معهم إلى أن يقوموا عنه وفي بعض الروايات: إنهم يقصدون أبا ذر وسلمان 23.
ويردّ هذه الأباطيل جميع ما تقدم حين الكلام عن قصة ابن أم مكتوم، ولذلك فلا حاجة إلى الإعادة، وأيضاً فقد استفاض: أن سورة الأنعام قد نزلت دفعة واحدة في مكة 24، فما معنى أن تكون هذه الآيات قد نزلت بهذه المناسبة في المدينة؟!.
والقول بأن نزولها كذلك لا ينافي كون هذه الآيات نزلت بهذه المناسبة، مرفوض لأنها قد نزلت دفعة واحدة قبل الهجرة، بعد إسلام الأنصار، لأنها نزلت وأسماء بنت يزيد الأنصارية آخذة بزمام ناقة النبي (صلى الله عليه وآله) 25 والآية نزلت في المدينة على الفرض.
على أن قصة عبس وتولى وحدها كافية لأن يرتدع النبي (صلى الله عليه وآله) عن أمر كهذا، ولا سيما إذا كانت تؤنب غيره (صلى الله عليه وآله)، ممن هو ليس بمعصوم على فعل كهذا.
ثم إن سلمان إنما أسلم في المدينة، كما أن أبا ذر قد فارق النبي (صلى الله عليه وآله) فور إسلامه، وأقام بعسفان على طريق قوافل مكة، كما قدمنا.
والظاهر هو أنهم أصروا على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يبعد الفقراء عنه، حتى توسطوا لدى أبي طالب في ذلك، وأشار عليه عمر بقبول ذلك كما جاء في بعض الروايات، فجاءت هذه الآيات في ضمن سورة الأنعام بمثابة رد عليهم، وتفنيد لرأيهم.
وليس في الآيات ما يدل على قبوله (صلى الله عليه وآله) بذلك، كما تدعيه الروايات المزعومة آنفاً.
ولم نتوسع في بيان وجوه الاختلاف بين الروايات، ونقاط الضعف فيها، والرد على هذه المزاعم، اعتماداً على ما ذكرناه في قضية ابن أم مكتوم المتقدمة.
بل إن ظاهر الآية الأولى: أن طرد الذين يدعون ربهم.. قد كان عقاباً لهم على أمر صدر منهم، وذلك بقرينة قوله تعالى فيها: ﴿ … مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ …﴾ 6. فكأن الله سبحانه قد رفع التكليف عنه (صلى الله عليه وآله) بمؤاخذتهم، رفقاً منه تعالى بهم، وعطفاً عليهم 26.

  • 1. راجع: الهدى إلى دين المصطفى ج1 ص158.
  • 2. الظاهر أن المراد به: أبا مالك الأشجعي، المشهور بالرواية، وتفسير القرآن، وهو تابعي.
  • 3. راجع: الهدى إلى دين المصطفى ج1 ص158 و159.
  • 4. راجع: الهدى إلى دين المصطفى ج1 ص158، والميزان ج20 ص203، وتنزيه الأنبياء ص119 ومجمع البيان ج1 ص437.
  • 5. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 128، الصفحة: 207.
  • 6. a. b. c. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 52، الصفحة: 133.
  • 7. القران الكريم: سورة عبس (80)، الآية: 7، الصفحة: 585.
  • 8. القران الكريم: سورة الجمعة (62)، الآية: 2، الصفحة: 553.
  • 9. تنزيه الأنبياء ص119.
  • 10. القران الكريم: سورة الشعراء (26)، الآية: 214 و 215، الصفحة: 376.
  • 11. الميزان ج20 ص303.
  • 12. a. b. القران الكريم: سورة عبس (80)، من بداية السورة إلى الآية 2، الصفحة: 585.
  • 13. a. b. c. القران الكريم: سورة عبس (80)، الآية: 3، الصفحة: 585.
  • 14. راجع: الميزان ج20 ص304.
  • 15. تفسير البرهان ج4 ص428، وتفسير نور الثقلين ج5 ص509، ومجمع البيان ج10 ص437.
  • 16. القران الكريم: سورة عبس (80)، الآية: 6، الصفحة: 585.
  • 17. القران الكريم: سورة عبس (80)، الآية: 10، الصفحة: 585.
  • 18. مجمع البيان ج10 ص437 وتفسير البرهان ج4 ص428، وتفسير نور الثقلين ج5 ص509.
  • 19. تفسير القمي ج2 ص405 وتفسير البرهان ج4 ص427، وتفسير نور الثقلين ج5 ص508.
  • 20. سيرة ابن هشام ج2 ص3.
  • 21. ونحن نجد في عثمان بعض الصفات التي تنسجم مع مدلول الآية، كما تشهد له قضيته مع عمار حين بناء المسجد في المدينة، حين ردد عمار ما ارتجز به علي عليه السلام تعريضاً بعثمان:
    لا يستوي من يعمر المساجدا *** يدأب قائماً وقاعداومن يرى عن التراب حائداًوستأتي هذه القضية إن شاء الله تعالى.
  • 22. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 28، الصفحة: 297.
  • 23. حلية الأولياء ج1 ص146 ـ345، وراجع مجمع البيان ج4 305306. والبداية والنهاية ج6 ص56 وعن كنز العمال ج1 ص245 وج7 ص46 عن ابن أبي شيبة وابن عساكر. والدر المنثور في تفسير الآيات المشار إليها. عن العديد من المصادر.
  • 24. راجع الميزان ج7 ص110.
  • 25. الدر المنثور ج3 ص22.
  • 26. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، 2005 م. ـ 1425 هـ. ق، الجزء الثالث.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى