مقالات

حسن الظن…

من أسباب الفرقة والإختلاف الإجتماعي بين الأفراد والأُسر تلك الأفكار الموهومة أو الكاذبة أو المظنونة التي يتشبَّث بها البعض تجاه البعض الاخر بدون بيِّنة شرعية أو يقين قاطع.<img alt="

وتنشأ هذه الحالات نتيجة سوء الظن بالاخرين ونسبة أمور لهم، يتبيَّن فيما بعد أنَّهم براءٌ منها.‏

من أجل ذلك أكّد الاسلام على مفهوم أصيل ينمّ‏ُ عن حسن السريرة وطهارة النفس وطيبة القلب وصفاء الروح ومسْلك التسامح مع أهل التوحيد وسمَّاه «حسن الظن». و«حسن الظن» هذا أن تحاول قدر الإمكان إخراج أخيك في الله تعالى من نسبته الى دائرة السوء أو حظيرة التهمة لتجد له تبريراً مرضياً لفعله أو قوله أو موقفه.‏

نماذج عن سوء الظن

وحتى تتوضَّح الصورة، من المفيد ضرب أمثلة متعدِّدة من واقعنا المعاش، وكيف يُمكنُ للوسواس أن يفتعل سوءً للظن وما هي المحامل الممكنة والكثيرة التي ينبغي استحضارها:‏

1- الحالة: أن يمرَّ بك في الشارع صديقٌ أو أخٌ فلا يُلقي عليك السلام ولا يُعيرك اهتماماً بل يمضي في سبيله وكأنَّه لم يراك!‏

الاحتمالات الممكنة: رُبَّما لم ينتبه إليك فعلاً، وربَّما كان مهموماً ألأ مسترسلاً أو مشغول البال أو أفجأه خبرٌ مزعج أو خانه النظر.. أو ألقى إليك السلام ولم تلتفت..‏

2- الحالة: جئت في الوقت المحدَّد على موعد مضروب فلم تجد صاحب الموعد في مكتبه أو متجره أو منزله أو عيادته… فتنسبه الى التهاون وعدم الاحترام وقلَّة الوفاء وإنعدام الأدب!‏

الاحتمالات: أنه نسي الموعد أساساً، أو ظنّه في زمان اخر أو مكان اخر أو وقع في زحمة سير، أو طرأ عليه طارى‏ء، أو أصابه مكروه…‏

3- الحالة: كنت نازلاً على السُّلم، فسمعت من منزل أخيك أصوات الغناء تصدح، وأنت تعرف إلتزامه وتدينه وحرصه على الالتزام بالفتوى… فتتهمه بقلة الايمان والتساهل!‏

الاحتمالات الممكنة: أن يكون طفله الصغير قد أدار جهاز التحكُّم في المذياع لاعباً به فصادف وقوفه على محطة غنائية، وما أكثرها.‏

ويُحتمل أن صاحبة المنزل كانت تستمع لإذاعة اسلامية فانقطع الإرسال لسبب ما، وغلب التشويش أو موجة أخرى غنائية.‏

ويُحتمل أنه كان مستمعاً لنشرة الأخبار ثم قام الى غرفة أخرى أو إلى الحمام فانتهت النشرة، وأعقبتها الأغنية التي صودف أنك سمعتها.‏

4- الحالة: لديك أخٌ عزيز وقريب إستلم مسؤولية محترمة أو بات مشهوراً أو انتُخب لمنصب ما… ولم يتصل بك منذ أشهر على خلاف عادته قبل تغيُّر حالته… فتنسبه للتكبر والتعجرف ونكران الجميل وقلَّة الوفاء!‏

الاحتمالات: أنَّه يتَّصل بك أحياناً ولا يجدك، أو أرسل رسالة ولم تصلك، أو تراكمت عليه الأشغال والإرتباطات والمتابعات، أو ينتهز الفرصة المناسبة ليزورك… فَلِمَ لا تُبادر أنت للإتصال به؟!‏

وهكذا: الى عشرات الأمثلة الأخرى التي تقع في حياتنا اليومية.‏

موقف الاسلام من ذلك

أكّد الاسلام على المحبة بين المؤمنين وعلى الوقار والاحترام وحفظ الحرمة والظن الحسن وشياع روح الإخوَّة والانسجام والإيثار والتواضع.. فدعى للإتصال بمَنْ لم يتصل بك، وزيارة مَنْ لا يزورك، وصلة من قطعك، والعفو عمَّن ظلمك..‏

فكيف لو كانت الحالة وهماً أو تحاملاً لا أساس له؟‏

ورد في النصّ‏ِ المعتبر عن مولانا أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «لا تظنَّن بكلمة خرجت من أحدٍ سوءً، وأنت تجد لها في الخير محتملاً»1.‏

فالأساس هو الخير والنَّظرة الطيِّبة والبُعد عن سياسة التهمة والوقيعة… وأنت تُفتش عن مخرج أو احتمال لتُبقي أخيك المسلم في عزه وكرامته، فيبقى المجتمع الاسلامي متماسكاً بعيداً عن التشرذم.‏

ورد في النصّ‏ِ المبارك عن مولانا رسول الله (ص):«أطلب لأخيك عذراً، فإنْ لم تجدْ له عذراً، فالتمس له عذراً»2.‏

الأضرار المتوقعة لسوء الظن

لا شكّ‏َ أن ترك مفهوم حسن الظن من أن ينتشر ويتأصل في مجتمعنا وبين أفرادنا له أثر سلبي جداً على متانة العلاقات الفردية والجماعية.فكم من علاقة متينة بين شخصين أو عائلتين سرعان ما أصابهما الاهتزاز أو الخلاف تحت تأثير نقل موهوم أو رواية مظنونة أو خبر عابر… فتسوء العلاقات وتنتشر الإشاعات وتنمو الافتراءات، وينشغل كل واحد بِمَنْ قال وبما قيل وبالذي يريد قوله.. حتى يُؤثِّر ذلك على صلواته كما في بعض الأحيان!‏

وكم من المشاريع توقفت، وفاتت فرصة الاستفادة من المدرسة أو المسجد أو المستشفى، فتعطّلت الأحوال وبُدِّدت الأوقات وهُدرت الطاقات وشاعت الضغينة والحقد ورُبَّما كثرت الهموم والغموم.. كل ذلك نتيجة سوء ظن ليس له أساس معتبر أو حقيقة يُمكن الاعتماد عليها.‏

وكلّ‏ُ ذلك كان يُمكنُ أن يُحلّ‏َ بقليل من صفاء النية التي يُجلِّلُها حسن الظن بالأخ المسلموممّا لا شك فيه أنّ إهمال هذه الشعيرة الإلهية قد يؤدي، وبحسب الواقع المنظور، الى شقاء في الدنيا وبُؤس في الاخرة، بل هلاك لا يُعوَّض.‏

أَلَيْسَ الله ربِّي جل جلاله هو القائل:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ … ﴾ 3.‏

وورد في النصوص الشريفة أنّ‏َ «حسن الظن راحةُ القلب وسلامةُ الدين ويُخفِّفُ الهم، ويُنجِّي من تقلُّد الإثم»4.‏

وأيّ‏ُ مؤمن صادق مُجد، لا يرغب في تهذيب نفسه من كل شائبة وعائبة، والنجاة من شدَّة المعاتبة وسوء العاقبة؟! ومن منّا مَنْ يقبل بالتضحية براحته الدنيويَّة وسعادته الأخرويَّة بسبب الإنقياد الى وهم أو سوء تقدير وظن؟!‏

كيف نُحسنُ الظنّ‏َ بالاخرين إنَّما نُحسن الظن إذا لم نحمل إخواننا إلاّ على المحمل الحسن ولو فتّشنا عن ذلك أو اخترعنا سبباً ما، لأنّ‏َ في هذه الطريقة صيانةً لديننا وورعنا عن كل ما قد يؤدي الى الانحراف والبوار. إنّ‏َ الالتزام بالتقوى لا يكون إلا بالاحتياط في الإمتناع عن رجم الاخرين واتَّهامهم بما لم يعلموا أو لم يعملوا به، فلا نتَّهم من لم يُلق السلام بأنَّه متكبر،.ومن خالف الموعد بأنَّه متهاون، ومن كان في موضع ريبة بأنَّه فاسد، فلعلَّهم معذورون أو مُضطرون.. وعلى فرض أنّ هناك خطأ ما، لا سمح الله، فيكون أخي في مثل هذه الحال بحاجة الى إرشادي ومساعدتي، لا إلى تهمتي إيّاه وطعنه والعياذ بالله.‏

ولعلّ‏َ الكثير يُفاجأ بأنَّه لا يجوز إتهام الأخ بشرب الخمر ولو كانت رائحته تفوح من فمه! فلعلَّه وقع عليه، أو رُمي به، من فاسق، أو أنّ‏َ سكِّيراً قذفه بشي منه، أو اشتبه فظنّه ماء فإذا به خمراً… فلا يجوز شرعاً الحكم عليه بالمعصية.‏

الخلاصة

لا شك أنّ‏َ حسن الظن يصون أفرادنا وكلّ‏َ مجتمعنا من المشاكل المجانيّة التي تُنهكُنا بالمتاعب والبغضاء، ونحفظ نفوسنا وإخواننا وسُمعتهم وكرامتهم، وهذا أدنى حق إخواننا علينا.‏

رُوي عن مولانا أمير المؤمنين قوله: «مَنْ عرف من أخيه وثيقة دين، وسَداد طريق، فلا يسمعنّ‏َ فيه أقاويل النَّاس، أما إنَّه قد يرمي الرامي، وتُخطى‏ء السِّهام»5ولا ننسى وجوب صيانة عزّة المؤمن التي هي من عزَّة الله تبارك وتعالى، وفي النصّ‏ِ الشريف عن مولانا ومقتدانا رسول الله (ص):«مَنْ أساء بأخيه الظنّ‏َ فقد أساء بربِّه»، إنّ‏َ الله تعالى يقول: «إجتنبوا كثيراً من الظن»67.‏ 

  • 1. ميزان الحكمة، الحديث 11226‏
  • 2. المصدر نفسه، الحديث 11228‏
  • 3. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 12، الصفحة: 517.
  • 4. ميزان الحكمة، راجع الحديث 11231 11232‏
  • 5. نهج البلاغة المبارك، الخطبة 141‏
  • 6. ميزان الحكمة، الحديث 11243
  • 7. الموقع الرسمي لسماحة السيد سامي خضرا(حفظه الله).
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى