الجدال هو حوار كلامي يتفهم فيه كل طرف من الفريقين المتحاورين وجهة نظر الطرف الآخر، ويعرض فيه كل طرف منهما أدلته التي رجحت لديه سواء كانت في المسائل العقائديّة أو المسائل الاجتهاديّة الشرعيّة أو ما إلى ذلك، ثم يأخذ بتبصر الحقيقة من خلال الانتقادات التي يوجهها الطرف الآخر على أدلته، أو من خلال الأدلة التي ينير له بها بعض النقاط التي كانت غامضة عليه[1]
وقد يكون الجـدال بالحسنى حيث قال ” عزَّ وجلّ ” : ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[2] ، وقد يكون العكس من ذلك، اذ قال ” عزَّ وجلّ “: ﴿ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ [3] ولذلك قسم العلماء الجدال إلى ممدوح ومذموم ، وذلك بحسب الغاية وأسلوبه منه، وما يؤدي إليه ” فالجدل الذي يهدف إلى إحقاق الحق ونصرته، ويكون بأسلوب صحيح مناسب، ويؤدي إلى خيـر فهذا الجدل الممدوح، والجدل الذي لا يهدف إلى ذلك ولم يسلم أسلوبه ، ولا يؤدي إلى خير فهو الجدل المذموم“[4].
وعليه، بسبب اختلاف وجهات نظر الافراد واختلاف معتقداتهم وافكارهم، قالوا ان “الجدال ظاهرة انسانية لازمت الانسان منذ وجد في هذا الكون، بل ذهب البعض منهم الى انه ظاهرة كونيه لوجودها في الاجناس غير البشرية “[5] يبدو ان المقصود من ذلك الملائكة، وابليس “عليه اللعنة” ويتضح لنا من ذلك على سبيل المثال لا الحصر قصة خلق ادم “عليه السلام” حيث قال ” عزَّ وجلّ “:﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [6]، ثم أمرهم بالسجود لآدم “عليه السلام” فأطاعوا إلا إبليس : ﴿ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾[7].
ولذلك يعتبر أول من سن الجدال الملائكة وأول من أظهر الخلاف وركب العنـاد إبليس وذلـك باستخدامه القيـاس الباطـل عندمـا قال الله ” عزَّ وجلّ ” : ﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾[8]
ويمكن القول ان الانسان بحاجه الى الجدال في كل مكان وزمان، ولأهميته في الحياة العلمية درس في اكثر من علم، فقالوا هذا علم الكلام ، وذاك علم المنطق، بل اكتسب اصحابه اكثر من تسمية ايضا فقالوا هؤلاء سفسطائيون واولئك المتكلمون . وربما تنطلق مسألة الجدال في ما يعيشه الإنسان من أحاسيس ومشاعر قد تكون متناقضةً في داخله، أو في ما يعيش في كيانه من غرائز أو ما إلى ذلك، لأنّ الإنسان مخلوق متحرّك دائماً، ويعتبر أول جدال يسجله لنا القرآن الكريم هو جدال ابني آدم حيث قال الله تعالى : ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾[9]
وعليه، فمسألة الجدال تعد من المسائل التي تتَّصل بالكيان الإنساني في كلِّ مواقع حياته. اذ نلاحظ ان القرآن الكريم يقص علينا حوار وجدال النبي الاكرم “صلى الله عليه واله” مع المشركين عندما كانوا يواجهون ما كان يثيره من أحكامٍ شرعيّة لا يجدون جواباً عقلانياً يواجهونه به، كانوا يلجأون إلى الجدال من دون أيِّ قاعدة، لتعطيل حركة النبي الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” ، وإثارة الضوضاء من حوله .
ويقص علينا القرآن الكريم جدال النبي الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” مع المشركين في موضوعات شتى ، أبرزها التوحيد والإيمان حيث نجد الصراع بين الحق والباطل قائماً ، وكان النبي الاكرم يقف موقف مشرف في تبليغ رسالة ربه مهما لاقى من المشركين من أذى ، وان اغلب الآيات القرآنية تشير بوضوح إلى حقيقة الحوار والجدل ودوره وأثره في الإيمان، اذ بين الله تعالى في كتابه ذلك:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾[10]، يبدو من الآية القرآنية ان مشكلة المشركين، أنّهم يدخلون في جدال من دون أيّة حجة، ولكنهم ينطلقون من حالة نفسيَّة، فقد اعتنقوا مفاهيم وعقائد معيّنة، ولذلك، فإنهم يجدون أنفسهم ملتزمون بها، لأنها تراث آبائهم وتراث أجدادهم ويمثل جزءاً من أوضاعهم الثقافيّة والاجتماعيّة.
لذلك، يشعرون بأنَّ تنازلهم عنها أمام الحجج والبراهين الّذي يقدّمها النبي الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” إليهم، هو تنازل عن الذّات، ولذلك، فإنَّ الكبرياء يمنعهم من ذلك، فيحاولون تغطية هذه الكبرياء عبر هذا الجدال الّذي لا يرتكز على حجّة .
في نفس الوقت ، ان النبي الاكرم قد تبع اسلوب المقارنة بين ما يدعيه المشركون وبين الحجج المنطقية التي تفحمهم ليسلموا بها بعد ان يوازنوا بين الحق والباطل كما جاء في قوله تعالى﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[11] اذ يبين الله تعالى جهلهم وقلة تميزهم في تسويتهم من لا يعلم ولا يقدر بالله القادر والعالم [12] ، وهناك حقيقه الا وهي ان اساليب الحوار والجدال في القرآن الكريم ذات مسالك متعددة تأخذ بالألباب ومجامع القلوب وتؤثر في النفوس، وهذا ما دعا المشركين من العرب ان يتهموه بالسحر وبكلام الكهنة او الشعر[13] ، ولكنهم في داخلهم يقرون بأعجازه، حيث يؤكد لنا التاريخ ان عتبه بن ربيعة العبشمي لما سمع اوائل سورة فصلت من النبي الاكرم محمد اثناء جداله معه ناشده ان يكف عن التلاوة، فلما رجع عتبه ، سألوه ، فقال:” والله لقد سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر“[14] .
يتضح لنا ان القرآن الكريم المعجزة الخالدة التي ايد بها الله تعالى نبيه الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” وان اساليب الجدال التي وردت فيه واحدة من مفردات اعجاز نظمه، ، فقد جاءت معاني آيات الجدال لمحاججة المشركين في شركهم ودحضهم بالحجج المنطقية وكشف زيف ادعاءاتهم ونواياهم الخبيثة.
في الوقت نفسه، نستنتج ان الجدال الناجح هو الذي لا يعتمد في حواره على السخرية والتشهير وإنما يقصد هدم فكرة باطلة أو مبدأ منحرف عن جادة الإسلام .
اعداد: جعفر رمضان
[1] عبد الرحمن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، تحقيق: حسين مؤنس، (دمشق: دار القلم،1993)، ص371.
[2] سورة النحل ، الآية 125 .
[3] سورة غافر ،الآية 5
[4] محمد أبو الفتح البيانوني، المدخل إلى علم الدعوة،(بيروت: مؤسسة الرسالة ، 1995)،ص264.
[5] ابن الجوزي، الايضاح القوانين الاصلاح في الادب والمناظرة ، تحقيق محمود السيد الدغيم،(القاهرة: مكتبة مدبولي، 1991)، ص59؛ زهير بن عواض الالمعي، مناهج الجدل في القرآن الكريم ، اطروحة دكتوراه ،(جامعة الازهر: كلية اصول الدين، د.ت)ً ،ص31.
[6] سورة البقرة، الآية 30.
[7] سورة البقرة، الآية 34
[8] سورة ص، الآية 75-83
[9] سورة المائدة، الآية 27-28
[10] سورة غافر، الآية56-57.
[11] سورة يونس ، الآية 34-35.
[12] محمع البيان في تفسير القرآن ، ج7، ص72.
[13] محمد حسين الطبطبائي، الميزان في تفسير القرآن ،(قم: مؤسسة السيدة معصومة للطباعة والنشر،1324هـ)،20، ص230.
[14] محمد الخضيري، تحقيق: عدنان مولود المغربي، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، (بيروت: مؤسسة مناهل العرفان،1985) ، ص59
المصدر:www.aljawadain.org