مؤسف جدا أن تساعد أجواؤنا العامة في تبرير كل شيء بأنه عين ، و تحليل كل وضع يطرأ على أحدنا بأنه حسد ، فمسكين هذا الشاب و مسكينة تلك المرأة و مسكين هذا الطالب أو ذاك لأن العين أصابته ، و لا حول له و لا قوة في دفع ما أصابه ، لم يقصر أحد هؤلاء ، ولم يخطئ ، ولم يتحرك بعكس سنن الكون و الحياة ، كلا و لكنه الحسد أو العين .
جمعني بتاريخ 16 / 2 / 2009 ، حديث شيق مع الدكتور خالد السلطان مدير جامعة الملك فهد قال فيه : يأتيني آباء قد تخلف أولادهم دراسيا بعد أن كانوا في وضع متفوق و ممتاز ، فأجلس معهم لأستمع بإنصات و تأمل ، فيؤكد أغلبهم أن ابنه مجد و مجتهد ، و لكن حسبنا الله على العين التي غيرت حاله ، فأصبح لا يهوى الكتاب و لا يحب تدارس العلم ، و لا يميل للتركيز .
يواصل الدكتور حديثه قائلا : كنت أستلم بعض ملفات الطلاب الذين تحدّث آباؤهم عن إصابتهم بالعين ، و كان بعض الطلاب يصارحونني بسبب الانقلاب الذي طرأ على حياتهم ، فأكتشف أن الأمر ليس عينا و لا حسدا و لا سحرا ، لكنها أسباب أخرى تحتاج إلى توجيه سلوكي و قيمي يتفهم مرحلة الشباب و منزلقاتها .
لقد تعززت هذه الثقافة في النساء أكثر من الرجال ، فكل فتاة تأخرت في الزواج مصابة بالعين ، و كل مشكلة بين الزوجين سببها الحسد ، و كل طلاق و انفصال بينهما سببه عيون من لا يخافون الله و لا يخشونه.
كم هي مريحة هذه الثقافة ؟
إنها باختصار تعني أننا غير مسؤولين عمّا يطرأ على حياتنا من انتكاسات ، فنحن لم نهيئ الأسباب ، ولم نخطئ في التصرفات ، ولم نقصّر في الواجبات ، ولم نتعامى أو نتغافل عن الكثير من العلامات التي لاحت لنا منذرة و محذرة من سوء العاقبة .
إنها ثقافة مريحة لأنها ليس فيها اعتراف بتقصيري في تربية ابني ، أو إهمالي العناية بزوجي أو زوجتي ، أو أنني شغلت حالي بلهوي و لعبي و راحتي ، و رميت الحبل على الغارب .
الأثرياء و أصحاب رؤوس الأموال الضخمة ، الجادون في إدارة أعمالهم و السهر على مصالحهم ، و التخطيط لتطويرها و نموها ، لست أدري لماذا لا تصيبهم العين فيصبحون في لحظة من اللحظات متسولين في الشوارع ؟ لست أدري لماذا مع أن عندهم ما يدفع الكثير لحسدهم و تشبيح العين عليهم ؟ و مثل هؤلاء كذلك الكثير من العلماء و المبدعين و المخترعين ، و المطربين و ملكات جمال العالم و غيرهم .
بعض المشاكل الزوجية و الأسرية التي تعرض علينا ، تأتينا جاهزة من أصحابها الذين يعرضون المشكلة و يشيرون إلى سببها مباشرة ، و هو العين التي أصابتهم ، و أدت بهم إلى الوضع الذي هم فيه .
هل نقول في مثل هذه الحالات قول الله سبحانه و تعالى ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾ 1، و إذا قلناه في مثل هذه الحالات ، فهل يحق لمن نال ثقة الناس و اطمئنانهم لأي سبب كان أن يوجههم مباشرة إلى العين و يعزز ثقافتهم أو جهلهم بالأسباب الحقيقية لمشاكلهم ، ليرموا كلاكلهم على تلك العين التي لا تجد شيئا متميزا عندهم ـ أحيانا ـ كي تصيبه و تؤذيه .
لعل القارئ يرى في أيامنا هذه الكثير من الفضائيات ـ الفارغة ـ التي لا هم لها إلا الدجل و السحر ، و هي تمارس تسويقها للأوهام بغية الكسب على حساب الناس ، و على حساب استقرارهم الأسري .
التأمل و المحاسبة هي التي تعيد الإنسان إلى الجادة ليفكر بما عمل و ما كسبت يداه يومه و ساعاته ، ثم ليحكم على نفسه ، فإن كان ما عمله في يومه صالحا ، و لصالح مستقبله ، حمد الله و أكثر من فعل الصالحات ، و إن كان سيئا ، و سيعود عليه بالويل و الثبور ، استغفر الله منه و أصلحه في مقبل أيامه ، و قد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله و صحبه و سلم « ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم و ليلة ، فإن عمل خيرا استزاد منه ، و إن عمل سوءا استغفر الله منه » .
هذا ما يعيد الأمور إلى وضعها السليم ، و هو ما يعالج المشاكل و الأزمات ، و يجعل النفس في مختلف سلوكها و تصرفاتها متغيرة نحو الأحسن و الأفضل ، أما العين و الحسد ، فتحليل من يريد التهرب من مسؤوليته عن الأمور كما أسلفنا ، و للحديث تتمة 2 .
- 1. القران الكريم: سورة القيامة (75)، الآية: 14، الصفحة: 577.
- 2. الشيخ محمد الصفار ـ « جريدة العرب القطرية » ـ 20 / 2 / 2009 م ـ 3:30 م .