نور العترة

زينب الكبرى(ع)…

قالت الحوراء زينب الكبرى بنت امير المؤمنين علي عليه‌السلام في ابيات ترثي بها اخاها الحسين:

على الطف السلام وساكنيه *** وروح الله في تلك القباب
نفوس قدست في الارض قدساً *** وقد خُلقت من النطف العذاب
مضاجع فتية عبدوا فناموا *** هجوداً في الفدافد والروابي
علتهم في مضاجعهم كعاب *** باردان منعمة رطاب
وصيّرت القبور لهم قصوراً *** مناخاً ذات أفنيةٍ رحاب1

تُلقّب بالعقيلة وعقيلة بني هاشم وعقيلة الطالبيين، وتلقب بالموثقة والعارفة، والعالمة غير المعلمة، والفاضلة، والكاملة، وعابدة آل علي.

وهي اولى بنات امير المؤمنين (ع) ولدتها فاطمة الزهراء بعد الحسنين، نشأت في حضن النبوة ودرجت في بيت الرسالة ورضعت لبان الوحي من ثدي العصمة فنشأت نشأةً قدسية روحانية فان الخمسة اصحاب العبا قد قاموا بتربيتها وتثقيفها وتهذيبها وكفى بهم مؤدبين ومهذبين.
ذكر العلامة محمد علي احمد المصري في رسالته قال: ان السيدة زينب نشأت نشأة حسنة كاملة فاضلة عالمة من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكانت على جانب عظيم من الحلم والعلم ومكارم الاخلاق ذات فصاحة وبلاغة … الى أخر ما قال2.
قال الكاتب فريد وجدي: السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما، كانت من فضليات النساء وشريفات العقائل. ذات تقي وطهر وعبادة.
زينب الكبرى بنت امير المؤمنين علي من فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) ولدت سنة خمس من الهجرة في الخامس من جمادي الاول، وكانت عند وفاة جدها رسول الله (ص) بنت خمس سنين، وعند وفاة امها الزهراء ابنة ست إلا اشهراً.
وروت الحديث عن امها الزهراء وروت خطبتها الشهيرة عنها على طولها مع أنها لما سمعتها كانت صغيرة السن، وكان يرويها عنها اهل البيت، وروى علي بن الحسين عنها عن امها فاطمة ما يتعلق بولادة الحسين، وحدّثت عن أبيها امير المؤمنين وأخويها الحسنين.
زوجها ابوها من ابن اخيه عبدالله3بن جعفر فولدت له عوناً4وعباساً وام كلثوم.

وللسيدة الحوراء زينب سلام الله عليها مواقف مليئة بالبطولة والشجاعة يوم وقعت الواقعة بين الحق والباطل في كربلاء ويوم استشهد جميع أنصار الحق لايريدون أن يذعنوا للباطل. زينب رمز المرأة المسلمة المؤمنة، ومفخرة المرأة العربية المخلصة فقد شاطرت الحسين بهذه النهضة الجبارة، قال العلامة المعاصر الشيخ عبد المهدي مطر في قصيدةعدد فيها مواقف السيدة زينب:

يا ريشة القلم استفزّي واكتبي *** هل كان هزّك مثل موقف زينب

وفاتها

ذكر المؤرخون ان السيدة زينب ماتت في النصف من رجب سنة 65 هـ.

وقال الاستاذ حسن قاسم في كتابه، السيدة زينب:
السيدة الطاهرة الزكية بنت الامام علي بن ابي طالب ابن عم الرسول وشقيقة ريحانتيه. لها اشرف نسب واجل حسب واكمل وأطهر قلب. فكأنها صيغت في قالب ضمخ بعطر الفضائل. فالمستجلي آثارها يتمثل أمام عينيه رمز الحق، رمز الفضيلة. رمز الشجاعة. رمز المرؤة فصاحة اللسان. قوة الجنان. مثال الزهد والورع مثال العفاف والشهامة. ان في ذلك لعبرة.

وقال العلامة محمد علي احمد المصري في رسالته: السيدة زينب:
هي بنت سيدي الامام علي كرم الله وجهه، وبنت السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله وهي من أجل أهل البيت حسباً وأعلاهم نسباً. خيرة السيدات الطاهرات ومن فضليات النساء وجليلات العقائل التي قامت الفوارس في الشجاعة واتخذت طول حياتها تقوى الله بضاعة كريمة الدارين وشقيقة الحسنين.

وقال عمر ابو النصر في كتابه، فاطمة بنت محمد: واما زينب بنت فاطمة فقد اظهرت انها من اكثر اهل البيت جرأة وبلاغة وفصاحة. وقد استطارت شهرتها بما أظهرت يوم كربلاء وبعده من حجة وقوة وجرأة وبلاغة حتى ضرب بها المثل وشهد لها المؤرخون والكتاب.

وقال ابن الاثير: إن زينب ولدت في حياة النبي وكانت عاقلة لبيبة جزلة، وكلامها ليزيد بن معاوية حين طلب الشامي أختها فاطمة مشهور، يدلّ على عقل وقوّة جنان.

وقال العلامة البرغاني في (مجالس المؤمنين): إنّ المقامات العرفانية الخاصة بزينب تقرب من مقامات الامامة، وانها لما رأت حالة زين العابدين – حين رأى أجساد أبيه وإخوته وعشيرته وأهل بيته على الثرى صرعى مجزرين كالاضاحي وقد اضطرب قلبه واصفرّ لونه – أخذت في تسليته، وحدثته بحديث أمّ أيمن5 كما روى ابن قولويه في (كامل الزيارة) ص 261: ان علي بن الحسين لما نظر الى اهله مجزرين وبينهم مهجة الزهراء بحالةِ تذيب القلوب، اشتد قلقه، فلما تبيّنت ذلك منه زينب أخذت تصبره قائلة:

“مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي، فوالله إن هذا لعهدُ من الله الى جدك وابيك، ولقد أخذ الله ميثاق اناس لا تعرفهم فراعنة هذه الارض وهم معروفون في اهل السماوات، إنهم يجمعون هذه الاعضاء المقطعة والجسوم المضرّجة فيوارونها، وينصبون بهذا الطف عَلَماً لقبر أبيك سيد الشهداء لايدرس أثره ولا يمحي رسمه على كرور الليالي والايام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا عُلوّاً”.

هذا هو الايمان الصادق، وهذا هو السرّ الذي أخبرت به الحوراء عن عقيدة راسخة مستمد من ينبوع النبوة وفيض الامامة أتراها كيف تخبره متحققة ما تقول وتوكد قولها بالقسم إذ تقول: “فوالله إنّ هذا لعهد من الله”. ثم افتكر في مدى علمها وقابليّتها لتقّبل هذه الاسرار التي لا تستودع إلا عند الاوصياء والأبدال ولا تكون إلا عند من امتحن الله قلبه للإيمان. وهكذا كانت ابنة علي كلما عضّها الدهر بويلاته ولجّ بها المصاب انفجرت كالبركان تخبر عن مكنونات النبوة واسرار الإمامة. اقول ومن هذا الحديث ترويه أمّ أيمن وهو من أصح الاخبار سنداً، كما ورد على لسان ميثم التمار في حديث جبلّة المكيّة: إعلمي يا جبلّة ان الحسين بن علي سيد الشهداء يوم القيامة، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة وورد على لسان زين العابدين كما في – الكامل لإبن قولية ص 268 قال: “تزهر أرض كربلاء يوم القيامة كالكوكب الدري، وتنادي انا ارض الله المقدسة الطيبة المباركة التي تضمنتُ سيد الشهداء وسيد شباب اهل الجنة”.

وزينب هي عقيلة بني هاشم. ولّدها هاشم مرتين، وما ولد هاشم مرتين من قبلها سوى امّ هاني – اخت امير المؤمنين، وهي اول هاشمية من هاشميين. والعقيلة عند العرب وان كانت هي المخدرة الكريمة لكن تخدّر زينب لم يشابهه تخدر امرأة. قال ابو الفرج: العقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك فقال: حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي. وكانت ثانية امها الزهراء في العبادة، وكانت تؤدي نوافل الليل كاملة في كل أوقاتها حتى ان الحسين عليه‌السلام عندما ودع عياله وداعه الاخير يوم عاشوراء قال لها: “يا اختاه لا تنسيني في نافلة الليل” كما ذكر ذلك البيرجندي وهو مدوّن في كتب السير.
وكانت كما قال لها الإمام السجاد: “انتِ يا عمّة عالمة غير معلّمة، وفهّمة غير مفهمة”، واما الصبر فقد بلغت فيه ابعد غاياته وانتهت فيه الى أعلا درجاته فانها لما سقط الحسين يوم عاشوراء خرجت من الفسطاط حتى انتهت اليه، قال بعض أرباب المقاتل: انها لما وقفت على جسد الحسين قالت: “اللهم تقبّل منا هذا القربان”.

ونقل صاحب الخصائص الحسينية أنها كانت قد وطنت نفسها عند احراق الخيم ان تقّر في الخيمة مع النسوة، إن كانت الله شاء إحراقهنَّ كما شاء قتل رجالهن، ولذلك قالت لزين العابدين عند اضطرام النار: يا بن اخي ما نصنع، مستفهمة منه مشيئة الله فيهنَّ، وإلا فمن يرى النار يهرب منها بالطبع ولا يستشير فيما يصنع.
قال الشيخ المامقاني في (تنقيح المقال): زينب في الصبر والتقوى وقوة الايمان والثبات وحيدة، وهي في الفصاحة والبلاغة كأنها تفرغ عن امير المؤمنين كما لايخفى على من أنعم النظر في خطبتها، ولو قلنا بعصمتها لم يكن لاحد إن ينكر أن كان عارفاً باحوالها في الطف وما بعده، كيف ولولا ذلك لما حمّلها الحسين مقداراً من ثقل الإمامة أيام مرض السجاد، وما أوصى اليها بجملة من وصاياه، ولما أنابها السجاد عليه‌السلام نيابة خاصة في بيان الاحكام وجملة اخرى من آثار الولاية … الى ان قال … وعمرها حين توفيت دون الستين.
وقال الطبرسي: إنها روت اخباراً كثيرة عن امها الزهراء، وروى أنها كانت شديدة المحبة بالنسبة الى الحسين من صغرها، اقول كأن وحدة الهدف ونبل الغاية والمقصد وكبر النفس جعلت منهما أليفين عظيمين لذلك شاطرته النهضة وشاركته في ثورته المباركة، وعندما دخلت الكوفة ورأت تلك الجماهير كالسيل يدفع بعضها البعض واذا بابنة علي بمجرد أن أومأت الى الناس أن اسكتوا، ارتدّت الانفاس وسكنت الاجراس.
توافرت الروايات عن حذلم بن كثير، قال: قدمت الكوفة في المحرم سنة احدى وستين عند منصرف علي بن الحسين والسبايا من كربلاء ومعهم الاجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر اليهم فلما اقبل بهم على الجمال بغير وطاء خرجن النسوة اهل الكوفة يبكين وينشدن.

وذكر الجاحظ في (البيان والتبيين) عن خزيمة الاسدي قال: ورأيت نساء اهل الكوفة يومئذ قياماً يندبن مهنكات الجيوب. قال حذلم بن كثير: فسمعت علي بن الحسين يقول بصوت ضعيف – وقد انهكته العلة، والجامعة في عنقه: إن هؤلاء النسوة يبكين إذن فمن قتلنا.
قال: ورأيت زينب بنت علي ولم أر خفرةً أنطق منها، كأنها تفرغ عن لسان امير المؤمنين. قال: أومأت الى الناس أن اسكتوا. فارتدت الانفاس وسكنت الاصوات. فقالت:

“الحمد لله والصلاة على محمد وآله الطيبين الاخيار، اما بعد يا اهل الكوفة يا اهل الختر والغدر أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة انما مثلكم كمثل ﴿ … كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ … ﴾ 6 الا وهل فيكم الا الصلف والنطف7والكذب والشنف8وملق الاماء وغمز الاعداء أو كمرعى على دمنة 9او كقصة10على ملحودة، ألا ساء ما قدّمت لكم انفسكم سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون، أتبكون وتنتحبون اي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها ابداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم. ومنار محجتكم. وقدرة سنتكم، ألا ساء ما تزرون وبعداً لكم وسحقا. فلقد خاب السعي وتبّت الايدي، وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة، ويلكم يا اهل الكوفة أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم. وأيّ كريمة له أبرزتم، وأيّ دم له سفكتم، واي حرمة له انتهكتم، ولقد جئتم بها صلعاء11عنقاء، سوداء، فقماء، خرقاء شوهاء كطلاع الارض12 أو ملأ السماء، افعجبتم إن أمطرت السماء دماً ولعذاب الآخره اخزى وانتم لا تنظرون، فلا يستخفنكم المهل فانه لا يحفزه13البدار، ولا يخاف قوت الثار وإن ربكم لبالمرصاد”.

قال الراوي: فوالله لقد رأيتُ الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم على أفواههم، ورأيتُ شيخاً واقفاً الى جنبي يبكي حتى اخضلّت لحيته بالدموع وهو يقول: بأبي انتم وامي. كهولكم خير الكهول، وشبانكم خير شبان، ونساؤكم خير نساء، ونسلكم خير نسل، لا يُخزى ولا يُبزى 14ثم انشد:

كهولكم خير الكهول ونسلكم *** إذا عُدَّ ُنسلُ لا يبور ولا يُخزى

وهذا حذلم بن كثير من فصحاء العرب أخذه العجب من فصاحة زينب وبلاغتها وأخذته الدهشه من براعتها وشجاعتها الابية.
ولما أدخلت السبايا على ابن زياد في قصر الإمارة بالكوفة وقد غصّ القصر بالناس إذ أن الرواية تقول: وأذن للناس إذناً عاماً، ووضع ابن زياد رأس الحسين بين يديه وأدخلت عليه نساء الحسين وصبيانه ودخلت زينب اخت الحسين في جملتهم متنكّرة وعليها أرذل ثيابها ومضت حتى جلست ناحيةً وحفت بها إماؤها، فقال ابن زياد: من هذه المتنكّرة فلم تُجبه ترفُعاً عن مخاطبته حتى قال له بعض إمائها: هذه زينب بنت علي. فاقبل اللعين قائلاً متشفياً شامتاً: كيف رأيتِ صنع الله بأخيك الحسين. قالت بما يكشف له أنها غير مبالية ولا متفجّعة: ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كُتب عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم فانظر لمن الفلح ثكلتك امك يا بن مرجانة.
فكان هذا الكلام أشق عليه من رمي السهام وضرب الحسام ولهذا اغضبه حتى همّ أن يشفي غيظه بضربه لها، فقام والسوط بيده فقام عمرو بن حريث وقال: يا امير إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، قال أما تراها حيث تجرأت عليَّ، قال: لا تلم زينب يرى ابن زياد انه القانط على العراق بيد من حديد والناس تناديه: يا أمير واذا بالمرأة الاسيرة تقول له: يا بن مرجانة.
اما خطبتها بالشام في البلاط الاموي تلك الخطبة البليغة والمملؤة شجاعة وحماسة وقوة ورصانة واحتجاجا وادلة بذلك المجلس المكتظ بمختلف الناس وجماهير الوافدين رواها ابن طيفور في (بلاغات النساء) ص 21 وروراها الشيخ الصدوق وغيره من ارباب التاريخ قالوا:
لما ادخل علي بن الحسين عليه‌السلام وحرمه على يزيد وجيء برأس الحسين ووضع بين يديه في طشت وجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده، وهو يتمثل بابيات ابن الزبعري المشرك:
يا غراب البين ما شئت فقل *** إنما تذكر شيئاً قد فعلْ
ليت اشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلوا واستهلوا فرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبرُ جاء ولا وحي نزل  

لستُ من خندف إن لم أنتقم *** من بني احمد ما كان فعل
قد قتلنا القرم من ساداتهم *** وعدلنا مَيل بدر فاعتدل
وأخذنا من علي ثارنا *** وقتلنا الفارس الشهمَ البطل15

فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب وأمها فاطمة بنت رسول الله صلي الله وعليه واله وقالت:

“الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله محمد وآله اجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ 16 أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أٌقطار الارض وآفاق السماء 17فاصبحنا نُساق كما تساق الإماء، أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده، فشمختَ بأنفك، ونظرت في عطفك، تضربُ أصدريك فرحاً، وتنفض مذرويك مرحاً18، جذلان مسروراً حين رأيت الدينا لك مستوسقة19والامور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا20 فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلاً، أنسيتَ قول الله تعالى: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ 21 أمن العدل يا بن الطلقاء 22 ولا يحسبنّ الذين تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا. قد هُتكت ستورهن، وأبديت وجوههنَّ، وصحلت23أصواتهنّ، تحدو بهنّ الاعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهنّ اهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد. والشريف والدني، ليس معهن من رجالهن وليّ ولا من حماتهن حمي، وكيف ترتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الاذكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء24وكيف يستبطاً في بغضنا اهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنآن25والإحن والاضغان، ثم تقول غير متأثّم ولا مستعظم داعياً باشياخك – ليت اشياخي ببدر شهدوا – منحنياً على ثنايا ابي عبد الله سيد شباب اهل الجنة تنكتها بمخصرتك26وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة 27واستأصلت الشأفة28بإراقتك دماء ذرية محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونجوم الارض من آل عبد المطلب. أتهتف باشياخك. زعمت انك تناديهم فلتردنّ وشيكاً29موردهم، ولتودنّ أنك شللت وبكمتَ ولم تكن قلت ما قلت وفعلتَ ما فعلت، اللهم خُذلنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا. واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا.
فوالله يا يزيد ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذرّيته وانتهكتَ من حرمته في عترته ولحمته حيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ 30 وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصيما، وبجبريل ظهيراً.
وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين ﴿ … بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ 31 وأيّكم شرَّ مكاناً وأضعف جندا. ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك32إني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك. لكن العيون عبرى والصدور حرّى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النُجباء بحزب الشيطان الطلقاء. وهذه الايدي تَنْطِفُ من دمائنا33والافواهُ تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل 34وتعفّرها أمهاتُ الفراعل 35. ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدننا وشيكاً مغرماً حين لا تدل إلا ما قدّمت يداك وما ربك بظلاّم للعبيد. فالى الله المشتكى، وعليه المعّول، فكد كيدك. واسع سعيك، وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا 36 ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند37وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله رب العالمين. الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ونسآل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود وهو حسبنا ونعم الوكيل”.
فقال يزيد:
ياصيحة تحمد من صوائح *** ما أهون النوح على النوائح

أرأيت ابنة علي وموقفها الذي تعجز عنه أبطال الرجال .. تأمل في كلامها الطافح بالعزة والإباء. والمملوء جرأة وإقداما، والمشحون بالابهة والعظمة، بعدم المبالاة بكل ما مرّ عليها من المصائب والنوائب لكأن نفس أخيها بين جنبيها ولسان أبيها بين فكّيها، إنها بكل شجاعة تفرغ بليغ الخطاب غير مقحمة ولا متعلثمة فبخ بخ ذرية بعضها من بعض.
وان اختلاف الروايات في كون دفنها في الشام أو مصر أو البقيع يعود الى عظمة شخصيتها، فكل من هذه البلاد الثلاثة كانت تتجاذب رواية دفنها فيها وتوكدها عندها لتجذب اليها انظار العالم الاسلامي، وان النفع الذي يتحقق لبلد الشام – اليوم – من وجود مشهد الحوراء زينب هو نفع اقتصادي، إن عشرات الالوف من الزائرين الذين يقصدونها من مختلف الاقطار القريبة والبعيدة يدرّ على البلد بربح طيب وما زال العمران ومنذ اكثر من عشرة سنوات وحتى يومنا هذا يسعف اليد العاملة في البلد.
نشرت مجلة (الغري) النجفية في سنتها 15 تحت عنوان القفص الذهبي فقالت: أهدى أغنى أغنياء الباكستان السيد محمد علي حبيب قفصاً ذهبياً للسيدة زينب بنت الامام علي بن ابي طالب، وكان السبب الوحيد لاهداء هذا القفص هو أنه كان له ولد مصاب بمرض مزمن وقد عجز أطباء العالم عن معالجته فأيس من شفائه، فتضرع الى الله تعالى وتوسل بحفيدة النبي زينب الكبرى فقصد الشام لزيارة قبرها وبات ليلته في حضرتها متضرعاً الى الله في شفاء ولده ثم سافر الى بلده، وحين وصوله شاهد ولده معافى بتمام الصحة من المرض الذي الّم به، وهذه احدى كرامات الطاهرة زينب.
ثم روت مجلة الغري عن جريدة (الزمان) الدمشقية الخبر التالي: تصل خلال الايام القادمة الهدية الثمينة، وهي عبارة عن كسوة من الفضة المذهبة لضريح السيدة زينب عليها‌ السلام حفيدة الرسول الاعظم.
ـ ثم تعطي الجريدة المذكورة صورة عن الاحتفال في كراتشي بهذا الضريح – تقول: وقد سبقت للهدية قصة عجيبة اذ أنّ للسيد محمد علي حبيب نجلُ واحد أصيب بالشلل وعالجه ابوه في مستشفيات اوربا ولدى أمهر أطبائها ولكن المشلول لم يشفى، ومنذ عامين في طريق عودة الوالد من احدى جولاته في اروبا مر في دمشق وزار قبر السيدة زينب وقضى ليلة في باحة الضريح وأخذ يبتهل الى الله أن يشفى ابنه الوحيد، وفي الصباح غادر المكان وقد علق بذهنه تاريخ تلك الليلة التي قضاها الى جانب حفيدة الرسول الكريم، وعند وصوله الى كراتشي كان اهله في استقباله، وكان أول سؤاله عن ابنه المشلول المقعد، ولشدة ما كانت دهشته عظمية عندما قالوا له: انه شفي، وانه يقضي دورة النقاهة في ضاحية من ضواحي العاصمة.
واستمع الرجل الى القصة من أولها فاذا هم يقولون: ان الولد المقعد شعر ذات ليلة وهي نفس الليلة التي قضاها ابوه في جوار ضريح السيدة زينب. شعر الابن بالقوة في قدميه فحركها ثم حاول ان يهبط من سريره الى الارض ليقف على قدميه ونادى امه والخدم وسار بمعونتهم، وكان فزع الام بالغاً أشده لأن ابنها عاود الكرة في الصباح وأخذ يمشي طيلة النهار، والتقى الاب بابنه بعد ذلك فرآه يمشي كما يمشي السليم من الناس وشهد فلذة كبده بعينه صحيح الجسم بعد أن عجز أطباء العالم عن شفائه، وأيقن ان الشفاء نزل في نفس الليلة التي يتوسل فيها الى الله. فاعتزم أن يقدّم للضريح هدية ثمينة تليق بصاحبة الضريح المكرمة.
اقول ونشرت مجلة العرفان اللبنانية: ان هذا القفص الذهبي يزن 12 طناً، وهو محلى بالجواهر الكريمة النادرة وقد ارخ وصول الضريح الخطيب المؤرخ الشيخ علي البازي بقوله:
هذا ضريح زينب قف عنده *** واستغفر الله لكل مذنب
ترى الملا طراً وأملاك السما *** أرّخ (وقوفاً في ضريح زينب)
1370 هـ
ونشرت مجلة العرفان اللبنانية مجلد 42 ص 923 فقالت:
أهدت ايران حكومة وشعباً صندوقاً أثرياً من العاج والآبنوس المطعّم بالذهب لضريح السيدة زينب المدفونة في ظاهر الشام – قرية راوية – وهو من صنع الفنان الايراني الحاج محمد سميع، وبقي في صنعه ثلاثين شهرا وقد ساهم في نفقاته جلالة شاه ايران وبعض متمولي الشعب، وقدّر ثمنه بمائتي الف ليرة سورية، وله عطاء من البلور، وقد احضرته بعثة ايرانية رسميّة برئاسة ضابط ايراني كبير، وأُقيمت حفلة كبرى في الصحن الزينبي ترأس الحفلة السيد صبري العسلي رئيس الوزارة السورية وهو الذي أزاح الستار عن الصندوق38.

  • 1. عن كتاب (بطل العلقمي) ج 3 ص 335.
  • 2. عن الكتاب (عقيلة بني هاشم) للخطيب علي بن الحسين الهاشمي.
  • 3. عبدالله بن جعفر الطيار يقال له قطب السخاء وفيه يقول عبدالله بن قيس الرقيات:
    وما كنت الا كالأغر ابن جعفر *** رأى المال لا يبقى فابقى له ذكرا
     وكان من احسن الناس وجهاً وأفصحهم منطقا واسمحهم كقا، كانت ولادته بارض الحبشة وامه اسماء بنت عميس وحضر مع امير المؤمنين حروبه الثلاث ثم لازم الحسن والحسين مات سنة اربعة أو خمسة وثمانين من الهجرة.
  • 4. يتوهم البعض أن المرقد الواقع بالقرب من مدينة كربلاء المقدسة على سبعة أميال من شرقي المدينة انه عون بن عبدالله بن جعفر الذي امه الحوراء زينب بنت علي (ع) انما عون المذكور مدفون في الحائر الحسيني مع الشهداء في حفرة واحدة عند رجلي الامام الحسين (ع)، وانما المرقد المعروف بهذا الاسم هو:
    عون بن عبدالله بن جعفر بن مرعي بن علي بن الحسن البنفسج بن ادريس بن داود ابن احمد المسود بن عبدالله بن موسى الجون بن عبدالله المحض بن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي بن ابي طالب. وكان سيداً جليلاً قد سكن الحائر الحسيني المقدس، وكانت له ضيعة على ثلاثة فراسخ عن كربلاء فخرج اليها وادركه الموت فدفن في ضيعته، فكان له مزار مشهور وقبة عالية والناس يقصدون بالنذور وقضاء الحاجات. وقبته ماثلة للعيان.ذكره النسابة السيد جعفر بن السيد محمد الاعرجي الكاظمي المتوفي سنة 1333 في كتابه (مناهل الضرب في انساب العرب).
  • 5. هي مربية النبي (ص) ومولاته، سوداء ورثها النبي عن امه، وكان اسمها بركة، فاعتقها وزوجها عبيد الخزرجي بمكة فولدت له أيمن، فمات زوجها فزوجها النبي من زيد فولدت له اسامة أسود يشبهها، فاسامة وأيمن اخوان. وام ايمن شهد النبي لها الجنة.
  • 6. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 92، الصفحة: 277.
  • 7. الصلف: الادعاء تكبراً، والنطف: التلطخ بالعيب.
  • 8. الشنف: بالتحريك البغض والتنكر.
  • 9. الدمنة: المكان الذي تدمن به الابل والغنم فيكثر البول والبعر.
  • 10. القصة بالفتح: بناية مجصصة على القبر.
  • 11. الصلعاء: الداهية وما بعد صفات له بالقبح والشدة.
  • 12. طلاع الارض: ملؤها.
  • 13. الحفز: الحت والاعجال.
  • 14. لا يبزي: اي لا يغلب ولا يقهر.
  • 15. ذكر ابن هشام في (السيرة النبوية) قصيدة ابن الزبعري بكاملها.
  • 16. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 10، الصفحة: 405.
  • 17. تريد عليها‌السلام بهذا القول: أنك ملأت الارض بالخيل والرجال والفضاء بالرايات وضيقت الارض العريضة علينا. كما يقول شاعر الحسين:
    بجمع من الارض سد الفروج *** وغطا النجود وغيطانها
    وطا الوحش إذا لم يجد مهرباً *** ولازمت الطير أوكانها
  • 18. تضرب أصدريك: اي منكبيك، وتنفض مذرويك: المذروان جانبا الاليتين. يقال: جاء فلانينفض مذرويه: اذا جاء باغياً يتهدد.
  • 19. مستوسقة: مجتمعة. ومتسقة: منتظمة.
  • 20. تقول عليها‌السلام ان الملك ملكنا والسلطان لنا من جدنا الرسول (ص).
  • 21. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 178، الصفحة: 73.
  • 22. الطلقاء هم ابو سفيان ومعاوية وآل امية الذين اطلقهم رسول الله (ص) عام الفتح اذ قال: اذهبوا فانتم الطلقاء. وبهذا صاروا عبيداً لرسول الله هم وذراريهم.
  • 23. صحلت: بحت يقال، صحل صوته: بح وخشن.
  • 24. اشارة الى ما فعلته هند ام معاوية يوم احد حيت شقت بطن الحمزة بن عبد المطلب وهو قتيل واستخرجت كبده فلاكتها باسنانها ثم جعلت من اصابع يديه ورجليه، معضدين وقلادة وخلخالين.
  • 25. الشنآن: البغض والحقد، تقول عليها‌السلام. ان بذرة الحقد لم تزل متمكنة من نفوسكم يا بني أمية، واعظم ما شق عليكم واثر في نفوسكم ان شرف النبوة في هذا البيت الطاهر كما قيل:
    عبد شمس قد أضرمت لبني هاشم *** حرباً يشيب منها الوليد
    فابن حرب للمصطفى، وابن هند *** لعلي، وللحسين يزيد
  • 26. المخصرة بكسر الميم كالسوط.
  • 27. نكأت القرحة: اي وسعت مكانا جرحها.
  • 28. الشأفة: قرحة تخرج في اسفل القدم فتكوى وتذهب، ويقال، استأصل الله شأفته، اذهبها كما تذهب تلك القرحة.
  • 29. وشيكاً: قريباً.*
  • 30. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 169، الصفحة: 72.
  • 31. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 50، الصفحة: 299.
  • 32. الدواهي جمع داهية: هي النازلة الشديدة تنزل بالانسان.
  • 33. تنطف: اي تقطر.
  • 34. العواسل: الذئاب.
  • 35. الفراعل: ولد الضبع.
  • 36. تقول عليها‌ السلام انك بقتلك للحسين قد قضيت على اسمه فهيهات لا تمحو ذكرنا، ولقد صدقت ربيبة الوحي فهذه الآثار الباقية لأهل البيت والثناء العاطر، وهذه قبابهم المقدسة مطافاً لعامة المسلمين، يبتهلون الى الله في مشاهدهم:
    السلام عليكم يا اهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، وخزان العلم ومنتهى الحلم واصول الكرم، وقادة الامم الى آخر الزيارة.
  • 37. الفند: الكذب.
  • 38. المصدر:  کتاب ادب الطف
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى