هذا المقال إجابة على سؤال حول سبب إهتمام الشيعة بذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، و المقال نشرته مجلة رسالة الإسلام في عددها 43 ، و نحن نعيد نشرها لما يحتويه من الفائدة
حاولت في كلمتي هذه أن أجيب عن سؤال وجهه إليّ اكثر من واحد ، و هو يجول في أفكار الكثيرين ، و هذا هو :
لماذا يهتم الشيعة الإمامية هذا الاهتمام البالغ بذكرى الإمام الحسين عليه السلام ، و يعلنون عليه الحداد ، و يقيمون له التعازي عشرة أيام متوالية من كل عام ؟ !
هل الحسين أعظم و أكرم على الناس من جده محمد و أبيه علي ؟ !
و إذا كان الإمام الحسين إماماً فإن جده خاتم الرسل و الأنبياء ، و أباه سيد الأئمة و الأوصياء ؟!
لماذا لا يحيي الشيعة ذكرى النبي و الوصي ، كما يفعلون و يذكرون الشهيد ؟!
الجواب : إن الشيعة لا يفضلون أحداً على الرسول الأعظم . إنه أشرف الخلق دون استثناء ، و يفضلون علياً على الناس باستثناء الرسول ، فقد ثبت عندهم أن علياً قال مفاخراً : « أنا خاصف النعل » أي مصلح حذاء الرسول .
و قال : « كنا إذا حمى الوطيس لذنا برسول الله » ، أجل أن الشيعة الإمامية يعتقدون أن محمداً لا يوازيه عند الله ملك مقرب و لا نبي مرسل ، و أن علياً خليفته من بعده و خير أهله و صحبه ، و إقامة عزاء الحسين في كل عام مظهر لهذه العقيدة و عمل مجسم لها . و تتضح هذه الحقيقة بعد معرفة الأسرار التالية :
1 ـ تزوج الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم ، و هو ابن 25 سنة ، و قبض و له 63 سنة ، و بقي بعد خديجة دون نساء وحده ، ثم تزوج الكثيرات حتى جمع في آن واحد بين تسع ، و امتدت حياته الزوجية 37 عاماً و رزق من خديجة ذكرين : القاسم و عبد الله ، و هما الطيب و الطاهر ، ماتا صغيرين ، كما رزق منها أربع بنات : زينب و أم كلثوم و رقية و فاطمة ، أسلمن و تزوجن و توفين في حياته ما عدا فاطمة ، و ولدت له مارية القبطية إبراهيم ، و قد اختاره الله ، و له من العمر سنة و عشرة أشهر و ثمانية أيام ، فانحصر نسل الرسول بفاطمة و ولديها من علي ، الحسن و الحسين ، فهم أهله الذين ضمهم و إياه « كساء » واحد و بيت واحد .
و قد كان هؤلاء الأربعة عليهم السلام بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم سلوة و عزاء للمسلمين عن فقد نبيهم ، و أن عظم الخطب ، لأن البيت الذي كان يأويه ما زال مأهولا بمن يجب عامراً بأهله و أبنائه ، و ماتت فاطمة بعد أبيها بـ 72 يوماً ، فبقي بيت النبي مزيناً و مضيئاً بعلي و الحسن و الحسين ، ثم قتل علي ، فظل الحسنان ، و كان حب المسلمين لهما لا يعادله شيء إلا الحب و الإخلاص لنبيهم الكريم ، لأنهما البقية الباقية من نسله و أهل بيته ، و بعد أن ذهب الحسن إلى ربه لم يبق من أهل البيت إلا الحسين ، فتمثلوا جميعاً في شخصه ، فكان حب المسلمين له حباً لأهل البيت أجمعين ، للنبي و علي و فاطمة و الحسن و الحسين ، تماماً كما لو كان لك خمسة أولاد أعزاء ، و فقدت منهم أربعة و بقي واحد ، فإنه يأخذ سهم الجميع ، و توازي منزلته من قلبك منزلة الخمسة مجتمعين . و بهذا نجد تفسير قول سيدة الطف زينب ، و هي تندب أخاها الحسين يوم العاشر من المحرم : « اليوم مات جدي رسول الله ، اليوم ماتت أمي فاطمة ، اليوم قتل أبي علي ، اليوم سم أخي الحسن » .
و نجد تفسير ما قاله الإمام الشهيد لجيش يزيد حين صمموا على قتله : « فو الله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري فيكم و لا في غيركم » . و إذا أقفل بيت الرسول بقتل ولده الحسين ، و لم يبق من أهله أحد ، كان ، و الحال هذه استشهاده استشهاداً لأهل البيت جميعاً ، و احياء ذكراه احياء لذكرى الجميع .
2 ـ إن وقعة الطف كانت و ما زالت أبرز و أظهر مأساة عرفها التاريخ على الإطلاق ، فلم تكن حرباً و قتالا بالمعنى المعروف للحرب و القتال ، و إنما كانت مجزرة دامية لآل الرسول كباراً و صغاراً ، فلقد أحاطت بهم كثرة غاشمة باغية من كل جانب ، و منعوا عنهم الطعام و الشراب أياماً ، و حين أشرف آل الرسول على الهلاك من الجوع و العطش انهالوا عليهم رمياً بالسهام و رشقاً بالحجارة و ضرباً بالسيوف و طعناً بالرماح ، و لما سقط الجميع صرعى قطعوا الرؤوس ، و وطأوا الجثث بحوافر الخيل مقبلين و مدبرين ، و بقروا بطون الأطفال ، و أضرموا النار في الأخبية على النساء . فجدير بمن والى و شايع نبيه الأعظم و أهل بيته أن يحزن لحزنهم ، و أن ينسى كل فجيعة و رزية إلا ما حل بهم من الرزايا و الفجائع معدداً مناقبهم و مساوئ أعدائهم ما دام حياً .
حين نكت يزيد ثغر الحسين بالقضيب ، قال له رسول قيصر المسيحي : « إن عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى عليه السلام نحج إليه في كل عام من الأقطار ، و نهدي إليه النذور ، و نعظمه كما تعظمون كتبكم ، فاشهد إنكم على باطل » . لقد شاء الله و قدر أن تكون حادثة كربلاء أعظم و أخلد من كل حادثة عرفها التاريخ كما أنها أفجع و أوجع مأساة مرت و تمر على وجه الأرض .
إن الحسين عند شيعته و العارفين بمقاصده و أهدافه ليس اسماً لشخص فحسب ، و إنما هو رمز عميق الدلالة ، رمز للبطولة و الانسانية و الأمل ، و عنوان للدين و الشريعة ، و للفداء و التضحية في سبيل الحق و العدالة ، كما أن يزيد رمز للفساد و الاستبداد و التهتك و الرذيلة ، فحيثما كان و يكون الفساد و الفوضي و انتهاك الحرمات و إراقة الدماء البرئية و الخلاعة و الفجور و سلب الحقوق و الطغيان ، فثم اسم يزيد و أعمال يزيد ، و حيثما كان و يكون الثبات و الإخلاص و البسالة و الفضيلة و الشرف فثم اسم الحسين و مبادئ الحسين ، و هذا ما عناه الشاعر الشيعي من قوله :
كأن كل مكان كربلاء لدى *** عيني و كل زمان يوم عاشورا
فإحياء بطولة الحسين و جهاده و مبدأه إحياء للحق و الخير و الحرية ، و التضحية من أجلها بالنفس و الأهل و الأصحاب ، و احتجاج صارخ على الحاكم الظالم و أعوانه ، و على كل مسرف يعبت بمقدارات الشعوب ، و يغرق في لهوه و ملذاته و ينطلق مع شهواته و مآثمه كيزيد و أعوان يزيد .
أراد ابن معاوية من التنكيل بأهل البيت أن يطفئ نور الله ، و أن تكون الكلمة العليا للشر و الظلم ، و ظن أنه انتصر ، و تم له ما أراد بقتله الحسين ، و لكن انتصاره كان زائفاً ، و إلى أمد ، فسرعان ما زالت دولة الأمويين و ظلت ذكريات كربلاء و مبادئ الحسين حية إلى يوم يبعثون ، و قد جابهت السيدة زينب يزيد بهذه الحقيقة ، حيث قالت من كلام تخاطبه فيه :
« أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى إن بنا على الله هواناً ، و بك عليه كرامة ؟ !… فمهلا مهلا … فو الله ما فريت إلا جلدك ، و ما حززت إلا لحمك .. و لئن جرت على الدواهي مخاطبتك إني لاستصغر قدرتك ، و استعظم تقريعك ، و استكثر توبيخك ، و لئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك .. فكد كيدك ، و اسع سعيك ، و ناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، و لا تميت وحينا و لا يرخص عنك عارها ، و هل رأيك إلا فند ، و أيامك إلا عدد ، و جمعك إلا بدد ؟! » .
و صدقت نبوءة السيدة العظيمة ، فقد سقط يزيد و خلفاء يزيد الواحد بعد الآخر ، و انهارت دولة الأمويين بعد مصرع الحسين بنصف قرن ، و ظل المسلمون يلعنون يزيد و يحتفلون بذكرى الإمام الشهيد يوم قتله و يوم مولده من كل عام .
فهذه مصر تحتشد فيها الحشود ، و تنصب السرادقات و ترتفع دقات الدفوف و إيقاع الطبول ، و تمتلئ بالبهجة أصوات المطربين و المنشدين لمولد الإمام و مولد أخته بطلة كربلاء . فليس الشيعة وحدهم يهتمون و يحتفلون بذكرى الحسين . بل المسلمون عرباً و عجماً في كل مكان ، و إذا اختلفت الأساليب و تعددت المظاهر فالجوهر واحد . قرأت في العدد الثاني من مجلة « الغد » المصرية تاريخ فبراير سنة 1959 كلمة بعنوان « مولد السيدة و أعياد الأمة العربية » جاء فيها :
« خلال أعظم معركة في سبيل العقيدة ، شهدها التاريخ القديم لأمة العرب برزت شخصية السيدة زينب « رئيسة الديوان » كما نسميها نحن أبناء مصر بطلة باسلة مؤمنة شجاعة ، حتى أن يزيد بن معاوية لم يجرؤ على مناقشتها عندما ساقوها إليه ، و رفضت أن تبايعه ، و لعنته كما لعنت كل الذين يغدرون و يطعنون
المؤمنين في ظهورهم ! من أجل ذلك نحن في مصر و في كل الوطن العربي نؤمن ببطولة السيدة زينب ، كما نؤمن بذلك البطل الخالد « الحسين بن علي » أبي الشهداء جميعاً .. نؤمن بأمثال هؤلاء العظام ، و نحتفل بمولدهم و نرقص و نغني و نطرب و ننشد الأغاني حول أضرحتهم ، و ذلك لأننا نحبهم ، و لا أحد يستطيع أن يزيل من قلوبنا الحب الصادق لقائد البطولة الخارقة .. و قد نحيا و نمتلئ بالأمل فنعمل و نكافح ، لأن مثل هذا الرمز يضئ لنا الطريق و يشحننا بالرغبات الطيبة و الايمان بالشرف … و نحن لا نبالغ إذا اعتبرنا مولد السيدة زينب و مولد الحسين من الأعياد القومية لأمة العرب » .
لقد نظر هذا الكاتب بعين الواقع ، و نطق بلسان الحق ، فإن ظروفنا الماضية و الحاضرة تجعل هذه الأعياد أمراً لا مفر منه . لأنها تذكرنا بالبطولة و النضال من أجل الحرية . مثلنا الأعلى ، و تدفع بنا إلى البحث و التنقيب عن الحاكم المثالي الذي يعمل لوطنه و أمته. لقد مضى على قتل الحسين 1318 عاما و ما زال الشيعة يتذكرون و يذكرون هذا الماضي البعيد و يمجدونه ، ليستخلصوا منه روح الثورة على الظلم .
نحن الشيعة ثوريون بعقيدتنا و تعاليمنا تنفاءل بالثورات التحررية ، و نستبشر بها ، و نحس بعطف عميق نحوها و نحو شهدائها ، فإذا كرمنا الحسين فإنما نكرمه بصفته الباعث الأكبر للثورات ، و المعلم الأول للثائرين من اجل الحق و المساواة ؟ نحن لا نعبد الأفراد ، بل نقدس المبادئ ، لأننا مسلمون قبل كل شيء .
و الحسين يمثل مبادئ جده الرسول خير تمثيل ، و من أجلها قتل هو و أهله و أصحابه و سد بيت نساؤه و أطفاله و من أجلها يفرح المسلمون السنة يوم مولد الحسين ، فيصفقون و يرقصون و يغنون ، لأنه اليوم الذي ابتهج فيه نبي الرحمة و العدالة ، و يحزن المسلمون الشيعة يوم قتله ، فيبكون و يندبون و يلبسون ثوب الحداد ، لأنه يوم حزن و كآبة عليه و على جميع المسلمين ، و ينشد الشيعة يوم العاشر من المحرم مع الشريف الرضي :
لو رسول الله يحيا بعده *** قعد اليوم عليه للعزا
يفرح أولئك بالمولد ، و يحزن هؤلاء للمقتل ، و هدف الجميع واحد ، هو الطاعة و الولاء و التقرب إلى الله و خاتم الانبياء ، و كلا وعد الله الحسنى .