هذه المقالة القيمة خطاب ألقاه العالم الفاضل السيد أبو علي رضا بمناسبة ذكرى عيد الغدير الأغر ، و هو باحث اسلامي مستبصر .
أيّ يوم هو ذلك اليوم الذي حضره الله و رسوله ، و ماذا عسى هذا اللسان الكال أن يقول حوله. إنه العيد الأكبر الذي جسد واقعة الغدير الشريفة ، واقعة أكبر من أن تتداولها الأحاديث و يجهر بها الخطباء على منابرهم و تلفها كتب الرواية و الدراية بين طيّاتها. لأنّ تداعياتها قد خرقت حجب الظاهر و غمرت باطن الأفئدة. رواها المؤرخون ، تغنى بها الشعراء ، و ألبسها العلي الأعلى صبغته فكانت ميثاقا و عهدا مفعولا إلى يوم يبعثون. و صارت بحق بابا للابتلاء و الامتحان ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ 1 .
إنّ الواقف على واقعة يوم الغدير يدرك أنّه دهر في يوم ، لا يوم في دهر ، و من عرفه و عرف حقه فاز بالدارين و من جهله غار في القعرين.
و لا يخف عن القارئ الكريم؛ أنّ أكثر الحقائق مظلومية على مد القرون و العصور هي الحقيقة الدينية المنادية بنبذ الخلاف ، و نصب راية الوحدة و الانسجام ، بل أكثر من ذلك كله أنّ هذه الأخيرة منقوشة على قلب كل مؤمن مخلص ، ينبض شوقاً لنصره إخوانه المسلمين ، منطلقا من وجدانيات الرسالة المحمدية الأصيلة التي جسدت عمليا مفهوم الوحدة الإسلامية في واقعة الغدير الشريفة. فكانت بذلك ترجمانا لصوت القرآن الكريم في قوله تعالى : ﴿ … الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا … ﴾ 2 .
فرأى العبد الفقير أن تكون له وقفة عند هذه المحطة الشريفة رغم أنها أعمق غورا من أن تنالها يد العظماء بأفكارهم فضلاً عن المتطفلين أمثالي. و على قاعدة ما لا يترك كله لا يترك جُلُّه ، كتبت هذه الأسطر المتواضعة علّها تساهم في دفع مشروع الوحدة الإسلامية قدما.
خصوصية واقعة الغدير
تنطوي واقعة الغدير بعنوانها ميثاق هذه الأمة و دستورها على خصوصيتين مهمتين :
الأولى: ظرفيتها فقد تزامنت مع آخر لحظات الرسالة الخاتمة حيث تجلت من خلالها أرقى حقيقة وجودية ألاّ و هي ” الولاية “؛ فقد كان لسان الحال فيها يقول ” لا دين بلا ولاية “؛ لأنّ الدين المفرَّغ منها ماهيته مغايرة للحق و الناموس الإلهي.
الثانية : مصداقها هو ” ولي الله ” المتصدي للدفاع عن حريم هذه الحقيقة الدينية و المتجلي في شخص من فدى رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) بنفسه.
إنّ الشيء المميّز للإنسان عن سائر الموجودات المادية ، هو حيثية ميولاته و رغباته التي تتأثر تبعا بنظرته الدقية تجاه عالم الوجود. فلو اقتصرت هذه الأخيرة على البعد المادي فحسب ، تساوى عندها و الحيوان. قال أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ : ” أ اقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ، و لا أشاركهم في مكاره الدّهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش فَمَا خُلِقْتُ لِتَشغلَني أَكْلُ الطَيبات كالبهيمة المربوطة هَمُهَا عَلَفُها ، أو المرسلة شُغلُهَا تَقَمقمهَا تَكتَرشُ مِنْ أًعلافِها ، تَلْهُو عمّا يُرادُ بِهَا ” و هذا فعلا ما جاء به لسان الذكر الحكيم قال تعالى: ﴿ … أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ 3 .
فامتياز الإنسان عن باقي الحيوانات ناظر لاستعداده الخاص الذي يقتضي وجود برنامج إلهي يفضي إلى هدايته و العروج به نحو كماله المنشود. و هو نفس ملاك بعثة الأنبياء و المرسلين إنّه ” الدين ” .
و طالما أن الدين وصل إلى كماله في واقعة الغدير ، فتبعا يكون الغدير محورا كماليا للأمة جمعاء و ضربة قاضية للمشركين و الكفار و من سار على ديدنهم. و في الوقت نفسه مَسَدًا لباب الاعتذار أمام من سوّلت و تسوّل له نفسه تزييف الحقائق. قالت السيدة فاطمة ( عليها السلام ): ” … و هل ترك أبى يوم الغدير لأحدٍ عذرا …”.
اليأس في واقعة الغدير
اليأس معناه انقطاع الرجاء و يقابله الأمل. قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) حينما نزل الوحي على النبي ( صلى الله عليه و آله ) في غار حراء: ” … و لقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه ( صلى الله عليه و آله ) ، فقلت يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ ” .
فقال : ” هذا الشيطان قد أَيسَ من عبادته إنّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي و لكنك لوزير و إنّك لعلى خير …” .
و المتأمل يدرك لأول وهلة أنّ الآية الكريمة التي نزلت يوم الغدير نسبت اليأس لأنصار الشيطان و هم الكفار؛ فيا ترى ما كانت أطماعهم و آمالهم قبل يأسهم؟
1- إطفاء نور هذا الدين : قال تعالى : ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ 4.
2- الارتداد عن الدين : قال تعالى : ﴿ … وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ 5 . لكن هل يختص هذا بهم فحسب أم أنه يسري لأطماع و آمال أهل الكتاب أيضا : لقد قال تعالى : ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ 6 .
3- إقتراح الدخول في دينهم: قال تعالى على لسان حالهم : ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 7 و قال أيضاً : ﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ 8 .
خلاصة القول أن الكفار يسعون دائما نحو إبادة هذا الدين ، لكن محطة الغدير قد حالت و ستحول دون ذلك ، لأن التمسك بها عمليا سيفضي إلى اضمحلال آمالهم و سيبتلي الآملين باليأس المبين؛ لكن بشرطها و شروطها؟!. لأنّ سنة الله في أرضه تقتضى قابلية القابل للفيض الإلهي و استعداده لحفظ هذا الدين القيم. و النعمة الإلهية متجلية فعليا ، طالما هناك أهلية في المؤمنين ، قال تعالى : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ 9 ، و طمع العدو متربص بكفرانها الذي يزوده بالعزم و القوة لدحض أواصر البناء الإسلامي.
إن العيد الواقعي ، هو عيد الكمال الإنساني و عيد الأمة الموحدة. و كما يجسد هذا اليوم مظاهر الوحدة الإسلامية؛ فإنّه في الوقت نفسه يغيض اليهود و الكفار لأنّه لم يخصّهم و خصّ المسلمين. قال بعض اليهود لعمر : ” إنّكم تقرؤون آية في كتابكم السماوي لو أنها نزلت علينا لاتخذنا يومها عيداً “.
فقال عمر : أي آية تقصدون ؟
قالوا : ﴿ … الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا … ﴾ 2 .
فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) فيه و الساعة التي نزلت فيها … “.
لماذا الغدير بالذات ؟
ليس الكلام حول واقعة الغدير؛ ـ و في هذه الظروف و المحن التي تمر بها الأمة الإسلامية ـ ارتجالياً و طراطيق كلام عابر. بل إنّه محطة للعبرة و سعياً دءوبا نحو جمع شمل مجتمع إسلامي قد شتته العصبية العمياء و فرقته الخلافات الجوفاء.
إنّ مفهوم القيادة الذي جسدته واقعة الغدير يمكّن الأمة الإسلامية من صياغة وجود جديد يقيها الضياع ، و يشدّ على يدها مؤمنا لها المسير على صراط مستقيم ، يضمن لها أطرا سليمة و قوانين إسلامية كانت قد هجرتها ردحًا من الزمن ، رغم تحذيرات نبيها فعن أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) قال في خطبة حجة الوداع: ” … لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض …» .
لكن ليعلم القارئ لهذه الأسطر أن تحقق هذا المشروع الوحدوي لا ينال بتبادل عبارات الحب و الشاعرية و لا بتجاهل الوقائع التاريخية و القفز فوقها ، لأنّ ذلك يفضي لوحدة صورية هشة سرعان ما تتلاشى بمرور الزمان. يجب أن يكون هذا المشروع مرتبطا بثوابت و أسس واقعية ، يؤرخ لها بما جرى في واقعة الغدير الشريفة.
إنّ أطروحة القبول بإمامة الجائر و من يتبناها ، هي مشروع يُصّور المسلمين كأرقاء و عبيد للصهيونية و أزلامها ، و يناقض تماما المشروع الإلهي الذي نادى به الأنبياء ، و أبلغه كماله رسول الغدير ( صلى الله عليه و آله ) و إمام الغدير ( عليه السَّلام ) . بل إنّ محاولة البحث عن بديل لهذا المشروع غير يوم الغدير ـ بعنوانه مجسدا للوحدة الإسلامية ـ أو التواطؤ دونه؛ هو بمثابة الاصطياد في الماء العكر. و يكفينا دليلاً على ذلك ، موازنته بجهاد المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) ، قال تعالى : ﴿ … وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ … ﴾ 10 أي أنّ الرسالة في كفة و الولاية في الأخرى.
إنّ الغدير هو الشاهد على تقصيرنا ، و الداعي لنا للنهل من مناهله. لأن الإيمان ليس إلاّ تجسيدا للولاية المتجلية في هذه الواقعة الشريفة. فمنها يؤرخ للاعتقاد الحق و الالتزام العملي بالدين الحنيف. فالولاية هي الأمانة الكبرى التي علينا التواصي بها ، قال تعالى : ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ 11 .
و في آخر هذه الأسطر المتواضعة ، أبى قلمي إلاّ أن يخط هذه الأبيات القصيرة مستشعرا جلل الوقوف في مصف الواقفين يوم الغدير:
رأيت السماء تلألأ نـوراً *** كأنّ الملائك تشدو سروراً
بشهر الحجيج و تنشد خم *** أثارت قلوب الملا و الغديرا
بصوت لطه علا فتعـالى *** فكان بحق زهوقاً لشـورا
تداعت لتخمد نور الولاية *** و تغدو الإمامة ملكاً نكيرا
فرجّ نداء الحبيب محمـد *** يدوى و ينذر جمعاً كثيـرا
يبلغ ما قد أتاه جهـاراً *** و يصدع بأمر الإله نهـارا
يقول العلا بعلي عـلا *** و من والى حيدراً غدا قد نجا
- 1. القران الكريم : سورة العنكبوت ( 29 ) ، الآية : 2 ، الصفحة : 396 .
- 2. a. b. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 3 ، الصفحة : 107 .
- 3. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 179 ، الصفحة : 174 .
- 4. القران الكريم : سورة الصف ( 61 ) ، الآية : 8 ، الصفحة : 552 .
- 5. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 217 ، الصفحة : 34 .
- 6. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 120 ، الصفحة : 19 .
- 7. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 111 ، الصفحة : 17 .
- 8. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 135 ، الصفحة : 21 .
- 9. القران الكريم : سورة الأنفال ( 8 ) ، الآية : 53 ، الصفحة : 184 .
- 10. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 119 .
- 11. القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 72 ، الصفحة : 427 .