نص الشبهة:
هل كانت أم البنين موجودة بعد كربلاء ؟
الجواب:
جرت عادة الخطباء على ذكر أم البنين فاطمة بنت حزام الكلابية ، واستقبالها بشر بن حذلم ، ثم استقبالها للركب الحسيني ، والنساء ، وهكذا خروجها لندبة أبنائها ، ولكن استبعد المحقق المقرم في كتابه القيم ( مقتل الحسين ) بقاء أم البنين وأنها كانت موجودة إلى يوم الطف ..
ونحن لا نرى استبعاد العلامة المحقق السيد المقرم رحمه الله في محله . فإنه بعد أن قال : لم اعثر على نص يوثق به يدل صراحة على حياة أم البنين يوم الطف ، ثم بدأ بمناقشة رواية أبي الفرج الاصفهاني عن محمد بن علي بن حمزة عن النوفلي عن حماد بن عيسى عن معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام أن أم البنين كانت تخرج إلى البقيع تندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها فيجتمع الناس إليها ليسمعوا منها وكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك فلا يزال يسمع ندبتها .. ثم شرع في مناقشة رواة السند ، قائلا بأن رجال اسناده لا يعبأ بهم ، فإن النوفلي وهو ، حكي عن أحمد أن عنده مناكير ، وعند أبي زرعة ضعيف الحديث ، وعامة ما يرويه غير محفوظ ، وقال أبو حاتم منكر الحديث جدا ، وقال النسائي متروك الحديث . ومعاوية بن عمار بن ابي معاويه قال أبو حاتم لا يحتج بحديثه ، وإن أريد غير هذا فمجهول .. ثم عرج على المتن ، وانتهى إلى أن نسبة أبي الفرج خروج ام البنين إلى البقيع هي فرية واضحة إذ لا شاهد عليها وغايته التعريف بأن مروان بن الحكم رقيق القلب .. ثم عطف المحقق المقرم على ذلك أن أبا الفرج ناقض نفسه بأن قال في موضع آخر أن العباس كان آخر من قتل من إخوته فحاز مواريثهم وورث العباسَ ابنُه .. عبيد الله ، وهذا يفيدنا وثوقا بوفاة أم البنين يوم الطف فإنها لو كانت موجودة لكان ميراث العباس مختصا بها لكونها أمهم ولا يرثهم العباس لأنه أخوهم . ذكر ذلك في سفره القيم ( مقتل الحسين ) .
ولنا مع العلامة المحقق المقرم رضوان الله عليه وقفتان :
الأولى : نقاشه في رجال السند :
فأول ما هو مذكور في رواية أبي الفرج ( علي بن محمد بن حمزة ) وهذا الشخص لا ذكر له في كتب الرجال أصلا ، ويظهر أن في اسمه تقديما وتأخيرا والصحيح هو ( محمد بن علي بن حمزة المعروف بالعلوي ) وهو بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن أمير المؤمنين عليه السلام والذي نقل عنه أبو الفرج كثرا واعتمد عليه فقد ورد ذكره في أكثر من عشرين موضعا من كتاب المقاتل ، وروى عنه النوفلي علي بن محمد أيضا في المقاتل ، وهذا الرجل يظهر أنه كان محيطا بأخبار حركات أبناء الائمة ، وتاريخ نهضاتهم ضد الحاكمين فكان المصدر الأساسي الذي اعتمد عليه أبو الفرج في كتابه ، وهو كما يقول النجاشي ( ثقة عين في الحديث صحيح الاعتقاد له رواية عن ابي الحسن وأبي محمد عليهما السلام ، وله مكاتبة وفي داره حصلت أم صاحب الأمر بعد وفاة الحسن ( عليه السلام ) . ويذكر آية الله الخوئي في معجمه أن له كتاب بإسم مقاتل الطالبيين .
وأما النوفلي فإنه لقب رجال كثيرين منهم الحسن بن محمد بن سهل ، وعبد الله بن الفضل بن عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب وهو من أصحاب الصادق وثقة ، والحسين بن يزيد بن محمد بن عبد الملك النوفلي ، وهو من أصحاب الرضا ، وعلي بن محمد بن سليمان النوفلي وهو من أصحاب الإمام الجواد والهادي والعسكري .
والمكثر للروايات في الفقه هو الحسين بن يزيد الذي يروي عن السكوني عادة ، وله في أبواب الفقه لا سيما في المعاملات روايات كثيرة .
ولكن الذي يروي عنه أبو الفرج في المقاتل ليس هذا ، وليس كما ذكر السيد المقرم أنه يزيد بن المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم .. وإنما هو علي بن محمد بن سليمان النوفلي ، ومع التتبع لكتاب المقاتل يظهر أنه يعتمد عليه اعتمادا كبيرا فيما ينقل من أمور ترتبط بأبناء علي عليه السلام في أكثر من 23 موضعا ، وهذا بدوره ينقل عن أبيه كثيرا ، فترى صاحب المقاتل ينقل عنه في قضية يحيى بن زيد ويعتمد على روايته بشكل أساسي في نقل أحداث حركة عيسى بن زيد ، وفي ثورة ابراهيم بن عبد الله بن الحسن . وهذا النوفلي قد يذكر في الرجال تارة بعنوان علي بن محمد وأخرى علي بن محمد بن سليمان ، ومع أن له رواية عن الإمام الجواد عليه السلام ، ومكاتبة للإمام العسكري عليه السلام ، وقد ذكره الصدوق في مشيخته ، وطريقه إليه صحيح ..
إلا أنه لا توثيق له بخصوصه وإن كان اماميا ، لكن يمكن استفادة ذلك من التوثيق العام بالنسبة لمن لم يستثن من كتاب نوادر الحكمة ، بناء على أن عدم الاستثناء لهم لا يختص بتصحيح الروايات في الكتاب المذكور وإنما هو إضافة إلى ذلك توثيق للرواة . كما هو مسلك كثيرين .. فإنه قد ذكر علي بن محمد النوفلي في من لم يستثن من رواة كتاب النوادر .
والنوفلي روى في أصول العقائد كما هو في الكافي في أكثر من موضع ، وفي الفروع أيضا ، لكن يبدو أنه كان متخصصا أكثر في حقل التاريخ وضبط أحداث معارضة أهل البيت وأبنائهم للحاكمين ، ولذلك اعتمده أبو الفرج في مقاتله ، وروى عنه الطبري أيضا أحداث الثورات التي تقدم ذكرها .
وأما حماد بن عيسى الجهني من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السلام كان ثقة في حديثه صدوقا ، وممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم وأقروا لهم بالفقه .
وأما معاوية بن عمار بن أبي معاوية فهو العجلي الدهني ، من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ، وقد نص على توثيقه وجلالة شأنه من تعرض لذكره في الرجال ، فقد قال النجاشي : كان وجها من أصحابنا متقدما كبير الشأن عظيم المحل ثقة ، وكان أبوه عمار ثقة في العامة وجها ، روى معاوية عن ابي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام ومات في سنة خمس وسبعين ومائة . ومثله ذكر في الخلاصة .
ولذا فمن العجيب أن ينقل العلامة المقرم قول أبي حاتم فيه : أن معاوية بن عمار بن أبي معاوية لا يحتج بحديثه ، وإن أريد غير هذا فمجهول . إذ تضعيفه عندهم كما هو جار في غيره ، إنما هو على أساس مذهبه وتشيعه ، فإنهم يسارعون إلى الطعن فيمن عرف عنه تشيعه لعلي عليه السلام ويكفي عندهم لعدم الاحتجاج بحديثه كونه رافضيا ـ كما يقولون ـ فكيف إذا كان وجها عندنا وعظيم الشأن ؟؟ ولم يكن منتظرا من المحقق المقرم الذي له الباع الطويل في هذا المجال أن يعتمد على تضعيف الرجاليين المخالفين لرواة أهل البيت ، خصوصا أنه ذكر في المقتل بعض النماذج على التضعيف لأجل المذهب ، وفي كتابه ( العباس ) قال في ذيل الحديث عن الأصبغ بن نباتة عندما نقل صاحب اللئالي المصنوعة فيه أنه متروك لا يساوي فلسا قال المقرم : ولقد طعنوا في أمثاله من خواص الشيعة بكل ما يتسنى لهم ، ويشهد لهذه الدعوى مراجعة ما كتبه السيد العلامة محمد بن أبي عقيل ( العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل ) فإنه ذكر جملة من أتباع أهل البيت طعنوا فيهم بلا سبب إلا موالاة أمير المؤمنين وولده عليهم السلام .
وأما كلامه في المتن :
أما قوله أن خروج أم البنين فرية واضحة غايتها التعريف بأن مروان بن الحكم رقيق القلب فاستدرار الدمعة إنما يتسبب من انفعال النفس .. الخ ، فإنه يمكن على فرض صحة الخبر أن يكون ذلك من إظهار البكاء ، واصطناع حالة البكاء الكاذب ، وليس هذا بعيدا من شخصية مروان المنافقة ، حيث أنه قد يعمل الشيء وضده ، والأمر وخلافه إذا رأى في ذلك مصلحة دنيوية عاجلة .. فهو على عدائه المعروف لأهل البيت لا يعدم وسيلة لكي يحوز بها على بغلة للحسن المجتبى عليه السلام فيدفع أحدهم لمدح الإمام مدحا عظيما .. إلى آخر ما ذكروه في أحواله . فمثل هذا الأمر ـ حضوره في الجبانة ـ وإظهار شخصه أمام السذج بمظهر المتعاطف ليس شيئا مستنكرا . فكم وجدنا من السياسيين ، والزعماء الدنيويين من يقتل القتيل ويمشي في جنازته باكيا !!
ثم إنه بمراجعة كتابه الآخر ( العباس ) يتبين أن السيد المقرم رحمه الله يخالف نظريته في كتاب مقتل الحسين في أكثر من موضع ويبني على أساس أن أم البنين كانت موجودة إلى ما بعد زمان واقعة كربلاء ، فقد ذكر في صفحة ( 133 ) أن السيدة زينب قد زارت أم البنين بعد وصولهم إلى المدينة تعزيها بأولادها كما كانت تزورها أيام العيد . وتعزية زينب عليها السلام وزيارتها لأم البنين بعد وصولهم إلى المدينة يشير بوضوح إلى حياتها إلى ذلك الوقت . بل أن ما نفاه هناك ، أثبته هنا في مواضع متعددة منها في صفحة 398 حيث قال : وأول من رثاه ـ العباس ـ أمه أم البنين كما في مقاتل الطالبيين فإنها كانت تخرج إلى البقيع تندب أولادها أشجى ندبة وأحرقها فيجتمع الناس لسماع ندبتها … ويستدل على خطأ ما نقله أبو الفرج والطبري من أنه أبا الفضل قدم إخوته ليقتلوا أمامه لكي يرثهم (!!) يقول في صفحة 203 : وما أدري كيف خفي عليهما ـ أي المؤرخين المذكورين ـ ( عدم إمكان ) حيازة العباس ميراث إخوته مع وجود أمهم أم البنين وهي من الطبقة المتقدمة على الأخ ، ولم يجهل العباس شريعة تربى في خلالها ..
كما يقول مثبتا وجود أم البنين حتى يوم الطف ، في صفحة 206 : وهناك مانع آخر من ميراث العباس لهم وحده حتى لو قلنا على بعد ومنع بوفاة أم البنين يوم الطف لوجود الأطرف وعبيد الله بن النهشلية . . كما يشاركهم سيد شباب الجنة وزينب وأم كلثوم وغيرهن من بنات أمير المؤمنين … هذا إن قلنا بوفاة أم البنين يوم الطف ، ولكن التاريخ يثبت حياته يومئذ وأنها بقيت بالمدينة وهي التي كانت ترثي أولادها الأربعة ..
ولا نعلم عن تأريخ الكتابين وأيهما المتقدم ليكون المتأخر هو الناسخ ، والرأي الأخير للمؤلف ، فإن كان العباس هو الكتاب الأخير يكون ما ورد فيه عدولا عن ما ورد في كتاب مقتل الحسين ، وإن كان العكس فيلزم أن يشير إلى ما سبق أن شيده وأكده في كتاب العباس ؟
وعلى كل حال فإن ما بذله المحقق المقرم رضوان الله عليه من جهد ـ في كتاب مقتل الحسين ـ في نفي حياتها أخيرا مع أنه كان في بداية حديثه مقتصرا على عدم العثور على نص يوثق حياتها ، لا يمكن المساعدة عليه أو قبوله . ونفس الكلام الذي قاله بعدم وجود نص يوثق حياتها يعود في عدم وجود نص يوثق وفاتها ، مع أن بقاءها إلى ما بعد مقتل الحسين عليه السلام أمر طبيعي ، وهو مقتضى الأصل 1 .
1. من قضايا النهضة الحسينية ( أسئلة وحوارات ) : الجزء الأول .