مقالات

اللّحية…

مسألة حلق اللحية من المسائل الخلافية في الفقه الإسلامي ، ورأي الفقهاء المسلمين في‏حكم حلق اللحية يدور في قولين ، هما :
1 ) حرمة الحلق . وهو القول المشهور بين الفقهاء المسلمين شهرة كبيرة .
2 ) جواز الحلق على كراهة .
وهو القول الآخر ، والقائلون به من أصحابنا الإمامية قليلون ، منهم :
ـ السيد مهدي بحر العلوم ( ت 1212هـ ) ، كما يظهر من قوله في منظومته الفقهية الموسومة‏بـ ( الدرة النجفية‏ ) 1 :
. . . وإن الأصـلحـا *** في الشارب الحف كإعفاء اللحى
فوحدة القبضة في الأخبار *** فمـا يزيـد فهــو ورد النـار
ـ السيد محمد باقر الداماد ( ت 1041هـ ) في رسالته الفارسية المسماة ( شارع النجاة‏ ) ، قال‏شيخنا الطهراني في ( الذريعة‏ ) 2 عند حديثه عن بيانات الكتاب المذكور :
« ومن‏ فتاويه ( يعني الداماد ) في هذا الكتاب : القول بكراهة حلق اللحية وحرمة طولها على ما حكي‏ » .
ـ الشيخ محمد صالح الجزائري ( ت 1366هـ ) في كتابه المعنون : ( رسالة في كراهة حلق‏ اللحية‏ ) .
ـ الشيخ عباس الرميثي ( ت 1379هـ ) ، كما هو المعروف عنه .
ـ أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي ( ت 1413هـ ) ، رأياً ، أما فتوى فأفتى بالاحتياط الوجوبي ، قال ‏في ( منهاج الصالحين‏ ) : « يحرم حلق اللحية على الأحوط‏ » 3 .
ـ أستاذنا السيد محمد باقر الصدر ( ت 1400هـ ) ، رأيًا لا فتوى ، كما سمعته منه ( قده ) .
ـ وآخرون غيرهم .

واستدل القائلون بالحرمة بالكتاب و السنة و سيرة المتشرعة .
فمن القرآن الكريم استدلوا بقوله تعالى : ﴿ … وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ … ﴾ 4 وذلك بالتقريب الآتي :
1 . أن المراد من ﴿ … خَلْقَ اللّهِ … ﴾ 4 ، في الآية الكريمة ، هو اللحية ، إما على نحو الخصوص ، وإما على‏ نحو العموم الشامل للحية .
2 . أن المراد بالتغيير هنا الحلق ( حلق اللحية ) .
3 . أن ما يأمر به الشيطان بقصد إضلال الإنسان يكون محرمًا .
ونستطيع بضم هذه المقدمات الثلاث بعضها إلى بعض أن نؤلف القياس التالي :
حلق اللحية مما أمر به الشيطان لتغيير خلق الله . .
وكل ما أمر به الشيطان لتغيير خلق الله فهو حرام . .
فتكون النتيجة : حلق اللحية حرام .

والمناقشة لهذا الاستدلال تتوجه إلى المقدمتين الأوليين ، وبما خلاصته

1ـ المعاني التي ذكرت لـ ﴿ … خَلْقَ اللّهِ … ﴾ 4 ، في الآية الكريمة ، حسبما أوردها أبو حيان الأندلسي في تفسيره ( البحر المحيط ) هي :
أ ) قال ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم :
أراد تغيير دين الله .
ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله : ﴿ … فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ … ﴾ 5 أي لدين الله ، والتبديل يقع موقعه التغيير وان كان التغيير أعم منه ، ولفظ ﴿ … لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ … ﴾ 5 خبر ومعناه النهي .
ب ) وقالت فرقة ، منهم الزجاج : هو جعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس ‏والنار والحجارة وغير ذلك مما عبدوه .
ج ) وقال ابن مسعود والحسن : هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين ، فمن ذلك الحديث في لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله ، ولعن الواصلة والمستوصلة .
د ) وقال ابن عباس أيضًا وأنس وعكرمة وأبو صالح ومجاهد وقتادة أيضًا : هو الخصاء ، وهو في بني آدم محظور ، وكره أنس خصاء الغنم ، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في‏المأكول ، ورخص عمر بن عبد العزيز في خصاء الخيل .
هـ ) وقيل للحسن : إن عكرمة قال : هو الخصاء ، قال : كذب عكرمة ، هو دين الله تعالى .
و ) وقيل : التخنث .
ز ) وقال الزمخشري : هو فق‏ء عين الحامي وإعفاؤه من الركوب .
وناسب هذا أنه ذكر إثر تبتيك آذان الأنعام فناسب أن يكون التغيير هذا .
ح ) وقيل : تغيير خلق الله هو أن كل ما يوجده الله لفضيلة فاستعان به في رذيلة فقد غير خلقه ، وقد دخل في عمومه ما جعله الله تعالى للإنسان من شهوة الجماع ليكون سببا للتناسل على ‏وجه مخصوص ، فاستعان به في السفاح واللواط ، فذلك تغيير خلق الله ، وكذلك المخنث إذا نتف لحيته وتقنع ، تشبها بالنساء ، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان ، وكل ما حلله الله فحرموه أو حرمه تعالى فحللوه ، وعلى ذلك : ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً … ﴾ 6 وإلى هذه الجملة أشار المفسرون ، ولهذا قالوا : هو تغيير أحكام ‏الله .
ط ) وقيل : هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي .
ي ) وقيل : خضاب الشيب بالسواد .
ك ) وقيل : معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان وشق المناخر وسمل العيون وقطع ‏الأنثيين .
وكما ترى : أن جميع المعاني التي ذكرت لم تدعم بدليل يعزز سلامة إرادتها من الآية ‏الكريمة ما عدا قول القائلين أن المراد من خلق الله دين الله ، وذلك لاستعمال العبادة في‏ موضع آخر من القرآن الكريم ، وإرادة دين الله منها والقرآن يفسر بعضه بعضًا ، وذلك في‏ قوله تعالى : ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ … ﴾ 5 ، فتكون آية الفطرة هذه قرينة تعزز سلامة إرادة هذا المعنى ‏من عبارة ﴿ … خَلْقَ اللّهِ … ﴾ 4 في الآية الكريمة المستدل بها .
وتؤكده ، أيضا ، الروايتان اللتان رواهما العياشي في تفسير لبيان معنى الآية الكريمة ، وهما :
ـ عن محمد بن يونس ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله ( ع ) وعن جابر ، عن أبي جعفر ( ع ) في قول الله : ﴿ … وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ … ﴾ 4 قال : أمر الله بما أمر به .
ـ عن جابر ، عن أبي جعفر ( ع ) في قول الله : ﴿ … وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ … ﴾ 4 قال : دين الله .
وهذا يسلمنا إلى النتيجة الآتية : أن العبارة في الآية الكريمة ، إن أريد بها دين الله أي‏ تشريعاته وأحكامه فهي لا علاقة لها بمسألتنا لأن اللحية ليست من التشريعات ولا الأحكام .
وإن لم يرد بها هذا المعنى فلا يستطاع حملها على أحد المعاني الأخرى المذكورة في أعلاه ‏لعدم وجود القرينة المعينة ، فتكون من المجمل الذي لا يصلح للاستدلال به لعدم وضوح‏ دلالته .
وناقش أستاذنا السيد الخوئي الاستدلال بالآية الكريمة على حرمة حلق اللحية بما يقرب‏ مما تقدم ، قال : « واستدلوا للحرمة بأمور : الأول : قوله تعالى : ﴿ … وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ … ﴾ 4 وما يأمر به الشيطان لإضلال الإنسان وإهلاكه يكون محرمًا ، وحينئذ يترتب الشكل الأول ‏فيقال : حلق اللحية تغيير خلق الله ، وتغيير خلقه بمقتضى الآية .
وفيه : منع الصغرى والكبرى على سبيل منع الخلو ، فإنه إن أريد من الكبرى مطلق التبديل‏ كما هو معناه لغة بحيث يعم جميع التصرف في الموجودات حتى مثل شق الأنهار وقطع ‏الأشجار ليشمل التغيير حلق اللحية فهي ممنوعة قطعًا ، بداهة عدم حرمة جعل التراب آجرًا ، والآجر دارًا والجبل طريقًا ، وجعل الشعر نصفين ، إلى غير ذلك من التغيير في الموجودات‏ المباح قطعًا ، بل لا يصدق تغيير الخلق عرفًا على مثل ذلك .
وإن أريد التغيير الخاص فصدقه على حلق اللحية ممنوع ، لعدم الفرق في ذلك بينه وبين‏ نتف شعرة واحدة من الوجه ، فإذًا تكون الآية مجملة .
مضافًا إلى ما حكاه الفيض ( قده ) في ( تفسير الصافي‏ ) عن ( الجمع‏ ) من تفسير تغيير الخلق ‏بتغيير الدين الإسلامي ، لأن كل مولود يولد على فطرة الإسلام التي فطر الله عليها الناس ، وإنما الأبوان يهودانه وينصرانه ، فإيجاد المانع من القول بالتوحيد تغيير لخلق الله وفطرته . وهذه الرواية لا نريد التمسك بها لعدم الوقوف على صحة سندها ، إلا أن الغرض من ذكرها تأييد القول بإجمال الآية ، مع أنه يحتمل أن يراد من تغيير خلق الله اللواط والمساحقة لأن‏ الغاية التي خلق لها الرجال هو الحرث لإيجاد النسل ، والنساء كالأرض الصالحة للحرث ، فإعراض كل منهما عما خلق له تغيير لخلق الله تعالى‏ » 7 .
ومنه نتبين أن كلتا مقدمتي القياس غير سليمتين .
وبعده ننتهي إلى أن الآية لا دلالة فيها على حرمة حلق اللحية .

واستدلوا على حرمة حلق اللحية من السنة الشريفة بالأحاديث الآتية

1ـ ما رواه الشيخ الصدوق في كتاب ( من لا يحضره الفقيه‏ ) : « قال رسول الله ( ص ) : ( حفوا الشوارب وأعفوا اللحى ، ولا تشبهوا باليهود ) » 8 .
« وقال رسول الله ( ص ) : ( إن المجوس جزوا لحاهم ووفروا شواربهم ، وإنا نجز الشوارب ونعفي‏اللحى ، وهي الفطرة )‏ » 9 .
2ـ وما رواه ( قده ) في كتاب ( معاني الأخبار ) بإسناده إلى علي بن غراب ، قال : « حدثني خير الجعافرة ، جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جده : قال : قال رسول الله ( ص ) : ( حفوا الشوارب وأعفوا اللحى ولا تشبهوا بالمجوس )‏ » 10 .

وتناقش هاتان الروايتان سندًا ودلالةً

فمن حديث السند : فالأولى مرسلة ، والثانية في سندها موسى بن عمران النخعي ، وهو مجهول الحال .
ومن حيث الدلالة : فالنهي منصب على التشبه بغير المسلمين ، وليس على نحو التشريع‏ وبيان الحكم ، أي لم يصدر هذا النهي من النبي ( ص ) بوصفه مبلغا ، وإنما صدر عنه ( ص ) بوصفه حاكمًا ورئيس الدولة ، وذلك بقرينة ما جاء في ( نهج البلاغة‏ ) عن الإمام أمير المؤمنين ( ع ) في الرقم 16 من مختار كلامه عندما سئل عن قول رسول الله ( ص ) : غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود » ، فقال ( ع ) : إنما قال ( ص ) ذلك والدين قل ، فأما الآن وقد اتسع ‏نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار » .
فالحديثان بالإضافة إلى كونهما لم يردا في مقام التشريع وبيان الحكم لم ينظرا إلى حكم‏حلق اللحية ، لأنهما منصبان وبدافع سياسي إلى النهي عن التشبه بغير المسلمين ، لئلا يتأثر المسلمون ، وهم قلة وجديدو عهد بالإسلام ، بغيرهم .
وإن كان أن الذي يظهر من بعض الروايات التاريخية أن المجوس كانوا يحلقون اللحى ‏ويفتلون الشوارب ، فقد روى الميرزا النوري في ( المستدرك‏ ) 11 عن الكازروني‏ في كتاب « المنتقى‏ » في حوادث السنة السادسة بعد أن ذكر كتابة رسول الله ( ص ) إلى‏ الملوك ، وأنه كتب كسرى إلى عامل اليمن باذان أن يبعثه ( ص ) إليه ، وأنه بعث كاتبه مانويه ‏ورجلاً آخر يقال له خرخسك إليه ( ص ) قال : « وكانا قد دخلا على رسول الله ( ص ) وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره النظر إليهما ، وقال : ويلكما ، من أمركما بهذا؟ قالا : أمرنا بهذا ربنا ، يعنيان كسرى ، فقال رسول الله ( ص ) : لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص‏شاربي‏ » .
والحادثة المذكورة موجودة في تاريخ الطبري في حوادث السنة السادسة أيضا ، فربما كان ‏الكازروني قد نقلها عنه .
وعلميًا لا يمكننا الاستدلال بالحديث المذكور فيها المروي عن رسول الله ( ص ) بشأن إعفاء اللحية وقص الشارب ، وذلك لاشتماله في رواية الطبري على رواة طعن فيهم « منهم‏ محمد بن حميد الرازي‏ » ، ففي تاريخ البخاري الكبير 12 القسم الأول : « في أحاديثه ‏نظر » ، وفي تهذيب التهذيب 13 : قال يعقوب بن شيبة : كثير المناكير ، ولم يوثقه ‏النسائي ، وعند الجوزجاني : ردي‏ء المذاهب ، غير ثقة ، وقال صالح بن محمد الأسدي : ما رأيت أحدًا أجرأ على الله منه .
ومنهم : مسلمة بن الفضل الذي يروي عنه ابن حمير ، قال البخاري في تاريخه‏ الكبير 14 : أبو عبد الله الأبرش ، سلمة بن الفضل الرازي ، سمع محمد بن إسحاق ، عنده مناكير ، وفي تهذيب التهذيب 15 : ضعفه النسائي ، ولم يحتج بحديثه أبو حاتم الرازي .
ومنهم : محمد بن اسحاق بن يسار بن خيار ، في تهذيب التهذيب 16 : أنه يرمى ‏بغير نوع من البدع ، وعند أحمد بن حنبل : أنه يدلس ، ولم يحتج بحديثه في السنن ، وكذبه ‏سليمان التيمي ويحيى القطان ووهيب بن خالد » 17 .
3ـ ما رواه النوري في ( المستدرك‏ ) عن ( الجعفريات‏ ) : « أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد ، حدثني موسى ، حدثنا أبي عن أبيه ، عن جده جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده علي بن‏ الحسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ( ع ) قال : قال رسول الله ( ص ) : حلق اللحية من‏ المثلة ، ومن مثل فعليه لعنة الله » 18 .
وقرّب أستاذنا السيد الخوئي الاستدلال بهذه الرواية ثم ناقشها ، قال : « وسندها معتبر كما حققه النوري في خاتمة المستدرك ، ودلالتها على الحرمة ظاهرة حيث أن لعن المؤمن حرام ‏ويستحيل صدوره من المعصوم ، فإذا لعن أحدًا على فعل نستكشف منه حرمة ذلك الفعل ‏وأنه يوجب الفسق ، وليس هذا اللعن من سنخ أخباره عن اللعن وبعد العبد عن الله تعالى ،كقوله : « ملعون من أخر الصلاة‏ » ، فإن هذا إخبار عن بعده عن ساحة المولى عزّ شأنه ،والمكروهات قد يوجب ارتكابها البعد منه سبحانه ، وأما إنشاء الدعاء بلعن المؤمن فهو غير جائز قطعًا ، فاللعن على عمل يدل بالالتزام على حرمته ، وهنا لما دعا المعصوم ( ع ) على‏ حالق لحيته بعد إدخاله تحت عنوان المثلة المحرّمة يستكشف منه حرمة حلقها ، بل نفس‏تنزيل الحلق منزلة المثلة فيه إشعار بالحرمة .
وفيه : أن التمثيل معناه التنكيل ، ويعتبر فيه أمران : أحدهما وقوعه من أحد على‏ غيره 19 والثاني كونه بعنوان الهتك ، والظاهر من هذه الرواية بيان حرمة حلق لحية ‏أحد هتكًا له كحرمة قطع أنفه وأذنه ، وحينئذ تكون الرواية أجنبية عن المقام‏ » 20 .
4ـ ما جاء في آخر كتاب ( السرائر ) لابن إدريس مما استطرفه من كتاب « الجامع‏ » لأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ، صاحب الإمام الرضا ( ع ) قال : « سألته عن الرجل : هل له أن‏ يأخذ من لحيته؟ قال : أما من عارضيه فلا بأس ، وأما من مقدمها فلا » 21 .
وعلق عليها أستاذنا السيد الخوئي بقوله : « وحيث أن ظاهر الرواية حرمة الأخذ من مقدم‏ اللحية ، ولو لم يصدق عليه عنوانه ( أنه حلق ) ، وهذا مقطوع البطلان ، ومعه لا يمكن التمسك ‏بظاهر الرواية‏ » 22 .
5ـ ما جاء في كتاب ( إكمال الدين‏ ) للشيخ الصدوق 23 : « حدثنا علي بن أحمد الدقاق ( رض ) قال : حدثنا محمد بن يعقوب ، قال حدثنا علي بن محمد ، عن أبي علي‏محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر ، عن أحمد بن قاسم العجلي ، عن أحمد بن يحيى‏ المعروف ببرد ، عن محمد بن خداهي ، عن عبد الله بن أيوب ، عن عبد الله بن هشام ، عن عبد الكريم بن عمر الخثعمي ، عن حبابة الوالبية ، قالت : « رأيت أمير المؤمنين في شرطة الخميس ، ومعه درة يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار والطافي ، ويقول لهم : يا بياعي‏مسوخ بني إسرائيل ، وجند بني مروان ، فقام إليه فرات بن الأحنف ، فقال له : يا أمير المؤمنين ‏فما جند بني مروان؟ [ قالت ‏] : فقال ( ع ) له : أقوام حلقوا اللحى ، وفتلوا الشوارب‏[ فمسخوا ] . . . » .
وقرب أستاذنا السيد الخوئي دلالة الرواية على الحرمة بـ ( أن المسخ على ارتكاب شي‏ء يدل ‏على شدة حرمته‏ ) » 24 .

ولكن تناقش الرواية سندًا ودلالةً

فمن حيث السند : فان في طريقها ( أحمد بن قاسم العجلي‏ ) ، و ( أحمد بن يحيى‏ ) المعروف‏ بـ ( برد ) أو ( كرد ) و ( محمد بن خداهي‏ ) و ( عبد الله بن هشام‏ ) أو ( هاشم‏ ) ، وهم لم يترجموا ، ولم‏يقيموا ، فلا يدرى حالهم من حيث التوثيق ، ومدى الاعتماد على مروياتهم 25 .
ومن حيث الدلالة : فهي كما أشكل عليها الشيخ الأعلمي في هامش ترجمة حبابة الوالبية من كتابه ( تراجم أعلام النساء ) 26 قال : « ويرد عليه : أنه إنما يدل على حرمتهما أو أحدهما في شرع من قبلنا لا في شرعنا ، فإن قيل : ذكره ذلك في مقام الذم يدل على‏حرمتهما في هذه الشريعة أيضًا ، قلنا : ليس الإمام في مقام ذم هذين الفعلين ، بل في مقام‏ ذم بيع المسوخ بهذا السبب كما أن مسوخ بني إسرائيل مسخوا بالعيد السبت وذكرهم هنا لا يدل على تحريمه‏ » .
وأما رأي المذاهب الفقهية السنية الأربعة في حكم حلق اللحية ، فقد لخصها الشيخ الجزيري‏ في ( كتاب الفقه على المذاهب الأربعة‏ ) 27 :
« الشافعية قالوا : أما اللحية فإنه يكره حلقها والمبالغة في قصها .
الحنفية قالوا : يحرم حلق لحية الرجل ويسنّ ألاّ تزيد في طولها على القبضة ، فما زاد على ‏القبضة يقص ، ولا بأس بأخذ أطراف اللحية .
المالكية قالوا : يحرم حلق اللحية ، ويسن قص الشارب ، وليس المراد قصه جميعه ، بل السنة‏ أن يقص منه طرف الشعر المستدير النازل على الشفة العليا ، فيؤخذ منه حتى يظهر طرف ‏الشفة ، وما عدا ذلك فهو مكروه .
الحنابلة قالوا : يحرم حلق اللحية ، ولا بأس بأخذ ما زاد على القبضة ، فلا يكره قصه كما لايكره تركه ، وتسن المبالغة في قص الشارب‏ » .
وما جاء من أحاديث في جوامع أهل السنة ترتبط بالموضوع فهي :
ـ « احفوا الشوارب وأعفوا اللحى‏ » رواه عن ابن عمر مسلم في صحيحه ، 1 / 117 والنسائي ،2 / 275 والترمذي ، 10 / 221 .
ـ « قصوا الشوارب وأعفوا اللحى‏ » رواه عن أبي هريرة أحمد بن حنبل في المسند ، 2 / 239 .
ـ « خالفوا المشركين ، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب‏ » رواه عن ابن عمر البخاري في صحيحه ، 4 / 25 كتاب اللباس .
ـ « انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى‏ » رواه عن ابن عمر البخاري في صحيحه ، 4 / 25 كتاب‏ اللباس .
ـ « جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس‏ » رواه عن أبي هريرة مسلم في صحيحه ،1 / 117 .
ـ « أعفوا اللحى وجزوا الشوارب وغيروا شيبكم ولا تشبهوا باليهود والنصارى‏ » ، رواه عن أبي‏ هريرة أحمد بن حنبل في المسند على ما في كنز العمال ، 3 / 338 .
ـ « أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى ولا تشبهوا باليهود » ، رواه الطحاوي عن أنس كما في كنزالعمال ، 3 / 338 .
ـ « أوفوا اللحى وقصوا الشوارب‏ » رواه في كنز العمال : 3 / 329 عن الطبراني عن ابن عباس .
ـ « وفروا عثاثينكم وقصوا أسبالكم‏ » رواه في كنز العمال ، 3 / 329 عن البيهقي عن أبي‏ أمامة .
وما قلته في الأحاديث المروية من طرق أصحابنا من أن النهي فيها مسلط على التشبه ، ولا نظر فيها إلى حكم حلق اللحية ، لأنها ليست في مقام التشريع ، وإنما صدرت عن النبي ( ص ) بوصفه حاكما ، أقوله هنا .
وأخيرًا : استدل أصحابنا الإمامية بسيرة المتشرعة المتصلة بعصر الأئمة ( ع ) حيث أن « البناء العملي من المتدينين قديمًا وحديثًا ( قائم ) على عدم الحلق ، وهو كاشف عن ارتكاز الحرمة‏ » 28 في أذهانهم .
ولأنه قد تحرر وتقرر في علم أصول الفقه : « أن السيرة عندما تكون حجة فأقصى ما تقتضيه‏ أن تدل على مشروعية الفعل وعدم حرمته في صورة السيرة على الفعل ، أو تدل على‏ مشروعية الترك وعدم وجوب الفعل في صورة السيرة على الترك‏ » .
و« أن السيرة بما هي سيرة لا يستكشف منها وجوب الفعل ولا استحبابه في سيرة الفعل ، ولايستكشف منها حرمة الفعل ولا كراهته في سيرة الترك‏ » 29 .
فلا دلالة فيها على الحرمة .
وفي ضوء ما تقدم نخلص إلى النتيجة الآتية ، وهي : أن القول بجواز حلق اللحية متوجه ، لعدم ‏نهوض دليل من الأدلة التي ذكرت بإثبات الحرمة إما لقصور في السند وإما لقصور في ‏الدلالة .

  • 1. الدرة النجفية: 62 ، ط‏2 1406هـ .
  • 2. ج‏13 ص 5 ، ط‏3 1403هـ .
  • 3. السيد أبو القاسم الخوئي ، منهاج الصالحين ، مسالة 43 كتاب التجارة .
  • 4. a. b. c. d. e. f. g. القران الكريم : سورة النساء ( 4 ) ، الآية : 119 ، الصفحة : 97 .
  • 5. a. b. c. القران الكريم : سورة الروم ( 30 ) ، الآية : 30 ، الصفحة : 407 .
  • 6. القران الكريم : سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 59 ، الصفحة : 215 .
  • 7. محاضرات في الفقه الجعفري ، 1 / 286 ـ 287 ، ط‏1 .
  • 8. 1 / 146 ط دار التعارف ـ بيروت 1411 هـ .
  • 9. م .ن ، 147 .
  • 10. محاضرات في الفقه الجعفري ، 1 / 289 نقلا عن معاني الأخبار ، ص 84 باب‏61 ـ مستدرك وسائل الشيعة ، 1 / 59 .
  • 11. 1 / 59 .
  • 12. 1 / 69 .
  • 13. 9 / 129 .
  • 14. 2 / 85 .
  • 15. 4 / 153 .
  • 16. 9 / 42 ـ 45 .
  • 17. محاضرات في الفقه الجعفري ، م . س ، هامش ، ص 290 .
  • 18. النوري ، المستدرك ، 1 / 59 .
  • 19. يعني : من ممثِّل على ممثَّل به .
  • 20. م . ن ، ص 291 و 292 .
  • 21. السرائر ، 3 / 574 ط مؤسسة النشر الإسلامي بقم .
  • 22. بلغة الطالب للسيد فضل الله ، 1 / 290 ط‏1 في 1403هـ .
  • 23. ج ‏2 ص 536 ط 1408هـ .
  • 24. محاضرات في الفقه الجعفري ، 1 / 292 .
  • 25. ممن ذكرهم أستاذنا السيد الخوئي ، في كتابه ( معجم رجال الحديث ) ، ولم ‏يذكر عنهم أكثر من ورود أسمائهم في سند الرواية المذكورة في أعلاه ، انظر : 2 / 190 و2 / 364 و10 / 372 و16 / 72 ط الرابعة 1409هـ .
  • 26. ج ‏2 ص 7 .
  • 27. الفقه على المذاهب الأربعة ، كتاب الحظر والإباحة ، حكم إزالة الشعر وقص الأظافر ، 2 / 44 ، ط دار الفكر ودار الكتب العلمية .
  • 28. محاضرات في الفقه الجعفري ، 1 / 292 و293 .
  • 29. أصول الفقه للمظفر ، 2 / 176 .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى