التعليممقالات

الفكر الإسلامي والنقد الأكاديمي العربي المعاصر…

هناك نسق من الكتابات التي توجهت نحو حقل الإسلاميات التاريخية والفكرية، وتناولت قضايا وظواهر وأحداثيات الفكر الإسلامي الوسيط والمعاصر. هذه الكتابات خضعت لتصنيفات عديدة ومختلفة بحسب تكوينات الفهم لطبيعة منازعها وميولها واتجاهاتها، بدون النظر لوحدتها النسقية، أو التي كان بالإمكان النظر لها من خلال وحدة نسقية لها شرائطها الجامعة ومنطقها المشترك، وعن طريق تمييزها وتحديدها بحقل منهجي له طرائقه وتقنياته في الدراسة والتحليل والبحث، وهو حقل البحث الأكاديمي. ولأن الصفة البارزة على هذه الكتابات هي صفة النقدية، لذلك جاز لنا وصفها بالنقد الأكاديمي. باعتبار أن طبيعة هذا النقد وأدواته ومفاهيمه ونظرياته ترتكز على المنهجيات النقدية الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولأن منشأ هذا النقد الوسط الأكاديمي، وينتسب إلى أكاديميين هم أساتذة جامعات وباحثين لهم أهلية التخصص.
وتوجيه النظر للنقد الأكاديمي في مجال الإسلاميات والفكر الإسلامي، يتأكد من جهتين: معرفية ومنهجية. الجهة المعرفية تتصل بالمستوى العلمي والفكري للدراسات والكتابات المقدمة في هذا الشأن، والتي تحاول أن تميز حالها بالحيادية والموضوعية والجدية. والجهة المنهجية تتصل بالتركيز على إظهار المستوى المنهجي في البحث والالتزام بالمعايير العلمية والأكاديمية. أو هكذا تحاول أن تصور هذه الكتابات حالها بتلك المزايا والمواصفات. لكنها لا تفسر أو تفهم بهذا النحو دائماً، فغالباً ما يكون هذا النمط من الكتابات موضع جدل أو محفزاً للجدل بحث يصل أحياناً إلى فتح نقاشات ساخنة وسجالية بين نخب مختلفة.
ومن الأسماء التي تبرز في هذا المجال، وتصنف كتاباتهم على هذا الشكل من النقد الأكاديمي، وفي النطاق العربي تحديداً، الدكتور محمد أركون من الجزائر، والدكتور هشام جعيط من تونس، والدكتور فهمي جدعان من فلسطين، والدكتور رضوان السيد من لبنان. يشترك هؤلاء في تخرجهم لمرحلة الدراسات العليا من الجامعات الأوروبية والفرنسية بوجه خاص، ما عدا الدكتور رضوان السيد الذي حصل على الدكتوراه من جامعة توبنغن الألمانية سنة 1977م.
كما أن الفلسفة هي الحقل المعرفي المشترك بينهم، إلى جانب اهتمامهم وتخصصهم في مجال الدراسات الإسلامية والفكر الإسلامي، فمنهم من حصل على الدكتوراه في قسم الفلسفة، ومنهم من كان أستاذاً للفلسفة في التدريس الجامعي. والمشترك الآخر والأساسي بينهم في الدراسات والأبحاث التي قدموها في مجال الإسلاميات الكلاسيكية وبمنظور تاريخي ـ فكري وفلسفي. فالتعليم بالجامعات الأوروبية ساهم في تكوين الذهنية الأكاديمية لهؤلاء، والتخصص في حقل الفلسفة ساهم في تكوين النزعة النقدية عندهم، لهذا اتصفت كتاباتهم بالنقد الأكاديمي أو جاز وصفهم بذلك.
والدراسات التي قدمها هؤلاء أضافت اتجاهاً جديداً في حقل الدراسات الإسلامية يستفيد من الخبرة العلمية والنقدية والأكاديمية للغرب، لذلك فهي تختلف وتتمايز عن النمط السائد في كتابات الإسلاميين ودراساتهم في هذا الحقل.
وقد عكست تلك الدراسات بنسبة ما روحية الغربيين في البحث من حيث النشاط والجدية والإحاطة والسعي نحو الكشف العلمي. وهي الروحية التي وصفها الدكتور مصطفى عبد الرازق في كتابه الشهير (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) بقوله: (إن الناظر فيما بذل الغربيون من جهود في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، لا يسعه إلا الإعجاب بصبرهم ونشاطهم، وسعة إطلاعهم وحسن طريقتهم). مع ذلك فهو لا يزكيهم بالكامل ويبرر لأخطائهم بما يصفه بالضعف الإنساني، في تتمة كلامه، حيث يضيف (وإذا كنا ألمعنا إلى نزوات من الضعف الإنساني تشوب أحياناً جهودهم في خدمة العلم، فإنا نرجو أن يكون في تيقظ عواطف الخير في البشر وانسياقها إلى دعوة السلم العام والنزاهة الخاصة والإنصاف في التسامح مدعاة للتعاون بين الناس جميعاً على خدمة العلم باعتباره نوراً ينبغي أن لا يخالط صفاءه كدر).
والوصف الذي نستعمله لهذا النسق من الكتابات لا يعني التوافق بين هذه الكتابات، أو الانسجام الفكري بين أصحابها، بل إنها تتعدد وتختلف في منظوراتها التفسيرية والتحليلية، وفي المنهجيات النقدية التي يرجع إليها، وفي الأطروحات التي يحاول كل واحد من هؤلاء صياغتها والتوصل إليها. كما إن تلك الكتابات تتأثر بنوعية البيئات والشروط الاجتماعية والسياسية والثقافية المكونة لها، وفي طبيعة الدور الذي يحاول كل واحد من هؤلاء أن يتمثله، وفي الموقع الذي يتأثر منه هؤلاء ويؤثروا من خلاله. فالدكتور محمد أركون ينطلق من منظورات نقدية شديدة الجذرية والصرامة في التعامل مع النص الإسلامي والمعارف الإسلامية، وبالاعتماد على المناهج العلمية الحديثة في الألسنيات والعلوم الإنسانية والاجتماعية، متجاوزاً وناقداً مناهج الفقهاء واللغويين والمفسرين الكلاسيكية والتقليدية، حيث يعتبرها أركون مناهج مستهلكة وقديمة، وغير قادرة على مواجهة الفكر الحديث والولوج إلى عالم الحداثة، ولا تصل إلى دائرة اللا مفكر فيه. ولاشك أن الدكتور أركون متأثر في صياغة هذا المنظور من الموقع الأكاديمي الذي يحتله باعتباره أستاذاً للدراسات الإسلامية ومديراً لمعهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة السربون الفرنسية.
ومن رؤيته للدور الذي يحاول أن ينهض به في النطاقين العربي والإسلامي، والأوروبي الغربي، فإنه يرى نفسه معنياً بصورة أساسية بمخاطبة المفكرين والباحثين والمستشرقين الغربيين، ويدعوهم إلى إعادة النظر في طريقة تدريس الدراسات الإسلامية من خلال منهجيات نقدية عقلانية صرفة تتجاوز الطرق التقليدية وأشكال التحيز وعدم الموضوعية، كما يطالب بشطب مفردة الاستشراق من القاموس الفكري المعاصر لأنه حسب رأيه يمثل مرحلة تاريخية انقضت وتركت شرخاً عميقاً بين دول المتوسط، وحاجزاً حضارياً بين الشرق والغرب. وتقوم أطروحته الأساسية على نقد وتفكيك النص الديني الإسلامي بالنمط الذي وصل إليه الغرب في نقد وتفكيك العهدين القديم والجديد للديانة المسيحية، كشرط للدخول في عالم العلمانية والتقدم والحداثة.
أما الآخرون وإن كانوا ينطلقون من منظورات نقدية إلا أنها ليست بتلك الجذرية أو الصرامة التي يصفها هاشم صالح بإقامة مواجهة ما بين القرآن والصيغ النظرية للفكر الحديث كضرورة ثقافية وتاريخية ملحة. وهاشم صالح هو الذي قدم أركون إلى العالم العربي وعرّف بدراساته وكتاباته. كما يختلفون عن أركون أيضاً في الأطروحة الأساسية، فأطروحة هشام جعيط هي أن العرب والمسلمين لا يمكن أبداً أن يلجوا باب الحداثة والمشاركة في العالم المعاصر، إلا إذا كونوا لأنفسهم طموحاً عالياً في مجالات الفكر والمعرفة والعلم والفن والأدب، وقرروا بصفة جدية الأخذ عن الغير، وما أبدعته الحداثة في كل هذه الميادين.
أما أطروحة فهمي جدعان فهي أن الأزمنة الحديثة إنما تبدأ مع ابن خلدون الذي اعتبر إشكاليته هي الإشكالية الحضارية في الأمة التي تقوم عليها قيام الحضارات وانهيارها، أو صورة الأمة أو الدولة المثلى التي يمكن لقيامها أن يجنب الأمة استمرار التقهقر ويحقق لها الانعتاق من حالة الانحطاط والسير في طريق التمدن والتقدم. وعند رضوان السيد أن تتقدم إشكالية التقدم على إشكالية الهوية.
لا شك في قيمة مثل هذا النقد الأكاديمي، وفي حقل الدراسات الإسلامية بالذات، ومن الضروري الانفتاح عليه والتواصل النقدي معه. حيث تتأكد قيمته مع ما أصاب حقل الدراسات الإسلامية من جمود وانغلاق وتشبث بالنمط التقليدي القديم ومحدودية في مواكبة تطورات الفكر العالمي والمستجدات الحديثة في ميادين العلوم والمعارف والمناهج. وهذا ما يمكن أن تضيفه أو تعرف به تؤكد عليه تلك الكتابات الأكاديمية.
أما النقد الذي يسجل على النقد الأكاديمي وبالذات كتابات أركون فهو الإفراط الشديد في استعمال المفاهيم والمصطلحات التي تنسب على الفكر الأوروبي لتفسير وتحليل ونقد النصوص والمعارف الإسلامية، والمغالات في تطبيق منهجيات الألسنيات والعلوم الإنسانية والاجتماعية، والتقليل من شأن منهجيات الفقه وأصول الفقه واللغة والتفسير، بالإضافة إلى التجريد النظري والإسراف في النقد والتعامل الفوقي والنخبوية المتعالية1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الوطن ـ الثلاثاء / 12 يونيو 2001 م، العدد 256.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى