ان الجاهلية الحديثة التي هيمنت طويلاً على مصير العالم ، بدأت اليوم بالانهيار ؛ ليس فقط بسبب تناقضاتها وسلبياتها الداخلية ، وانما ايضاً بسبب افلاسها وافتقارها الى مبررات الاستمرار . فكل الشعارات والادعاءات التي حملتها واطلقتها هذه الجاهلية وتسترت وراءها ، افتضحت اليوم ، وانكشف زيفها ؛ فأصبحت عارية مفضوحة بسبب الويلات التي سببتها للبشرية ، فلقد اثبتت هذه الجاهلية ـ ايّا كان معسكرها ـ انها ليست إلاّ وسيلة لتدمير واستغلال واستضعاف الشعوب .
افلاس الجاهلية الحديثة
وآخر الادلة واقربها الى تأريخنا الحديث الحرب الشرسة التي شنتها الولايات المتحدة الامريكية ضد شعوب جنوب شرق آسيا ، وشعوب اخرى في العالم . ونحن لا نحتاج الى ان نبين ابعاد هذه الحرب الشرسة ، ولا نحتاج الى مزيد من الذكاء لكي نكتشف ان جميع التبريرات التي تستر وراءها الغرب او الشرق في فرضها لتلك الحروب على الشعوب المستضفعة ، هي كلها واهية باطلة ، بل انها أقبح من الجريمة ذاتها .
ترى بماذا يبررون قتل مليوني انسان في كمبوديا ، وما لا يقل عن مليون انسان في افغانستان هذا البلد الفقير المستضعف ؟! فهل شكر الله الذي انعم عليكم بنعمة القوة ، ونعمة التقدم الصناعي ، وتوفر الوسائل المادية ان تعتدوا على الشعوب ، وترتكبون بحقها المجازر الجماعية ، أم ان التقدم الصناعي والتكنلوجي في الولايات المتحدة الأمريكية يعني إحراق الأراضي الفيتنامية والكمبودية واللاوسية وحرق من فيها من بشر وحيوانات ونباتات ؟!
لقد تبين للعالم اليوم أكثر من اي وقت مضى افلاس الجاهلية الحديثة التي تسمي نفسها بـ (الحضارة) ، وهذا ما يفسر ظاهرة انتظار العالم لمولد حضارة جديدة ، وفكرة جديدة ، وبالتالي ولادة أمة اخرى . فما هي هذه الأمة ـ يا ترى ـ ، وما هي تلك الفكرة والحضارة ؟ وهل ننتظر من الصين ـ مثلاً ـ أن تكون هي هذه الحضارة الجديدة ؟
إنني ـ شخصياً ـ لا أتوقع ذلك ، لأني أرى ان الفكر البوذي الذي من الممكن أن يحل محل الماركسية الحاكمة في الصين ، ليس بذلك المستوى من العمق والنضج بحيث يستطيع ان يكون بديلا مناسبا وصحيحيا عما يوجد في عالمنا اليوم من افكار وثقافات وتشريعات .
ثم هل ننتظر ـ مثلاً ـ من بعض الحضارات البائدة التي كانت سائدة في افريقيا ان تعود وتحكم العالم ؟ كلا بالطبع ، لان الأفكار الشركية التي كانت سائدة في افريقيا تفتقر الى أي عنصر من الحياة .
المنهج الإسلامي الحل الوحيد
وعلى هذا الأساس فان انتظارنا الوحيد بصفتنا مسلمين ، مؤمنين بالقرآن الكريم ، وباعتبارنا مؤمنين بصدق الله عندما يقول : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ 1 ، يتوجه الى ميلاد الحضارة الإسلامية ، والمنهج الرسالي الايماني التوحيدي ، وبالتالي انبعاث الأمة الإسلامية من جديد ؛ هذه الأمة التي يقول عنها البارئ عز وجل : ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ 2 .
وهكذا فان العالم اليوم في انتظار اللحظة التي تنبعث فيها الأمة الإسلامية من جديد لتؤدي دورها المرتقب ، ولكن التساؤلات المهمة والحساسة المطروحة في هذا المجال هي : ماذا تنتظر الأمة الإسلامية ، ولماذا لا تتحرك هذه الأمة لتنقذ البشرية من هذا الدرك الأسفل الذي أوقعته فيه الجاهلية الحديثة ، وماذا ينتظر حملة القرآن ؛ أولئك الذين في كتابهم نجاة البشرية ونجاة أنفسهم ؟؟
الوحدة سبيل نهوض المسلمين
ان الأمة الإسلامية تنتظر تحقق شيء واحد الا وهو (الوحدة) ، فهم في انتظار تجاوز سلبيات التجزئة بجميع أنواعها ؛ الإقليمية ، والعنصرية ، والقومية ، واخيراً الطائفية . ونحن اليوم مدعوون أكثر من اي وقت مضى الى إيجاد الوحدة التي من دونها لا يمكن ان يحمل شعبا و أمة ما همَّ العالم . فليس من الصحيح ان نفكر في إنقاذ شعبنا دون الشعوب الأخرى ، لان هذا الشعب متفاعل مع شعوب العالم ، فالعالم اليوم أصبح كله بمثابة قرية واحدة ، وكل جزء منه يؤثر في سائر الأجزاء شئنا أم أبينا . فليست هناك ظاهرة سياسية او علمية او اجتماعية او اقتصادية في بقعة من بقاع العالم ، إلاّ وكان لها تفاعل مع سائر الظواهر . فلو اخترع اليوم ـ على سبيل المثال ـ في الولايات المتحدة الأمريكية جهاز ، فبعد أسبوع سوف ترى هذا الجهاز في بيتك سواء كنت في آسيا أم في افريقيا أو في أي مكان آخر ، واذا توصل العلم الحديث الى اكتشاف ما في جنوب افريقيا ـ مثلاً ـ فانك ما تلبث ان ترى هذا الاكتشاف مستعملا في الهند او في الصين او في اميركا او روسيا . . .
وعلى هذا فان العالم اصبح ـ بفعل التطور الهائل الذي طرأ على عالم الاتصالات ـ بمثابة قرية صغيرة متفاعلة مع بعضها . وبناء على ذلك فاننا لا نستطيع ان نفكر في ان نعمل على انقاذ أمة او شعب او جماعة ما ، إلاّ بعد ان ننقذ العالم كله . فعالمنا اليوم يشبه الى حد كبير البحر الذي تتفاعل أمواجه ومياهه وتياراته مع بعضها ، فنحن لا نستطيع ان نحلي بقعة صغيرة فقط من هذا البحر الواسع ، لأننا لا نلبث ان نرى ان هناك أمواجا اخرى ستأتي لتعيد تلك البقعة الى سابق عهدها .
وتأسيساً على ذلك لابد ان نحمل همّ العالم ، والامة الإسلامية هي المرشحة لحمله ؛ هذه الأمة ذات الالف مليون انسان ، وذات الامتداد العريض على رقعة واسعة من الارض ، وذات التأريخ الحضاري المجيد ، وبالتالي ذات القرآن الذي جاء لإنقاذ البشرية . وهذه الأمة لا يمكن لها ان تقوم بدورها المنشود إلاّ إذا اتحدت ، ولا ينفع في هذا المجال ان يسعى شعب واحد فقط من هذه الأمة من أجل الحيلولة دون وقوع المآسي والويلات ، لان اليد الواحدة لا يمكن ان تصفق ، ولان الشعب الواحد مهما كان مخلصاً في جهوده ومساعيه لا يمكنه ان يحقق انجازاً ملفتاً للنظر إلاّ إذا اتحدت معه الشعوب الإسلامية الاخرى .
شرط تحقيق الوحدة
ان هذه الوحدة الكبرى مرهونة بتطبيقنا لكلام الله سبحانه وتعالى الذي يقول : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا … ﴾ 3 . فاذا ما استطعنا ان نكون هذه الأمة الوسطى في العالم ، واستطعنا ان نمتلك بقوة مصادرنا الطبيعية ، وسيطرنا على مواقفنا الستراتيجية ، واصبحنا نحمل راية المستضعفين في الأرض . . فحينئذ سيكون بإمكاننا ان نتحدى جبروت القوى الاستكبارية ، وحينئذ سنستطيع ان نمنع الحروب العدوانية .
وعلى هذا فان الوحدة تمثل اليوم ضرورة دينية ، وهدفاً ستراتيجياً ، فلا يمكن لأي انسان يعمل ويسعى من اجل إسعاد نفسه ، وإسعاد البشرية ان يتغاضى عن هذا الهدف الحيوي والاستراتيجي . وبالطبع فاني لا اقصد هنا وحدة الأنظمة ، بل وحدة الشعوب الإسلامية .
الحج المظهر الأكبر للوحدة
وتعتبر فريضة الحج من أهم مظاهر الوحدة ، وعوامل تحقيقها ، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بواجبات علينا ان نؤديها خلال الحج ، فقال في محكم كتابه الكريم : ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ 4 والآيات القرآنية السابقة تصرح بان على جميع المسلمين القادرين على أداء فريضة الحج ان يجتمعوا لأدائها في مكة المكرمة . فلا يمكن ـ مثلاً ـ ان يحج البعض من الناس في شهر محرم ، ويحج البعض الآخر في شهر ذي الحجة ، او في رمضان ، بل ان الحج يجب ان يتم في اشهر معلومات مما يؤكد على ضرورة التجمع في موسم الحج بالذات .
ثم يقول تعالى : ﴿ … فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ … ﴾ 5 . فالفسوق والجدال هما من المحرمات الاجتماعية ، حيث اراد الله جل وعلا ان يكون جو المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي يقام في الحج ، جواً نقياً طاهراً لا جدال فيه ، ولا فسوق ؛ فلا يحلف احد بالله تعالى سواء كان صادقاً في حلفه أم كاذباً ، ولا يجادل أخاه ، بل يتبادل معه الرأي ، ويتبع أحسن أقواله ، وبذلك تتم عملية الشورى الإسلامية ، ويتم التعارف بين الشعوب المسلمة ، ومن ثم التعاون العلمي .
ثم يأمرنا تعالى أن نتحصن بلباس التقوى ، ونتزود من زادها لانه خير زاد : ﴿ … وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى … ﴾ 5 ، وان المسلمين يتوافدون على الديار المقدسة لتطبيق هذه الفريضة الإسلامية العبادية السياسية .
ضرورة التعارف في الحج
ان من أهم واجباتكم ـ أيها الحجاج ـ ليس ان تزكوا أنفسكم فحسب ، رغم ان تزكية النفس من خلال الحج ضرورة ، وليس فقط ان تهتموا باداء واجبات الحج من طواف حول البيت ، وسعي بين الصفا والمروة ، وتقصير ، ووقوف في المشاعر . . . فبالإضافة الى ذلك هناك واجب عظيم جمعكم الله تعالى في هذه الأرض من أجل تحقيقه ، وهذا الواجب هو التعارف كما يشير الى ذلك تعالى في قوله : ﴿ … وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ … ﴾ 6 وقوله : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ … ﴾ 7 .
عن جابر الجعفي قال ؛ تنفّست بين يدي أبي جعفر (عليه السلام) ثم قلت : (في الحديث . . . ) فقال : يا جابر إن الله خلق المؤمنين من طينة الجنان ، وأجرى فيهم من ريح روحه ، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه ، فإذا أصاب تلك الأرواح في بلد من البلدان شيء حزنت عليه الأرواح لأنها منه 8 . فمادام المؤمنون إخوة فعليهم ان يتصالحوا : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ … ﴾ 7 ، فكيف يمكن ان نصلح بين اخوينا ونحن لا نعرف بعضنا ، ولا نعرف إمكانياتنا ؟. وان ذلك لا ينبغي ان يكون ضمن مؤتمرات رسمية ، فهذه المؤتمرات كانت أكثر ضررا على الوحدة من مكر إبليس ، بل من الضروري ان يبحث كل حاج مسلم عن إخوة له في الله جاؤوا من مشارق الأرض ومغاربها ، فيجلس معهم ، ويستمع اليهم ، ويتحدث معهم ، ويتعرف على آمالهم وآلامهم ، ثم يطرح الحلول والعلاج .
أئمة الكفر يمزقون الوحدة
ان أئمة الكفر وأشياع الظلال يسعون من أجل بث الخلافات المذهبية في الحج وخارجه ، لأنهم يعلمون ان وحدة الأمة الإسلامية وخصوصاً وحدة المذاهب الدينية ؛ هذه الوحدة القائمة على أساس التقوى وعلى أساس التمحور حول القرآن ، هي الأخطر وهي الأقوى والأمضى من بين أسلحة المسلمين ، ولذلك نراهم يعملون بجد من اجل مقاومة هذه الوحدة .
إنهم في السابق جاؤوا بالقوميات والعنصريات والإقليميات من اجل ان يزرعوا الفرقة بين المسلمين ، واليوم نراهم يتجرؤون ويتجاسرون أكثر فإذا بهم يحاولون بث الفرقة بين المسلمين ، وانها لفتنة عمياء لو انتشرت في بلداننا لحرقت الأخضر واليابس ، فعلينا أن نقاومها لان الفتنة اشد من القتل ، ولابد ان نسكت تلك الأصوات الناشزة التي تبث هذه الفتنة الطائفية العمياء ، ولابد ان نقطع تلك الأيادي التي تعمل في هذا المجال ، وتمهد الطريق للاستعمار .
من هنا يجدر بالمسلمين جميعاً ان ينتبهوا ، لان هناك من يسعى ليزرع الفتن بيننا عبر كلماته وممارساته اليومية . . واعلموا ان الفتن لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، وانما تعم فتأخذ البرئ بذنب المجرم . .
وهكذا فان الجاهلية الحديثة قد أفلست ، وافتضح أمرها ، والعالم ينتظر الأمة الإسلامية ، وهذه الأمة تنتظر بدورها الوحدة ، وهذه الوحدة لا يمكن ان تتحقق الا بعد ان نتجاوز العقبات المتمثلة في الإقليمية والعنصرية والطائفية . .
مشروع الإسلام للوحدة
من اخطر ما ابتليت به البشرية الصراعات بين بني آدم ، علماً ان الله سبحانه وتعالى قد انذر بني آدم بانهم عندما يهبطون الى الارض سوف يكون بعضهم لبعض عدوا ، وقد حدث أول مظهر من مظاهر الصراع عندما قتل قابيل أخاه هابيل . ومنذ ذلك الحين استمرت المعارك الدامية حيناً ، والباردة أحياناً أخرى .
ونحن لو تعمقنا في الأمر لوجدنا أن مشكلة الصراعات بين أبناء آدم تمثل أعمق واخطر معضلة ابتليت بها البشرية ، ويكفينا في هذا المجال أن نلقي نظرة واحدة على ميزانيات التسلح في هذا العالم ، وعلى الحروب التي تبتلع جهود البشرية ، والإذاعات والصحـف ووسائل الإعلام الاخرى الموظفة لهذه الحروب ، لنعرف مدى عمق هذه المأساة .
إقرار الوحدة جوهر الرسالات الإلهية
وقد أرسل الله عز وجل رسله لكي ينقذوا البشرية من مآسيها ، ويقدموا اليها الحلول الناجعة والكفيلة بضمان سعادتها ، ومن جهة اخرى فقد بينوا الأسس الواضحة والمتينة لإقرار الوحدة بين بني آدم .
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن نصف القرآن الكريم يعالج هذه المشكلة الحادة في حياة الإنسان ، وكلما استطعنا ان نقترب من روح القرآن ، وجوهر آياته الحياتية والحضارية ، استطعنا ان نكون بمنجى عن هذا الداء العضال ؛ اي داء الصراع بين بني آدم .
والصراع هذا يبدأ من الزوج مع زوجته ، ومن الأخ مع أخيه ، والجار مع جاره ، ويستمر إلى ان يتخذ شكل الحرب الباردة التي نراها سائدة اليوم بين الدول الكبرى في العالم .
نظريات الوحدة
ان هذه المشكلة العميقة الواسعة التي لم نر ان الإنسان قد استطاع التخلص منها في حقبة من حقب التاريخ ، جاء القرآن الكريم ليقدم الحلول الناجحة والحاسمة لها . وقبل كل شيء لابد ان نوضح ان العلماء والمفكرين ، وعلماء الاجتماع قدموا من اجل إقرار الوحدة بين افراد المجتمع ثلاث نظريات :
1 ـ ان الوحدة لابد ان تقوم بالقوة ومن خلال الدكتاتورية التي تضللها سحابة من التضليل الإعلامي ، وهذه هي النظرية الفاشية والشيوعية .
2 ـ ان الوحدة لا يمكن أن تقوم إلا على أساس الثروة المدعومة بالإعلام او التضليل الدعائي ، وهذه الثروة ـ حسب ما يزعم أصحاب هذه النظرية ـ هي التي لابد ان تحل مشاكل البشرية ، وهي التي لابد ان تهيمن على الطاقات وتوحدها . والنظام الرأسمالي الذي يؤمن بهذه النظرية يطرح شعاراً مفاده ان جميع العالم لابد ان يخضع للرأسمال . ففي اي موقع من مواقع العالم الرأسمالي يكون الإنسان أخا للإنسان الذي يعيش في الموقع الآخر فيتحدون مع بعضهم ، ويشكلون شبكة واسعة من المؤسسات التجارية والصناعية والمالية ، وبالتالي فانهم يؤسسون الدولة التي توحد الأمة .
وبناء على ذلك فان الإنسان الغربي يعني من الوحدة ، وحدة الرأسمال ، والقوى التي تمتص جهود الناس ، وهذه الوحدة تقوم شبكاتها على أساس المال ، ولكن هذه الشبكات تصبغ بصبغة الإعلام الذي يكون هو الظاهر ، في حين ان الثروة تمثل حقيقة هذه الوحدة .
وإذا وجد في العصر الحديث انتشار لما يسمى بـ ( الشركات المتعددة الجنسيات ) فانما تتبع هذه النظرية ، وهذه الحالة تسمى من الناحية السياسية والاقتصادية بالامبريالية .
3 ـ أما النظرية الثالثة ، فهي النظرية الإسلامية ، وهي تقوم على أساس ان الوحدة لا يمكن ان تبنى على أساس المال مضافا الى الإعلام ، ولا على أساس القوة مضافة الى الاعلام ، بل تقوم على اساس العقل مضافا الى الوحي .
ان العقل هو الحجة الباطنة ، والوحي هو الذي يثير دفائن العقل ، ويفجر طاقات الفكر ، وهو الحجة الظاهرة لله سبحانه على العباد ، وهو الاساس المتين للوحدة .
ان هذه البصيرة القرآنية تعني انه ليس من حق احد ان يلغي دور الآخرين . فالوحدة لا تعني وحدتي انا فحسب ، بل تعني توحيد الله وحده ، واستظلال ( الانا ) بظل رحمة رب العالمين ، وبقاءنا جميعاً في ظل سحابة الرحمة الالهية الواسعة . فالذي ينظم علاقتي بك هو عقلي وعقلك ، والوحي بدوره هو الذي ينظم عقلينا ، ويفجر طاقات فكرينا .
الاعتصام بحبل الله أساس الوحدة
والله سبحانه وتعالى عندما يبين أسس الوحدة يقول : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ … ﴾ 9 . فهل حبل الله هو القومية او العنصرية او الديكتاتورية ، وهل يعني الإقليم او الدولة ؟ كلا بالطبع ، فالحبل الإلهي يعني ان الله جل وعلا هو رب كل شيء ، وهو رب السماوات والأرض ، وخالقنا جميعاً . فعلاقة الله بي ، وعلاقته بك ، هي علاقة واحدة ، لأنه هو الذي خلقك وخلقني ؛ فكلنا عباد له .
وعندما قال المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء هذا العالم المجاهد الفذ : ” بني الإسلام على كلمتين ؛ كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة ” فقد ربط بين الأصل والفرع . فكلمة التوحيد لا تنفصل عن توحيد الكلمة ، فمن يؤمن بالله لا يمكن أن يجمع الى هذا الإيمان ، الإيمان بأرضه او قوميته او عنصره . . . وإذا كان الجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالاعتبارات الأخرى ممكنا ، فماذا تعني الأصنام ـ إذن ـ ؟ وهل كان الإنسان غبياً في التاريخ الى درجة انه لا يعلم ان هذا الصنم لم يخلقه ، وذلك الانسان الجاهلي الذي كان يصنع صنماً من التمر حتى اذا جاع التهمه أفلم يكن يعلم ان هذا الصنم ليس الهه ؟! بلى انه كان يعلم بذلك ، ولكنه كان قد جعل من التمر رمزاً لقبيلته .
الإيمان بالأصنام يوجب التفرق
وهذا يعني اننا عندما نقول (صنم) فان ذلك يقتضي ان نرفضه ، ونرفض تلك القوة التي تدعم هذا الصنم . اما اذا كنا نؤمن بصنم من قبيل القومية او العنصرية او اي صنم آخر ، فان هذا يعني استحالة ايماننا بالله الواحد ؛ ويعني ان إيماننا بهذه الأصنام يستوجب عدم اتحادنا ، لان الأصنام لابد ان تفرقنا . فإذا عبد كل واحد منا صنماً ، فسوف يكون لكل إنسان عشيرته ، وأرضه ، وعنصره ، ولغته المختلفة عن لغة الآخرين .
فلابد ـ إذن ـ من إسقاط وتحطيم هذه الاصنام ، وحينـئذ سنبدأ مسيرة العقل ، والتفهم ، والحرية . فمن المستحيل ان نحقق وحدة بدون حرية ، فنحن لا يمكن ان نقول بوجود الوحدة بين الجدران ، والآجر الذي صنع هذه الجدران . فهذه ليست وحدة ،بل ان الوحدة إنما تكون من خلال منح الحرية للجميع ، وان يكون الرابط بينهم العقل والوحي .
ولذلك نجد الآيات القرآنية وخصوصاً في سورة الحشر تبين لنا أساس الوحدة بين ابناء الأمة الإسلامية قائلة : ان هذا الأساس هو أساس الحب والإيثار والجهاد ، والخروج من شح الذات الى رحاب الحقيقة 10 .
ومتى ما استطعنا ان نربي أنفسنا عبر هذا الافق استطعنا ان نحقق الوحدة بين انفسنا على تلك الأسس ، واستطعنا ان ندعو الآخرين الى هذه الوحدة .
الوحدة لا تعني إلغاء المعتقدات
ونحن عندما نقول وندعو الى الوحدة بين السنة والشيعة فان هذا لا يعني ان يترك السني مذهبه ، ويترك الشيعي مذهبه ، ولا يعني ان يترك اي واحد منهم معتقداته وتقاليده ، بل يعني ايجاد علاقة الحب ، ورابطة الايثار ، والتوحيد بين الطائفتين ، وهذه الرابطة تمتنها الآيات القرآنية ، وتنميها مفاهيم العقل الذي يجلبه وينميه الوحي .
ان الله سبحانه وتعالى يقرر عندما يبين لنا طبيعة المجتمع الإسلامي ، ان الموال هذا المجتمع يجب ان تكون تحت إشراف القيادة الرسالية ، فيقول في هذا المجال : ﴿ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ 11 . وهؤلاء المهاجرون هم فقراء ليسوا من اهل البلد الذي هجروا اليه ؛ اي ان الوحدة بين ابناء الأمة الإسلامية لابد ان تقوم على أساس ان أهل البلد يجب ان يهتموا بمن يفد اليهم قبل ان يهتموا بأنفسهم .
وبناء على ذلك فان علينا ان نهتم أولاً بالغريب ثم القريب ، والجار ثم الدار . .
فلننظر الى مدى القيمة التي يضفيها القرآن على هذا الإنسان الذي يترك أرضه ، فهو لا يحدد انتماء هؤلاء المهاجرين ، لان الهجرة هي بحد ذاتها قيمة . فلا بد ان نحقق الوحدة من خلالها ، ولابد ان نربي المجتمع الذي يحب الإنسان المهاجر أكثر مما يحب أرضه ، ويقولان هذا الإنسان غريب ومن بلد بعيد وان فطرتي تدعوني الى ان أحسن اليه . فاذا ما أحسنت الى ذلك الغريب الذي لا يمت اليَّ بصلة القربى ، لا اللغة ولا الجنس ولا اعرفه نهائياً ولا يعرفني فانني أكون بذلك قد أخلصت العمل لله جل جلاله ؛ اي ارتفعت ، وتساميت على الاعتبارات المادية الى مستوى الإيمان الحق .
ثم من بعد ذلك تأتي الفئة الاخرى التي تمثل ( الأنصار ) الذين يقول عنهم عز من قائل : ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ … ﴾ 12 . فما هي طبقة الأنصار يا ترى ؟
ان في كل بلد انصاراً ، ولكل أمة انصاراً ، وهؤلاء الانصار لا يدورون حول محورهم وذواتهم . فمن أهم الصفات التي يبينها القرآن الكريم للأنصار بعد الإيمان انه يقول عنهم :
﴿ … يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ … ﴾ 12 .
فالانصار يؤثرون على أنفسهم ، ومن المعلوم ان القرآن الكريم لا يمدح احداً لانه يأكل كثيراً ، او يبني بيتاً واسعاً ، ويتسنم منصباً مرموقاً ، بل يمدحه لانه يؤثر على نفسه إن كان يعاني من العوز والخصاصة . وهذا هو الفلاح المبين ، كما يؤكد على ذلك تعالى فيقوله : ﴿ … وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 12 . فإذا أردت الفلاح فلابد ان تخرج من الذات ، ومن هذه النفس الضيقة ، وان تنظر الى الحياة برحابتها ، وسعة افقها .
ثم يضيف عز شأنه قائلاً : ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ 13 .
وعندما نصل الى هذا المستوى ، وعندما نريد ان نمتن اواصر الوحدة في قلوبنا عبر الحب ، وانتزاع الغل من الصدور ، فحينئذ سنكون مؤمنين حقاً ، وسيحبنا الله تبارك وتعالى ، وينعم علينا بنعمة الوحدة التي هي سر الانتصار على الاعداء .
هكذا نحقق الوحدة
الوحدة هي أمل المستضعفين ، وروح العزة والكرامة في الأمة ، وهي هيبة للصديق ، ورعب للعدو . ونحن اليوم في صراعنا مع العدو الداخلي المتمثل في قوة النفاق والضلالة ، والعدو الخارجي المتمثل في الامبريالية المستكبرة في الأرض ، بحاجة الى الوحدة لأمرين أساسيين :
1 ـ لكي نبث الرعب في قلوب الأعداء ، ونهزمهم نفسياً قبل ان نحتاج الى القوة المادية .
2 ـ لكي نمنع العدو من ان يهزمنا من الناحية النفسية .
ان طاقات الأمة عظيمة وهائلة ، وهي لا يفصلها عن التقدم والرقي سوى عقبة نفسية واحدة هي انعـدام الثقة بالذات ، وقلة التوكل على الله تبارك وتعالى ، وعدم ثقة بعضها بالبعض الآخر .
ولذلك فقد تفرقت الأمة واختلفت ، وتركت عمود عزها وهو الوحدة ، بل انها هجرت حبل الله المتين . ونحن اليوم بحاجة الى الوحدة لكي نعطي للامة املاً ، ومن هنا فان أبرز أهدافنا في الوقت الحاضر هو تحقيق الوحدة على مختلف الأصعدة .
شروط الوحدة
وهنا من حقنا ان نتساءل : ما هي شروط الوحدة ، وكيف نحققها في أنفسنا ؟
وللجواب على هذا السؤال نقول : ان الوحدة شعار ، وما أجمله من شعار ؛ ولكي يتحقق هذا الشعار في الواقع العملي فإننا بحاجة الى أن نضحي من اجله . ومن شروط الوحدة ما يلي :ـ
1 ـ صفاء الروح والقلب
ان من ابرز شروط الوحدة ـ سواء على مستوى الافراد والتجمعات او على مستوى الدول والأمم ـ هو صفاء الروح والقلب وتزكية النفس ، وان لا نبتغي من وراء هذه الوحدة ما ينافيها ، ولا نفكر فيها من اجل استغلالها لأهدافنا الذاتية .
والوحدة هي نعمة من الله جل جلاله على المؤمنين . فهو الذي يؤلف بين قلوبهم ، وهو محيط علما بما في الصدور . واذا كانت الصدور مريضة ، والقلوب عليلة ، والبصائر محجوبة ، فان الله تعالى سوف لا يهب للإنسان هذه النعمة ؛ فان أردناها فلابد من ان نطهر أنفسنا ، ونخلص نياتنا ، وان لا نطلب هذه الوحدة إلا من أجل الله ، ومن اجل تحقيق المصالح الكبرى للأمة .
2 ـ تحكيم القيم
فمن أهم الغايات المتوخاة من الوحدة تنمية الكفاءات في الأمة ، وهذه الكفاءات والقدرات لا يمكن أن تنمو وتحتل مكانتها اللائقة بها إلا إذا حكمنا القيم فيما بيننا ؛ فالوجاهات والوساطات والصداقات والانتماءات الخارجة عن اطار القيم . . . كل ذلك يعد حواجز في طريق تنمية الكفاءات في الأمة . ومن المعلوم ان الأمة لا تحسب بكمية ابنائها عدداً ، بل بكيفية كفاءاتهم وقدراتهم .
واذا اردنا ان نتقدم في هذا العصر حيث تقدم العلم وانتشار الصناعة والتقنية ، فلابد من ان نضع العلماء والعاملين المجاهدين في مواضعهم ، وان نرفع قيمة العلم والتقوى والعمل الصالح .
وبناء على ذلك فلا يجوز للواحد منا اليوم ان يفضل صديقه الأقل علما وتقوى وجهاداً على شخص آخر يفوقه في تلك المواصفات ، فالله سبحانه وتعالى رفع قيمة العلم والتقوى والعمل الصالح ، فهل يجوز لي ان ارفع من وضعه الله ، او اضع من رفعه الله ؟
وعندما تكون الوحدة قائمة على أساس القيم الرسالية التي بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ، فان الكفاءات ستنمو ، وعندما تنمو الكفاءات فان الجميع سوف يسعدون بهذه الوحدة .
3 ـ الذوبان في المجموع
فنحن لا نستطيع ان نصبح اخواناً إلاّ عندما ننسى الحواجز والفوارق والاختلافات ، ونذوب جميعاً في بوتقة الإسلام . فاذا تجسدت الوحدة في شخص فينبغي على الجميع ان يسيروا على خطه ، لانه هو نفسه كان قد ذاب في هذا الخط فلم يعد شخصاً ، ولم يعد محجماً ضمن حدودا و أطر معينة حتى استطاع بقلبه الكبير ان يحتوي كل تطلعات الأمة . واذا تجسدت الوحدة في هيئة او مجلس او أي عنوان آخر فلابد للجميع من ان يذوبوا في هذا العنوان .
ان الجماهير هي التي تشكل الهدف الاول من تحركنا ، ونحن نريد ان نعمل في سبيل الله تعالى ، ومن أجل إنقاذ الأمة ، واذا كان هذا هو الهدف فعلينا ان نذوب في الجماهير بقدر ما تقتضيه أوامر الخالق .
وعلى كل مجموعة قيادية ان تكون عارفة بلغة الجماهير واحاسيسها ومشاعرها وتطلعاتها واهدافها ، وبالآلام التي يعانون منها ، وهذا هدف آخر من اهداف الوحدة .
من المسؤول عن الوحدة
وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : ترى من المسؤول عن هذه الوحدة ؟
ان هذه المسؤولية لا تقتصر على العلماء والمثقفين ، فنحن جميعات مسؤولون عن تحقيقها ، والمحافظة عليها . فالله سبحانه وتعالى يخاطب في كتابه الكريم الجميع قائلاً : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ … ﴾ 9 . فهو لا يوجه خطابه الى شخص معين او فئة معينة ، بل على الجميع ان يعتصموا بهذا الحبل ، وان يبذلوا الجهود من اجل هذه الوحدة .
واذا كان على الجميع ان يعتصموا بحبل الله ، ويتحركوا في هذا المجال ، فان هذا يعني ان بإمكان الجميع ان يقوموا بدور ؛ فانت عندما تكون شابا تطلب العلم في مدرسة او معهد او جامعة ، فانك تستطيع ان تساهم في بناء كيان الوحدة وذلك على الأسس الإسلامية . فعليك ان لا تشكل فريقاً ضد فريق آخر ، وهذا هو معنى ولاية الله سبحانه وتعالى . فاذا كانت بينك وبين الآخرين حزازات فحاول منذ هذه اللحظة ان تفتش عن حلول لها ، واذا كنت قد تعودت على بعض السيئات مثل سوء الظن والغيبة والتهمة والحقد على الآخرين والنميمة ، فعليك منذ هذه اللحظة ان تترك هذه المحرمات وان تتحرك نحو ايجاد التلاحم وتصفية الأجواء والعودة الى أجواء الإيمان والاخوّة .
اما واجب العلماء فيتمثل في ان يكونوا هم المبادرون في هذه المسيرة ، لان الله جل وعلا بعد ان بيّن ضرورة الوحدة قال : ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 14 . فهو تعالى يؤكد في هذه الآية ان الذين يسعون من اجل تحقيق الوحدة هم المفلحون ، وفي آية اخرى يقول عز من قائل : ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 15 .
ان هؤلاء الذين تشير اليهم الآيتان القرآنيتان السابقتان هم الصفوة والطليعة والنخبة الذين تجب عليهم الوحدة أكثر من اي شخص آخر ، فلنحاول ان نشكل بين أوساطنا هذه الفئة القيادية الطليعية المؤلفة من العلماء والمثقفين الذين عرفوا الإسلام حق معرفته ، واستقوه من مصادره ومنابعه الأصيلة المتمثلة في القرآن ، والسنة النبوية الشريفة ، وأقوال وأفعال الأئمة المعصومين عليهم السلام .
وعلينا ان لا ننسى في نفس الوقت ان الجماهير الإسلامية كلها مسؤولة بشكل مشترك هي الأخرى عن تحقيق هذه الوحدة ، من خلال الإلتزام بأوامر القيادة ، ومن خلال الابتعاد عن كل سلوك من شأنه ان يفرق الصفوف ، ويثير الحزازات ، ويؤجج الاختلافات والفتن ، وتجنب الصفات الاخلاقية الذميمة التي تقضي على كيان الوحدة مثل سوء الظن والغيبة وتوجيه التهم والنميمة وما الى ذلك .
الوحدة والفكر المسؤول
منهجية الانسان في التفكير تحدد ـ عادة ـ مستقبل حياته ، ومن أهم ما ينبغي ان يغير الانسان من ما في نفسه هذه المنهجية . فمن الابعاد الأساسية في منهجية التفكير هو الفكر اللامسؤول ، والثقافة اللامسؤولة . ذلك لان الفكر على نوعين ؛ نوع يدفعك نحو تحمل المسؤولية ، ويرفعك الى مستوى العطاء والتصدي ، وتحمل تلك الامانة التي كنت قد احتملتها في عالم الذر ، والتي أشفقت السماوات والأرض ان يحملنها .
والنوع الآخر من الفكر هو ذلك الذي يكرس فيك حالة الخمول ، والتردد ، والتراجع ، ويزودك بالتبريرات والاعذار ، ويضع على قلبك الاغلال والقيود .
ومن هذا المنطلق فان على الانسان وهو يواجه الافكار المختلفة في حياته ان يتساءل دوما : هل هذا الفكر هو فكر مسؤول ام لا ، وهل هو فكر الثورة ام فكر التبرير ، فكر التصدي ام فكر الهزيمة ؟
وقد أشار تبارك وتعالى الى ضرورة هذا التمييز في قوله : ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ … ﴾ 16 ، فالإنسان يستمع ـ عادة ـ الى القول ولكن هل كل قول يدخل في قلبه ، وهل كل حديث لابد ان يتقبله ؟
كلا بالطبع ، فلابد من ان ننظر في هذا القول ، ونجيل النظر فيه ؛ فهناك قول ينبعث من ضمير نقي ، ويتصل بالوحي كما يقول تعالى : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ 17 ، وهناك قول آخر ينبعث من ضمير ملوث ، ويتصل بالجهل .
افكار أخطر من القنابل
وعلى سبيل المثال فان في مجتمعنا اليوم افكاراً كثيرة تتسرب الى ادمغتنا من حيث لا ندري ، وتعشش في اذهاننا من حيث لا نشعر ، وتؤثر فينا من حيث لا نحس ، وتحجبنا عن الحقائق دون ان نعرف . . وهذه الأفكار أخطر علينا من القنابل النووية ، والفيروسات الفتاكة ، والاعداء الظاهريين .
ونحن ـ للأسف الشديد ـ نلقي بدون تردد مجموعة من مسؤولياتنا على عاتق غيرنا . فهل ولدنا لكي نوزع الاتهامات يمينا ويسارا ، فمن نحن وما هي مسؤوليتنا ؟
في يوم القيامة سوف يلقي كل واحد منا بالمسؤولية على عاتق الآخر ، فيؤخذ الجميع ، ويطرحون في نار جهنم ، ويبدؤون بالتصارع فيما بينهم ، والتلاوم لسنين طويلة لا يعلمها إلاّ الله سبحانه وتعالى ، ذلك لانهم لم يتحملوا المسؤولية في الدنيا .
اما الانسان المؤمن فانه على العكس من ذلك تماما ، فهو يرى نفسه مسؤولا ، ومتصديا . فيحاول ان يغير من الواقع ، لان الله جل جلاله يقول : ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ﴾ 18 ويقول عز وجل في موضع آخر : ﴿ … إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ … ﴾ 19 .
ان منهجية اولئك الذين يتملصون من المسؤولية هي منهجية التفكير الذي يبعث على الخمول ، واللامسؤولية . وهذه المنهجية هي المسؤولة عن واقعنا ، واذا نحن لم نبادر الى تغييرها لما كان بامكاننا ان نفعل شيئا . فهناك العشرات من السنن الالهية ، والقوانين ، والأنظمة كلها صحيحة ولا نستطيع ان ننكرها ؛ اي ان الانسان محاط بعشرات القوانين ، فكما ان جسم الانسان تحيط به السنن الكونية مثل جاذبية الارض ، والحرارة ، والبرودة ، والضغط الجوي . . فان هناك عشرات من السنن الالهية ، والانظمة الكونية التي تؤثر في ذهن ودماغ الانسان ، لانه ـ اي الانسان ـ محكوم بتربيته وتاريخه وأرضه وبالحالة الاجتماعية والسياسية السائدة في مجتمعه . ولكنه يبقى فوق تلك السنن والقوانين ، فهو يحمل في داخله نوراً من الله عز شأنه هو نور الإرادة ، وبهذه الارادة يستطيع ان يتحدى كل تلك القوانين .
حقيقة الإرادة
وبهذه الصفة كان الانسان انساناً ، وعن ذلك يسأله الله يوم القيامة ، وبه يثاب ويعاقب . فاذا ما أصبح الإنسان كالريشة في زوبعة من الأعاصير فانه سيفقد الإرادة ، وبذلك لا يكون هناك معنى لثوابه وعقابه .
وحقيقة الارادة هي من جملة هذه الحقائق ، ولكننا ـ للأسف الشديد ـ فقدنا إرادتنا إمام المستعمرين ، ولذنا بمنهجية التبرير التي كلفتنا الكثير من الهزائم والنكسات ، والتي هي في حقيقتها منهجية القاء المسؤولية على الآخرين ، والتملص منها . فاذا بالمجتمع مسؤول ، والحكومة مسؤولة ، والتأريخ مسؤول . . فكل شيء مسؤول ولكنني انا الوحيد الذي اعد نفسي غير مسؤول .
ان هذا النوع من التفكير هو الذي جعلنا نصل الى هذا المستوى المتردي . فلنحاول ان نغير من أنفسنا ، وان نقول منذ اليوم : نحن المسؤولون لا غيرنا . فنحن مركز هذا العالم ، واذا ما غيرنا أنفسنا فان الله جل وعلا سيغير واقعنا ، وواقع امتنا . فلنفكر بهذا الأسلوب ولنرى ماذا سيحدث ، ولنبدأ من هذا الوضع القائم ، ومن أوضاعنا بالذات .
حاجتنا الى الوحدة
وهنا لابد من القول باننا بحاجة الى الوحدة التي هي تشبه الى حد كبير الصحة والعافية في الجسد ؛ فان فلانا يتمتع بالصحة والعافية فهذا يعني ان عينه بصيرة ، واذنه سميعة ، وان يده تعمل ، ورجله تسعى ، وقلبه ينبض باستمرار . . . وكل اعضاء جسده سليمة .
وبناء على ذلك فان العافية لا يمكن ان تصدق على جسم متهاو ، وعين عمياء ، ويد شلاء ، ورجل عرجاء ؛ اي ان الجسم من هذا النوع لا يمكن ان يوصف بانه جسم متعاف . وهكذا الحال بالنسبة الى الأمة الواحدة ؛ اي لابد ان تكون في هذه الأمة عشرات الشروط والعوامل لكي تكون أمة واحدة ، ذات هدف واحد ، وستراتيجية واحدة ، واُفق وتطلع واحد يسعى بذمتها أدناها ، وتكون كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ـ كما يقول الحديث الشريف ـ .
ونحن كامة اسلامية ترى جسمنا يتقطع من اطرافه ، ولكننا لا نتحسس ، ولا نشعر بالألم حتى تصل السكين الى عظامنا . فترانا منشغلين في التوافه ، والشعارات ، والاسماء ، والاوهام . . وبصورة عامة فاننا نعيش حالة غريبة ما انزل الله تعالى بها من سلطان .
الوحدة الحقيقة
واليوم ينبغي ان نعود الى الوحدة الحقيقية ، التي تعني ذلك الصرح المتكامـل ، وتلك العوامل التي تجعل الأمة سليمة متعافية ونقية ، أمة ليس فيها مكان للغش ، والاختلاف ، والغيبة ، والنميمة . . . أمة الفكر المسؤول أساسها . فعندما تكون هذه الفيروسات غير موجودة في الأمة نستطيع ان نصفها بانها أمة واحدة ، تدعو الى الخير ، وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر .
وثمة فكرة تتمثل في اننا نتحدث عادة عن الموضوع الذي لا يمت الينا بصلة ، فترانا نعيش في عالم التمنيات والاحلام . فما اردنا لا يقع ، وما وقع لا نريده ، وهذه النقطة هي إحدى الأفكار السلبية في مجتمعنا .
ومن اجل ان نواجه هذه الحالة لنبدأ دائما من حيث نحن ، فالذي نستطيعه علينا ان نفعله . فوحدة الأمة الإسلامية تبدأ مني ومنك ، فنحن اللذين نضع اللبنة الاولى لها ، وانا وانت نتوحّد ، ونوحّد معنا الجماعات الأخرى ، ونصبح كتلة واحدة ، وشيئاً فشيئاً تنتشر هذه الوحدة كالنور . فالوحدة لا تأتي الينا من بعيد ، بل منا تبدأ ، والينا تنتهي .
التكتلات منطلق الوحدة
والوحدة تبدأ من ايجاد التكتلات الإيمانية التي تعني ان الإنسان المؤمن لا يعيش ضمن وحدة وتجمع كما يقول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ” والزموا السواد الأعظم فان يد الله على الجماعة ، وإياكم والفرقة ، فان الشاذَّ من الناس للشيطان ، كما أنالشادّة من الغنم للذئب ” 20 . أي إذا خرجت شاة واحدة من القطيع ، وانفلتت في الصحراء ، فانها ستكون طعمة سائغة للذئب . فعلينا ان نجتمع ، علماً ان القرآن الكريم يخاطبنا دائما بصيغة الجمع كقوله : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ … ﴾ 21 وقوله : ﴿ … وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ 22 وقوله : ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ 23 . . . فتراه يحرص دائماً على ان يستخدم الفاظاً وتعبيرات من مثل : حزب ، وجند ، وطائفة . . . .
وعندما تتشكل لدينا تكتلات وتجمعات وفرق . . لابد ان يحكمها قانون للتعاون والتضامن ، كما يقول تعالى : ﴿ … وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا … ﴾ 6 .
وهذا القانون ينظم العلاقة بين اعضاء تلك التجمعات والتكتلات . وبمزيد من هذا العمل سوف نستطيع ان نشكل الوحدة ، واذا ما شكلنا الوحدة فحينئذ عندما يقع حادث معين في منطقة من المناطق فانه سيسري في تلك التكتلات مثله كمثل الموج . فأنت ـ مثلاً ـ اذا أخذت حصاة ورميتها في البحر ترى ان الدوائر سوف تتسع ، وهكذا عندما تقع حادثة في الأمة الواحدة فانها ستتموج في جميع المناطق . فلنتكاتف ولنتضامن ونتعاون ، وسنرى ان كثيراً من قضايانا المستعصية سوف تحل .
الوحدة و العلماء
إذا بارك الله تعالى أمراً نما ، واذا خذله زال وانمحى ، وبركته لامر من الامور تتبع مجموعة عوامل تتفاعل في هذا الامر ؛ فالعمل الصالح يرفعه الله سبحانه والكلمة الطيبة تصعد اليه . والاخلاص هو الذي يجعل العمل لله ، وهو الذي ينميه .
ومن ابرز الامور التي تتجلى فيها البركة الالهية الوحدة ، التي لا تعتبر مجرد حقيقة واحدة ، بل هو مركبة من مجموعة حقائق تصطبغ بها حركة الانسان . وهي تستطيع ان تكون رمزا لتلك الحقائق وعنواناً لها ، فاذا اجتمعت وتفاعلت سميت حينئذ بـ (الوحدة) .
وتتجسد بركة الخالق في الوحدة من خلال جعلها طريقاً الى نصره ، ووسيلة الى تأييده ، وسبباً لتوكل المؤمنين عليه ؛ لان الوحدة ترمز الى الخلاص والتفاني والتضحية ، وترمز ايضاً الى مجموعة اخرى من الخصال الحميدة التي بدونها لا يمكن ان تتحقق . فالوحدة تدل ـ مثلاً ـ على صدق العمل ، وصلاح الخطة ، وسلامة القيادة والمسيرة .
الوحدة في القرآن
ويبدو لي ان سورة آل عمران تتحدث عن الوحدة الرسالية ، وعن اسلوب تنميتها . ففي هذه السورة بالذات نقرأ قوله تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ … ﴾ 9 . فهو يحدثنا عن نعمة الرسالة والرسول الذي كان رحمة للعالمين ، فيقول عز من قائل : ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ … ﴾ 24 .
فرسالة الله جل جلاله هي أعظم نعمة منَّ بها على الانسان ، لان الرسالة توحد طاقات الأمة ، والى هذا المعنى اشار القرآن الكريم في قوله : ﴿ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ 25 .
فهذه القيادة الالهية هي قيادة الرحمة وتجميع الطاقات ، وليس دفعها بعيداً عن محور الرسالة ؛ ولكن لين هذه القيادة هو من النوع المنطوي على الحزم ، لان الله يقول بعد ذلك : ﴿ … وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ … ﴾ 26 .
فلين الرسالة لا يتجاوز حدود اوامر الله تبارك وتعالى ، ولا يعني التضحية بالجوهر من اجل المظهر ، وبالمحتوى في سبيل الاسلوب . فالقرار يبقى بيد الرسول (صلى الله عليه وآله) ، ولذلك نجد ان الله قد منَّ في هذه السورة بالذات على المؤمنين لانه قد بعث فيهم رسولاً منهم لكي يفهمهم ان القيادة الرسالية هي نعمة عظيمة تتصاغر امامها كل النعم الاخرى .
وفي القرآن الكريم إشارات واضحة اخرى الى اهمية القيادة وخصوصاً في سورة المائدة حيث يقول عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ … ﴾ 27 . فالولاية الالهية تعني الخضوع للقيادة التي تعتبر أسمى وأعظم النعم التي منَّ الله بها على المؤمنين .
واذا كان الامر كذلك فان الالتفاف حول الرسالة سيكون الواجب الأكبر ، والفريضة العظمى ، لان الاهتمام بهذه النعمة يجب ان يكون في المستوى الأعلى .
وبناء على ذلك فان الوحدة التي تتجلى في القيادة في سائر الصفات الحميدة ، هي التي تهيء الظروف لنزول رحمة الله جل وعلا لانه تعالى يقول في ضمن هذا السياق ايضاً : ﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ 28 .
آفاق الوحدة
ان الوحدة لا يمكن ان تتحقق برفع شعاراتها ، وإنشاء الاشعار ، والقاء الخطب بشأنها . فالوحدة هي حقيقة لابد من ان نوجدها في أنفسنا أولاً ؛ فهي بذرة تنبت في قلب الانسان المؤمن ثم تنمو شيئا فشيئا حتى تصبح دوحة وارفة الظلال عظيمة الثمار ؛ فهي تبدأ من حسن الظن بإخواننا المؤمنين . فالذي يسئ الظن بإخوته لا يمكنه ان يتحد معهم ، لان الوحدة تعني ان تحب لإخوانك ما تحبه لنفسك .
والوحدة تعني ايضاً ان نقول الكلمة الطيبة كما يشير الى ذلك قوله تعالى : ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ … ﴾ 29 . فالإنسان الذي يريد ان يبعدك عن إخوانك مستعملا في التحدث عنهم الكلمات النابية ، والانسان الفض الغليظ القلب الذي تعود على الكلمات البذيئة والسباب ، هل من الممكن ان يذوب في المجتمع المؤمن ، ويكون وحدة معهم ؟
والوحدة تعني بالإضافة الى ذلك التعاون ، كما يؤكد على ذلك القرآن الكريم في قوله : ﴿ … وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ … ﴾ 30 . اما عندما تكف يد التعاون عن اخوانك ، وتنطوي على نفسك في زاوية ، وتريد ان تعمل لوحدك ، فهل هذه الظاهرة تخدم الوحدة ، وهل من الصحيح ان نتعود على الفرديـة والانطواء والابتعاد عن الساحة ، وهل مثل هذا المنحى ينمي فينا الوحدة ؟!
ان الوحدة تعني ان تجتمع مع الآخرين حتى في عبادتك ، وعلاقتك مع الله جل وعلا . فالحديث الشريف عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) أنه قال : ” لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ، إلاّ أن يكون له عذراً او به علّة” 31 ، كما ان هناك أحاديث اخرى تؤكد على ان صلاة الجماعة اذا تجاوزت الخمسين مصلّياً فان ثوابها لا يستطيع ان يحصيه غير الله تقدست اسماؤه .
ومن ضمن المعاني الاخرى للوحدة ان تصبر على أذى إخوانك ، وان لا تفكر ان يبادر الآخرون الى اعطائك من أنفسهم ؛ فمثل هذا التفكير لا يمكن ان يقودك الى الاتحاد معهم ، لان الوحدة تعني من ضمن ما تعنيه ان تجعل يدك هي العليا في العطاء .
والوحدة تقتضي ايضاً ان نجعل هدفنا واضحاً ، وان نحدد هذا الهدف منذ البدء . فهل هدفنا هو ان نتخاصم ونتنافس من اجل ان يكون احدنا ابرز من الآخر في تظاهرة ، ومن اجل ان تكون اسماؤنا قبل اسماء الآخرين في احتفال ما ؟!
ليس ثمة شك اذا كانت اهدفنا غير واضحة ، فان الشيطان سيخلط علينا الامور ، وسيدفعنا الى طرح العناوين والاسماء المثيرة للحزازات والاختلافات .
فلنتنافس على العمل لا على الشعارات الخاوية ، ولنتنافس بمقدار الانجاز لا بأسلوبه ، كما يقول تعالى : ﴿ … لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ … ﴾ 32 وعلى هذا فان الوحدة ليست كلمات ولا شعارات ، بل هي عمل وتضحية وسعي ، وخضوع لبرامج الله ، وتحل بالاخلاق الحميدة التي امر الله بها . فالوحدة يجب ان تتمخض عن تطبيق القرآن الكريم ، والقرآن يقول : ﴿ … وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ … ﴾ 26 . فهو يأمرنا بالتعاون ، وحسن الظن ، وقول الكلمة الطيبة . . وهذه الصفات كلها هي أسباب الوحدة .
وان الإنسان ـ بطبعه ـ لا يميل الى الوحدة ، فلو ترك لشأنه لاختار الفرقة ذلك لان طبائع الناس وآراءهم واذواقهم متفرقة ومتفاوتة ؛ فلكل واحد منهم مصلحة وفكرة وطريقة ، ثم ان الاهواء هي مختلفة بذاتها .
محور الوحدة
والعامل الأساسي الذي يوحد الناس هو الدين والرسالة ، والرسالة
التي توحد الناس لا توحدهم من خلال الكلمات والشعارات ، بل عبر الاشخاص وبالذات علماء الدين لانهم المراكز التي تتجلى فيها بركة الله سبحانه وتعالى ، ورسالته الالهية .
ان عالم الدين يكون في المجتمع محورا للوحدة ، وحبلاً للاعتصام يتمسك به الجميع ، لانه متصل بحبل الله الذي يقول عنه ربنا جل وعلا : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ … ﴾ 9 . فاذا كان عالم الدين وسيلة للتفرقة ، وسبباً للخلاف ، ومثارا للفتن ، فان ذلك يعني وجود خلل فيه لا في الدين ، ونقص في ثقافته الرسالية التي لم تترسخ في نفسه بعد بشكل كامل .
ان الحوزات العلمية في النجف الأشرف كان يدرس فيها الأسود والأبيض ومن مختلف اللغات واللهجات ، وكان هؤلاء الطلاب يسكنون في غرف واحدة . فكانت الحوزة توحدهم ، واذا ما تخرج الطالب من الحوزة وعاد الى بلده فان جميع مواطنيه ـ ايا كانت انتماءاتهم العرقية ـ سوف يرجعون اليه في شؤون دينهم . ولذلك فان عالم الدين كان فوق العنصريات ، والعصبيات ، والمحوريات ، وكان يعيش للجميع دون ان يطلب على عمله أجراً ولا شكراً .
وعالم الدين يجب ان يتربى اليوم على هذا الاساس ، فطلاب الحوزات العلمية لابد ان يكونوا قادة للامم ، لان النبي (صلى الله عليه وآله ) قال : ” وان العلماء ورثة الانبياء ، ان الانبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه بحظ وافر ” 33 . وقال ايضاً : ” علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل ” 34 . فاذا أراد طالب العلم ان يقوم بدور أنبياء بني إسرائيل فلا بد ان ينمي في نفسه صفات الأنبياء ، ومن ابرز هذه الصفات تلك التي ذكرها الله عز وجل في سورة آل عمران اعني قوله تعالى : ﴿ … فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ … ﴾ 26 .
وبناء على ذلك فان قلب العالم يجب ان يكون كبيراً ، ولابد ان يكون متواضعاً بين الناس ، مهتماً بشؤونهم ، محاولاً ان يجذبهم الى الإسلام بسلوكه اللين البعيد عن الفظاظة . اما إذا كان عالم الدين غليظ القلب فان الناس ينفضون من حوله ، ولا يميلون إليه .
وهذا لا يعني ان الناس ليس عليهم تحمل مسؤولية الوحدة ومحاربة التفرقة ، لانها من مهمة العلماء .
كلا . . ان الناس بكل فئاتهم وبكل قطاعاتهم مسؤولون عن ذلك بلا أدنى ريب ، ولكن مسؤولية العلماء في هذا الخصوص أكبر من غيرهم ، لانهم قد أحرزوا موقع متقدم في قيادة الأمة وارشادها . لذا يتطلب من الجميع ان يبادروا لتحمل مسؤولياتهم في تحقيق الوحدة 35 .
- 1. القران الكريم : سورة الصف ( 61 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 552 .
- 2. القران الكريم : سورة الأنبياء ( 21 ) ، الآية : 92 ، الصفحة : 330 .
- 3. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 143 ، الصفحة : 22 .
- 4. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآيات : 197 – 199 ، الصفحة : 31 .
- 5. a. b. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 197 ، الصفحة : 31 .
- 6. a. b. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 517 .
- 7. a. b. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 516 .
- 8. بحار الأنوار / ج 61 / ص 147 / رواية 23 .
- 9. a. b. c. d. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 103 ، الصفحة : 63 .
- 10. راجع الآيات من 5 ـ 10 من سورة الحشر .
- 11. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 8 ، الصفحة : 546 .
- 12. a. b. c. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 546 .
- 13. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 547 .
- 14. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 104 ، الصفحة : 63 .
- 15. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 546 .
- 16. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 18 ، الصفحة : 460 .
- 17. القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 3 و 4 ، الصفحة : 526 .
- 18. القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 39 و 40 ، الصفحة : 527 .
- 19. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 11 ، الصفحة : 250 .
- 20. بحار الأنوار / ج 68 / ص 289 / رواية 48 .
- 21. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 29 ، الصفحة : 253 .
- 22. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 43 ، الصفحة : 7 .
- 23. القران الكريم : سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 62 ، الصفحة : 216 .
- 24. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 164 ، الصفحة : 71 .
- 25. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 158 و 159 ، الصفحة : 71 .
- 26. a. b. c. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 159 ، الصفحة : 71 .
- 27. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 119 .
- 28. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 160 ، الصفحة : 71 .
- 29. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 53 ، الصفحة : 287 .
- 30. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 2 ، الصفحة : 106 .
- 31. بحار الأنوار / ج 83 / ص 379 / رواية 47 .
- 32. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 48 ، الصفحة : 116 .
- 33. بحار الأنوار / ج 1 / ص 164 / رواية 2 .
- 34. بحار الأنوار / ج 2 / ص 22 / رواية 67 .
- 35. على طريق الوحدة ، آية الله السيد محمد تقي المدرسي ، الناشر : دار محبي الحسين (ع) ، قطع : رقعي ، الطبعة الأولى .