مقالات

بحثٌ حول الآية الـ 62 من سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمَّد


بقلم: زكريا بركات
٢٩ إبريل ٢٠٢٠

قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَالَّذينَ هادُوا وَالنَّصارى‏ وَالصَّابِئينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة: 62] .

وحكى ابنُ شهر آشوب في “متشابه القرآن” عن ابن عباس أنَّها منسوخة بقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرينَ) [آل عمران: 85] .

ولم أقف لهذا القول على سند معتبر، وأورد ابن شهر آشوب عليه ما مؤدَّاه أنَّ النسخ غير محتمل في مثل هذه المعاني لارتباطها بالحقائق الدينيَّة الواقعية الثابتة من العقيدة والوعد والوعيد، والنسخ إنما يُحتمل في الأحكام الشرعية الفرعيَّة حيث يُعقل تغيُّر المصالح والملاكات التي يتغيَّر بتبعها الحكم.

ومن المهمِّ التعرُّض لتفسير هذه الآية الكريمة لما يكتنفها من غموض عند كثير من الناس، كما إنَّ أعداء الله من أهل الكتاب تمسَّكوا بها للتشكيك في أهمِّية الاعتقاد بالنبوَّة الخاتمة، زاعمين أنَّ النجاة لا تتوقَّف على الانتماء إلى دين بعينه، بل يكفي الإيمان بالله واليوم الآخر مع العمل الصالح لتحقٌّق النجاة، فزعموا أنَّ المسلم والكتابي في ذلك على حدٍّ سواء بدلالة الآية.

ولم أجد في المصادر التي تُعنى بالتفسير الأثري ما ينفع في رفع الغموض والإشكال، كما مرَّ معظم المفسِّرين على الآية من غير بيان يشفي الغليل.

فنستعين بالله تعالى لبيان الآية الكريمة بما وُفِّق قليلُ الزاد لفهمه، فأقول ـ ومن الله التوفيق ـ :

اعلَمْ أنَّ الآية الكريمة ليست بصدد التسوية بين المسلم وبين غيره من المنتمين إلى الأديان الأخرى، بل هي بصدد بيان المعيار الذي يلزم الاحتكام إليه في معرفة الناجي والفائز عند الله، من غير تركيز على اسم الدين.. وبعبارة أخرى: إنَّ الآية الكريمة تخاطب كلَّ منتمٍ إلى دين: إنَّ (اسم الدين) ليس هو الذي يجعلك ناجياً فائزاً عند الله، فالمسلم لن يدخل الجنَّة لمجرَّد أنَّ اسمه مسلم، وكذلك اليهودي والنصراني.. بل الذي يوجب النجاة والفوز عند الله (تعالى) هو الاتِّصاف الحقيقي بالإيمان والعمل الصالح. وبهذا المعيار تثبت نجاة من مات من النصارى ـ مثلاً ـ قبل ظهور الإسلام على فرض اتِّصافه حقًّا بالإيمان والعمل الصالح.. وبهذا المعيار أيضاً من الممكن أن يستحقَّ المسمَّى بـ “المسلم” دخولَ النار إذا كان الإسلام مجرَّد تسمية يتسمَّى بها من غير اتصاف حقيقي بالإيمان والعمل الصالح كما هو حال المنافقين. وبعبارة ثالثة: إنَّ الآية الكريمة بصدد التفريق بين (اسم الدين) وبين (الدين) نفسه، فالتسمِّي بدين ما، ليس هو المعيار في النجاة ولا في الهلاك، بل التديُّن هو المعيار، فإن كان التديُّن صحيحاً بدين الحقِّ فالمتديِّن ناجٍ فائز، وأمَّا إذا كان التديُّن كاذباً أو بدين باطل فالمتديِّن هالك.

والشاهد على صحَّة هذا الفهم هو قوله تعالى من سورة الحج: (إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَالَّذينَ هادُوا وَالصَّابِئينَ وَالنَّصارى‏ وَالْمَجُوسَ وَالَّذينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهيدٌ) [الحج: 17] ، فعبارة (إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) في آية الحجِّ وُضعت مكان عبارة (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) في سورة البقرة، وهذا دليل على أنَّ المراد هو بيان الأساس الذي سوف يتم الحكم والفصل من خلاله بين المتنازعين يوم القيامة، فالمتصفون حقًّا بالإيمان والعمل الصالح هم الناجون الفائزون بحكم الله وفصل قضائه بين خلقه. وليس الغرض هو التسوية بين المتنازعين وجعلهم على حدٍّ سواء من ناحية الحقَّانية؛ إذ لا يُحتمل ذلك في حقِّ المشركين المذكورين في آية سورة الحجِّ، فتدبَّرْ جيِّداً.

وشبيه ذلك نجده في خطاب نبي الله شعيب (ع) مع قومه حين قال لهم: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [الأعراف: 87] ، فالأمر بالصبر وإيكال الحكم إلى الله تعالى، ليس الغرض منه التسوية بين المؤمن وغير المؤمن والقول بأن الفريقين على حدٍّ سواء.. بل هو أسلوب حكيم في إنهاء الحوارات العقيمة التي من الممكن أن تنتهي إلى صدامات، وذلك بتحفيز القلوب على مراقبة الله تعالى باعتباره هو الحاكم الذي لا يمكن خداعه.

وكذلك في الآية الـ 62 من سورة البقرة، فإنَّ ذكر المعيار (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) الذي على أساسه سيتم الحكم والفصل من قبل الله بين أتباع الأديان، هو تحفيز للنفس الإنسانية على المصارحة والصدق فيما بينها وبين نفسها؛ فإنَّ الاتصاف بهذا المعيار ـ حقًّا ـ هو الموجب للنجاة، وأمَّا ادِّعاء النجاة لمجرَّد الانتماء الشكلي إلى دين ما، فهو نوع من الخداع الذي يمارسه كثيرٌ من المتديِّنين الشكليِّين، وهذه هي الإشكالية التي تهدف الآية الكريمة إلى معالجتها.. فهي ليست بصدد التسوية بين أتباع الأديان المختلفة، بل هي بصدد تقديم معالجة معيارية تنفع الإنسان في تقييم نفسه ومدى صدق إيمانه.

فإن قلتَ: فلماذا لم يُذكر عنوان (الإيمان برسول الله) في آية سورة البقرة؟

قلتُ: لأنَّ الغرض هو ذكر (كلمة سواءٍ) لا تمثِّل نقطة خلاف بين الأديان المتنازعة؛ حتى لا يكون المعيار المذكور نفسه محلَّ نزاع أيضاً.

فإن قلتَ: فعدم ذكر (الإيمان برسول الله) قد يعتبر دليلاً على عدم دخوله في المعيار للنجاة مما يؤيِّد الشبهة.

قلتُ: لا يصلح عدم ذكر (الإيمان برسول الله) دليلاً لذلك؛ لأنَّ الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله) من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر، أي إنَّ تحقُّق الإيمان بالله واليوم الآخر في قلب المؤمن يؤدِّي به إلى الإيمان برسول الله.

فإن قلتَ: ما الدليل على أنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر يؤدِّي إلى الإيمان برسول الله؟

قلتُ: الدليل بيِّنٌ من العقل السليم ومن القرآن الكريم، فأمَّا الدليل من العقل فهو أنَّ من آمن بالله واليوم الآخر، يجعله إيمانه بالله مُتَّبعاً لرسول الله بعد اطِّلاعه على المعجزة الموجبة للتصديق، فالإيمان برسول الله متفرِّع ـ عقلاً ـ عن الإيمان بالله تعالى بعد الاطِّلاع على المعجزة.. ويدعوه إيمانه باليوم الآخر إلى تجنُّب التكذيب والمعصية لعلمه أنَّ ذلك يجعله مُستحقًّا للعقوبة الأخرويَّة.

وأمَّا الدليل من القرآن الكريم فهو قولُه تعالى: (…فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في‏ شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً) [النساء: 59] ، فجعل اللهُ الردَّ والاحتكام إلى رسول الله (ص) نتيجة للإيمان بالله واليوم الآخر، وكذلك في قوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ في‏ رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثيراً) [الأحزاب: 21] ، فجعل الله الاقتداء برسول الله (ص) من مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر، وبديهي أنَّ الردَّ والاقتداء هما فرع الاعتقاد بالنبوَّة، ولم يكن الفرع من مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر إلا لكون الأصل (الذي هو الإيمان بنبوَّة رسول الله) هو من مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر.

ومن الدليل على ذلك من القرآن الكريم ـ أيضاً ـ قوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [الأنعام: 92] ، فالآية تبيِّن أنَّ الإيمان بالآخرة يوجب الإيمان بالقرآن الكريم، فيتَّضح من ذلك أنَّ عدم إيمانهم بالآخرة أوجب عدم إيمانهم بالقرآن الكريم. ولمَّا كان الإيمان برسول الله (ص) مرتبطاً بالإيمان بالقرآن الكريم (لأنَّ القرآن الكريم هو المعجزة المثبتة لصدق النبوَّة) ، فانتفى الإيمان برسول الله (ص) ـ أيضاً ـ نتيجة انتفاء الإيمان بالآخرة.

ومن هنا نفهم السرَّ في ذكر صفة (…وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) للمتَّقين الذين يهتدون بالقرآن الكريم وذلك في مطلع سورة البقرة وكذا سورتي النمل ولقمان، فإنَّ المقصود التأكيد على أهمِّية الإيمان بالآخرة كشرط للإيمان بالقرآن الكريم والاهتداء بنوره، وأنَّ من فقد الإيمان باليوم الآخر فإنَّه يُكذِّب القرآن الكريم ولا يقبل هداية رسول الله (ص) بنور القرآن الكريم.. وهو تمهيد لذكر أصناف الكفار (أهل الكتاب والمشركين والمنافقين) الذين لا يؤمنون بالآخرة ونتيجةً لذلك يرفضون الإيمان بالنبي والكتاب فلا يهتدون.

وكذلك نقرأ في سورة الإسراء قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الإسراء: 9 ـ 10] ، فنفهم أنَّ هناك مقابلة بين (المؤمنين المهتدين بالقرآن الكريم) وبين (الذين لا يؤمنون بالآخرة) ، وهذه المقابلة ترجع إلى أنَّ الإيمان بالآخرة هو سبب للإيمان بالقرآن الكريم، فيصح ـ بناءً على ذلك ـ جعل الناس على قسمين متقابلين: (المؤمنين بالقرآن الكريم) و (المنكرين للآخرة) ، ومن الواضح أنَّ المؤمن بالقرآن الكريم يكون مؤمناً برسول الله (ص) لأنَّ القرآن الكريم هو معجزته ودليل صدقه ومضمون رسالته، فيثبت أنَّ الإيمان بالآخرة ينتهي بالإنسان إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله.

وكذلك نقرأ في سورة الإسراء قوله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً) [الإسراء: 45] ، فإنَّ المعنى ـ كما أفاد أهل العلم بالتفسير ـ : أنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة يُحرمون من هداية القرآن الكريم وفهمه والإفادة من نوره. وهذا دليل على أنَّ الإيمان بالآخرة ينتهي إلى الإيمان برسول الله (ص) كما تقدَّم بيانُه.

ويؤكِّد ذلك أنَّ الله تعالى جعل طاعة رسول الله (ص) شرطاً لتحقُّق طاعة الله، فقال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفيظاً) النساء: 80] ، وجعلها شرطاً للهداية، فقال تعالى: (قُلْ أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطيعُوهُ تَهْتَدُوا…) [النور: 54] ، وهذا يؤكِّد أنَّ الإيمان برسول الله (ص) (الذي هو منشأ الطاعة) ذو ارتباط وثيق بالإيمان بالله واليوم الآخر، بمعنى العلاقة الحتمية التي تعني عدم إمكانية التفكيك بين الأمرين.

وثمة مسائل فرعية كثيرة تعدُّ من نتائج الإيمان بالله واليوم الآخر، كما في قوله تعالى: (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ…) [التوبة: 18] . فإذا كانت عمارة المساجد ـ وهي من المسائل الفرعية ـ من نتائج الإيمان بالله واليوم الآخر، فكيف لا يكون بالإيمان برسول الله (ص) كذلك..؟

ومنه يتبيَّن أنَّ أهل الكتاب الذين كذَّبوا برسول الله (ص) لم يكونوا مطيعين لله ولا مهتدين، وانتفاء الطاعة والهداية يساوق انتفاء العمل الصالح والإيمان.

ولذلك حكم الله تعالى عليهم ـ صراحةً ـ بانتفاء الإيمان فقال: (… وما أولئك بالمؤمنين) [المائدة: 43] .

وقال الله تعالى ـ في بيانٍ أكثر تفصيلاً ـ : (قاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدينُونَ دينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة: 29] ، فالآية صريحة في أنهم غير مؤمنين بالله ولا باليوم الآخر، وأنَّهم ليسوا على الدين الحقِّ، كما تفيد انتفاء الصلاح العملي عنهم بسبب أنهم لا يحرِّمون ما حرَّمه الله ورسولُه.

والآيات الدالة على كفر أهل الكتاب وشركهم (في العقيدة والعبادة) واستكبارهم وتكذيبهم لأنبياء الله وقتلهم لهم وانحرافهم في السلوك والعمل، هي آيات كثيرة يطول المقام بسردها.. فلا مجال إلى احتمال أنهم مؤمنون بالله وباليوم الآخر ولا احتمال أنهم أصحاب عمل صالح.

فإن قلتَ: فما معنى قوله تعالى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى‏ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف: 159] ؟

قلتُ: هذا كقوله تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الأعراف: 181] ، وكقوله تعالى: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24] ، ففي كلِّ أُمَّة أئمَّةٌ وهُداة يصطفيهم الله، وعباد صالحون مطيعون.. وقليلٌ ما هم، وهذا من لطف الله بعباده، وهو لا ينافي أنَّ الغالبية العظمى من أهل الكتاب عصوا وانحرفوا كما أخبر القرآن الكريم في الكثير من الآيات، فالانحراف والضلال فيهم هي السمة البارزة والصفة الغالبة.

فإن قلتَ: فما معنى قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 75] .

قلتُ ـ أوَّلاً ـ : إثبات الأمانة في المجال المالي لا يوجب إثبات الصلاح الديني أصولاً وفروعاً.

وثانياً: الآية لا تثبت الأمانة للجميع، بل للبعض الذي يصدق مع الواحد، وقد رُوي أنَّ المقصود أحدهم.

فإن قلت: فما معنى إثبات الإيمان لقليل منهم في قوله تعالى: (مِنَ الَّذينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَليلاً) [النساء: 46] ؟

قلتُ: قد بيَّن الله في هذه الآية شدَّة انحرافهم الفكري والعملي وعداءهم للدِّين وأنهم ملعونون.. وهذه هي السمة الغالبة على المجتمع اليهودي، ولكنَّ الحقَّ أنَّ هذا الانحراف العام واللعنة الإلهية ليس ممَّا يوجب سلب الاختيار تماماً، بل المجال متاح للإيمان، إلاّ أنَّ غلبة الصفة السلبية وتأثير لعنة الله عليهم، ممَّا يجعل الإيمان صفة نادرة في المجتمع اليهودي، فإذا تحقَّق الإيمان فإنه يتحقَّق ضعيفاً وقليلاً، أو يتحقَّق في أفراد قلائل لا يوجب إيمانُهم انتفاءَ الصفة السائدة على المجتمع بوصفه الجمعي.

وختاماً نستعرض طائفة من الآيات الكريمة التي تحدَّثت عن لعن أهل الكتاب وكُفرهم وشركهم (في الفكر والعبادة) ، لكي تتم الفائدة، مع ترك الشرح والتعليق بُغية الاختصار.. وقد رتَّبتُها على نسق يسهم في تكوين صورة صحيحة وقريبة من التمام والكمال حول حُكم أهل الكتاب عند الله تبارك وتعالى.. والله الموفِّق.

(لَمْ يَكُنِ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة: 1] .
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْءٍ حَتَّى تُقيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ…) [المائدة: 68] .
(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) [البقرة: 41] .
(…وَلَيَزيدَنَّ كَثيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرينَ) [المائدة: 68] .
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعيمِ) [المائدة: 65] .
(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) [آل عمران: 70] .
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهيدٌ عَلى‏ ما تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 98] .
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَريقاً كَذَّبْتُمْ وَفَريقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة: 87] .
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة: 61] .
(فَبِما نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَليلاً) [النساء: 155] .
(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَليلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 88] .
(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرينَ) [البقرة: 89] .
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرينَ عَذابٌ مُهينٌ) [البقرة: 90] .
(ما يَوَدُّ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلاَ الْمُشْرِكينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ) [البقرة: 105] .
(وَدَّ كَثيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَديرٌ) [البقرة: 109] .
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ…) [المائدة: 17] .
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَليمٌ) [المائدة: 73] .
(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى‏ الْمَسيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة: 30] .
(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31] .
(يُريدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [التوبة: 32] .
(إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكينَ في‏ نارِ جَهَنَّمَ خالِدينَ فيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) [البينة: 6] .
(قاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدينُونَ دينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة: 29] .
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الحشر: 11] .

هذا تمامُ ما أردتُ ذكره في هذا البحث.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى