مقالات

الشهيد مطهري…

إن الحديث عن حضور ليلى أم علي الأكبر رضوان الله عليه قد كثر وفشا بطريقة غير سليمة ولا مألوفة ، بسبب ما أثير حول هذه القضية من شبهات أنشأت علاقة ذهنية ونفسية تكاد تكون راسخة فيما بين هذه القضية وبين الأسطورة والخيال ، والاختلاق والدس في سيرة عاشوراء المباركة…
ولعلنا لا نبعد إذا قلنا : إن هذه القضية قد أصبحت عنواناً ومفتاحاً ومدخلاً ، ومناسبة للحديث عن الأسطورة في عاشوراء بكل عفوية وراحة بال ، وهي المقال المناسب لمثل هذه الحال .

ولا نبعد إذا قلنا أيضاً : أن ما ورد في كتاب الملحمة الحسينية ، المجموع من أشرطة وقصاصات وكتابات الشهيد السعيد العلامة الشيخ مرتضى المطهري رحمه الله ، وأعلى مقامه ودرجته في جنات الفردوس الذي يعتبر علماً من أعلام الثقافة الإسلامية ، ورائداً من رواد المعرفة الحية والأصيلة في هذا العصر ، نعم إن ما ورد في ذلك الكتاب يؤكد صحة القول المعروف : ـ لكل جواد كبوة ، ولكل عالم هفوة . ولعل ما نسب إليه من رأي حول عدم حضور ليلى في كربلاء ، هو في هذا الاتجاه بالذات ، ثم تبعه على ذلك كثير من الناس ، الذين لم يرجعوا إلى المصادر ، ولم يعيدوا دراسة النصوص ولا خطر لهم أن يناقشوا أقواله وحججه ، ليقفوا على مدى ما فيها من قوة أو ضعف ، وقوتها في إثبات ما يرمي إلى إثباته ، وذلك ثقة منهم بحسن تصرف هذا الرج الجليل فيما يتوفر لديه من معارف ، وبقوة عارضته في الاستدلال ، وسلامة وصحة مقدماته التي تؤدي به إلى الاستنتاج ، وفقاً للمعايير المعقولة والمقبولة .
ولم يدر في خلدهم أن العصمة هي لله سبحانه وحده ، ولأوليائه الأنبياء والأئمة الطاهرين ، ولا خطر ببالهم احتمال أن الشهيد لم يكن حين تصدى لهذا الأمر قد استجمع الوسائل ، ولا استفاد من التجارب ولا حصل على المؤهلات التي تكفيه لإصدار أحكام في مثل هذه الأمور التي ليست من اختصاصه وبالأخص إذا عالجها في أجواء تهيمن عليها المشاعر المحكومة بمسبقات ذهنية ، ترتكز إلى نظرة تشاؤمية ، ترشح من سوء الظن .
بل يظهر لنا أنه رحمه الله حين كتب ما كتب ، أو حين قال ما قال عن وقوع التحريف في قضايا كربلاء وعاشوراء لم يكن في أجواء تأمل وتدقيق علمي هادئ ، وإنما كان يطلق ذلك في أجواء جماهيرية إستدرجته إلى القسوة في التعبير ، وإلى إطلاق الأحكام والدعاوى بطريقة التعميم والتضخيم الذي لا يستند إلى قاعدة مقبولة أو معقولة ، فانتهى ـ من ثَمَّ ـ إلى استنتاجات لا تحتملها ولا تتحملها المقدمات ولا تقوم بها الركائز التي استندت إليها .
وإن مراجعة دقيقة للمحاضرات المنسوبة إليه رحمه الله في كتاب الملحمة الحسينية لكفيلة بأن توضح إلى أي مدى ذهب به الإسترسال أحياناً ، حتى كأنك لا تقرأ الشهيد المطهري بل تقرأ رجلاً آخر ، لم يمارس البرهنة العلمية الدقيقة ، ولا اطلع على فنون الاستدلال وعناصره ، وأركانه وشرائطه .
وقد تقدم أنه رحمه الله لم يوفق في كثير من الموارد التي سجل فيها تحفظاته من حيث الوثوق بثبوتها التاريخي . . فإن الحق في كثير منها قد كان في خلاف الاتجاه الذي نحا إليه واختاره . . أو على الأقل لم يستطيع أن يثبت ما يرمي الى إثباته بل كان دليله هو مجرد الدعوى ، والدعوى هي نفس الدليل ، مع الكثير من التهويلات ، والتعميمات الجريئة التي لا تقبل إلا بدليل حاسم وقوي ، وبالبرهان العلمي .

الشاهد الأبعد صيتاً

ومهما يكن من أمر فإننا هنا لسنا في صدد محاكمة جميع ما جاء به ، وما رسمه في هذا الكتاب الآنف الذكر . . وإنما أردنا مجرد الإشارة والإلماح إلى هذا الأمر ، على أن نكتفي في هذه العجالة بالحديث عن هذا الشاهد الأبعد صيتاً ، والأكثر تداولاً ، وأصبح العصا السحرية ، الأشد استفزازاً ، وهو قصة حضور ليلى أم علي الأكبر في كربلاء ، خصوصا حينما يرغب أي من قراء العزاء بالإشارة إلى هـذه القصة حيث يتكهرب الجو وتبدأ الهمسات تعلو وتعلو ، وتنطلق الحناجر لتسجل تهمة الأسطورة والخيال ، ثم الكذب والاختلاق والدجل ، وينتهي الأمر بإطلاق هجومات تستوعب سائر ما يقرؤه خطيب المنبر الحسيني بمختلف مفردات السيرة الحسينية ، ولينتهي الأمر بحرمان المستمع الطيب القلب من استفادة العبرة والأمثولة ، ومن التفاعل مع أحداث كربلاء بصورة أو بأخرى .
وهكذا تكون النتيجة هي أن لا يبقى ثمة من ثقة في أي شيء يقوله قراء العزاء حتى ذلك الذي ينقلونه من الكتب التي هي في أعلى درجات الاعتبار والصحة حتى عند هؤلاء أنفسهم…
ومن يدري فلربما يأتي يوم يشكك فيه هواة التشكيك حتى في أصل استشهاد الإمام الحسين عليه السلام أو في أصل وجوده .
أعاذنا الله من الزلل ، في الفكر ، والقول وفي العمل ، إنه ولي قدير ، وبالإجابة حري وجدير .

لا يذكر المؤرخون ليلى في كربلاء

لقد ورد في كتاب ” الملحمة الحسينية ، ما يلي : هناك نموذج آخر للتحريف في وقائع عاشوراء ، وهو القصة التي أصبحت معروفة جدا في القراءات الحسينية والمآتم ، وهي قصة ليلى أم علي الأكبر . هذه القصة لا يوجد في الحقيقة دليل تاريخي واحد يؤكد وقوعها . نعم فأم علي الأكبر موجودة في التاريخ ، واسمها ليلى بالفعل ، ولكن ليس هناك مؤرخ واحد يشير إلى حضورها لمعركة كربلاء . ومع ذلك فما أكثر المآتم التي تقرأ لنا قصة احتضان ليلى لابنها علي الأكبر في ساحة الوغى والمشهد العاطفي والخيالي المحض 1 .
ويقول المحقق التستري : ولم يذكر أحد في السير المعتبرة حياة أمها ” الصحيح : أمه” يوم الطف ، فضلاً عن شهودها . وإنما ذكروا شهود الرباب أم الرضيع وسكينة 2 .
ويقول الشيخ عباس القمي : لم أظفر بشيء يدل على مجيء ليلى إلى كربلاء 3 . ونقول :

إننا نسجل ملاحظاتنا على هذه الفقرات ضمن الأمور التالية

أولاً : ليلى حضرت في كربلاء

سيأتي في الفصل الأخير من هذا الكتاب : أن حضور أم علي الأكبر في كربلاء مذكور في الكتب المعتبرة وأن هناك من أشار بل صرح بهذا الحضور .

ثانياً : لابد من شمولية الاطلاع

إن من الواضح : أن من يريد نفي وجود شيء ما ، لابد له أن يقرأ جميع كتب التاريخ ، بل كل كتاب يمكن أن يشير إلى الأمر الذي هو محط النظر .
ولا نظن ان العلامة المطهري ـ ولا غير المطهري أيضاً ـ قد قرأ جميع كتب التاريخ ، فإن ذلك متعسر بل هو متعذر بلا شك على كل أحد .

ثالثا : الأمر لا يختص بكتب التاريخ

كما أن ذكر حضور ليلى في كربلاء ،لا يختص بكتب التاريخ ، فقد تشير إلىذلك أيضاً كتب الأنساب ، والجغرافيا ، والحديث ، والتراجم ، وكتب الأدب ، وما إلى ذلك…
والكثير من كتب التراث لا يزال يرزح تحت وطأة الغبار ، ويئن في زنزانات الإهمال ، ويعاني حتى من الجهل بأماكن وجوده .
بل إننا لا نزال نجهل حتى ما في طيات فهارس خزانات الكتب الخاصة والعامة ـ فضلاً عن أن نكون قد إطلعنا على محتويات تلك المكتبات ، من مؤلفات في مختلف العلوم والمعارف…
فهل يمكن والحالة هذه أن يدعي أحد منا أنه قد رصد حركة ليلى في حياتها وتنقلاتها ؟ .
وهل يصح أيضاً من هذا الشهيد السعيد إن كان قد قال ذلك حقاً أن يحصر هذا الأمر بالمؤرخين دون سواهم ؟! .
وهل قرأ رحمه الله كل هذا الكم الهائل من هذه الأنواع المختلفة من كتب التراث ، المخطوط منها والمطبوع ، حتى جاز له أن يصدر هذا الحكم القاطع بنفي حصول هذا الأمر من الأساس ؟! .

رابعاً : التالف من كتب التراث

ولا يجهل أحد : أن هناك كماً هائلاً لا مجال لتصوره قد تلف وضاع عبر الأحقاب التاريخية المتعاقبة .
وقد تجد ذكراً للكثير من المصادر التي كانت متداولة في أيدي المؤلفين والمصنفين الذين سبقونا ، وقد نقلوا لنا عنها أشياء لم تذكر فيما وصل إلينا ونتداوله نحن الأن من مؤلفات القدماء ، وقد أشار بعضهم ـ كصاحب البحار وسواه ـ إلى العديد منها ، ونقلوا عنها الكثير ، لكنها قد تلفت قبل أن تصل إلينا .
فهل نستطيع أن نتهم هؤلاء العلماء الأعلام الأطياب الأخيار بممارسة الكذب والإختلاق فيما ينقلونه عن تلك المصادر والمؤلفات المفقودة . ؟!
وهل يصح للشهيد مطهري وسواه : أن ينفي أمراً يحتمل أن يكون ناقله قد أخذه من مصادر لم تصل إلينا ـ وما أكثرها ؟! .
ومن الواضح : أن المعصوم قد عاش بين الناس حوالي مائتين وثلاث وسبعين سنة ، ثم بقي بالقرب منهم ـ بالإضافة إلى ذلك ـ تسعاً وستين سنة ـ يدبر أمورهم ، ويعطيهم توجيهاته من خلال السفراء ، ثم كانت الغيبة الكبرى .
وقد كان المعصوم (ع) يقوم بواجبه على أكمل وجه ، ولا يدع فرصة ـ مهما كانت ضئيلة ـ إلا وينشر فيها علمه ومعارفه بالقول والفعل ، وبكل وسيلة ممكنة ، بل إن كل حالة من حالاته وكل لفتة من لفتاته تشير إلى حكم إلهي ، وإلى تشريع رباني ، وهو حجة وبلاغ .
فلو أن أحداً حاول أن يرصد ويسجل ذلك كله ، ألا ترى معي أنه سيسجل مئات الصفحات في كل يوم ، وألا يوضح ذلك لنا حقيقة : أن كل ما عندنا من أحاديث لا يعدل ما يصدر عنه عليه السلام في مدة شهر واحد أو شهرين ، وحتى لو كانوا ثلاثة أشهر أو أزيد ، فإن ذلك يؤكد لنا حجم الكارثة التي لا نزال نعاني من أثارها ، وهي أن ما ضاع عنا ـ لأسباب مختلفة ـ لا يمكن أن يقدر بقدر ولا يقاس بما نعرف من أحجام…
وأين يقع ما أورده صاحب كتاب البحار ، وهو أضخم موسوعة حديثية مما فقدناه وأضعناه ؟! .
وها نحن لا نزال نجد الكثير الكثير من أحوال وأقوال أئمتنا متناثراً في ثنايا الكتب ، في كل ما يطبع وينشر من كتب التراث .
فهل يصح لأحد بعد هذا أن يبادر إلى نفي قضية ما لمجرد أنه لم يجد في عدد يسير من كتب التاريخ التي راجعها ذكراً لما يبحث له عن ذكر أو سند ؟! .

خامساً : الوثاقة لا تعني الصحة

وإذا رجعنا إلى أمهات الكتب ، وأصولها ، وهي كتب موثوقة ومعتمدة بلا ريب… فسوف نجد فيها الأحاديث المتعارضة التي لا شك في صحة أحـد أطرافها وكذب الطرف الآخر… وكذلك سنجد الأحاديث التي ثبت وقوع الإشتباه والغلط فيها من قبل الرواة… أو ثبت وقوع التصحيف والإسقاط ، والغلط فيها من قبل نساخها ، الذين تعاقبوا على نقلها عبر العصور والدهور…
فهل ذلك يعني : سقوط الكتاب ومؤلفه عن الإعتبار ، بحيث يسوغ لنا إتهام الؤلف بالوضع والإختلاق وإرتجال الأحداث ؟! .
وهل يصح هجر ذلك الكتاب ، وتجاهله ، وعدم الإكتراث به ، بحجة أنه كتاب محرف مشتمل على الدجل والتزوير ؟! .
إن ذلك سينتهي بنا ـ ولا شك ـ إلى التخلي عن كل ما سوى القرآن من كتب وتآليف ، والتخلي بالتالي عن كل السنة النبوية ، والإمامية التي سجلتها تلك المؤلفات ، بأمانة وإخلاص . وبحرص بالغ …
وذلك يلغي دور العلماء العاملين ، الذين لا بد أن يضطلعوا بدور الحامي والحافظ لهذا الدين وأن يعملوا على تنقية كل هذا الإرث الجليل من الشوائب ، وإبعاد كل ما هو مدسوس ، ومعالجة ما هو مريض ، وتصحيح ما هو محرف .

سادساً : الصحة لا تعني الوثاقة

وقد تجد في كتاب من عرف بإنحرافه وكذبه ، الكثير مما هو صحيح بلا ريب ، مما نقله لنا الأثبات ، واستفاض نقله في كتب الثقات . . بل قد تجده فيه تصريحات وإعترافات لم يستطع غيره الإعتراف بها ، بل هو عن ذلك أحجم . وفي كلامه غمغم وجمجم . لكن قد ضاق صدر هذا المعروف بالكذب وبالإنحراف فباح واعترف بها ، كما يعترف المجرم بجرمه ، ويقر المذنب ببوائقه ، ويعلن بما أسر من إثمه .
فهل يصح لنا أن نقول له : لا قيمة لإعترافك ، بل أنت بريء من جرمك ، منزه عما اعترفت به من إثمك ، ولا يجوز مؤاخذتك بما إقترفت ، ولا أخذك بما به أقررت ؟! .
خلط الحق بالباطل هدف المبطلين :
وعدا ذلك كله فإن خلط الحق بالباطل قد يكون هدفاً لدعاة الباطل ، فقد روى عن الإمام الباقر عليه السلام : أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة له : فلو أن الباطل خلص ، لم يخف على ذي حجى ولو أن الحق خلص لم يكن إختلاف . ولكن يؤخذ من هذا ضغث 4 ومن هذا ضغث ، فيخرجان فيجيئان معاً ، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم منا الله الحسنى 5 .
إن الإنصاف يفرض علينا القول : بأن فلاناً من الناس إذا كذب في قضية هنا ، أو في قول هناك ، فإن ذلك لا يسوغ لنا إطلاق الحكم بالكذب والإختلاق على كل أقواله ، وإن كان يفرض علينا درجة عالية من الحيطة والحذر في التعامل مع كل ما يصدر عنه .
وإن عدم وجدان مضمون بعض الروايات فيما توفر لدينا من مصادر لا يبرر لنا الحكم القاطع بنفي وجودها من الأساس ، مع إمكانية أن يكون ذلك النص مأخوذاً من تأليفات لم تصل إلينا .
فكيف ومن أين ثبت لصاحب كتاب الملحمة الحسينية “أن ما يذكره البعض عن ليلى في كربلاء مجرد مشهد عاطفي خيالي محض” ؟! .

سابعاً : ما ينكرونه كاف في الإحتمال

وهكذا يتضح أن نفس هذه المنقولات التي يريد صاحب كتاب الملحمة الحسينية تكذيبها صالحة لإدعاء وجود ليلى في كربلاء ، ما دام الحكم عليها بالكذب والإختلاق غير متيسر لأحد ، مع عدم وجود آية قرآنية تشير إلى ضد ذلك . ولغير ذلك من أسباب ذكرنا قسماً منها ، وسنذكر الباقي ، فيما سيأتي من صفحات .
مع ملاحظة عدم وجود أي مبرر لإتهام مؤلفي الكتب التي أوردت ذلك بأنهم كذابون ووضاعون … فضلاً عن إتهامهم بالتصدي لإختلاق ووضع خصوص هذه القضية .

ثامناً : المهتمون ينكرون

وقد رأينا كتاب الملحمة الحسينية يهاجم من يتهمهم برواية ما إعتقد أنه مكذوب ، مثل الكاشفي ، والدربندي ، والطريحي ، وصاحب الخزائن رحمهم الله تعالى بصورة قاسية وحادة ، حيث يتهمهم بالتزوير ، والكذب ، والخرافة ، وغير ذلك 6 .
ولكنه يمتدح ويطري من شاركوه في آرائه هذه ، وهاجموا أولئك كما هاجمهم ، وإتهموهم كما اتهمهم ، ويعتمد على أقوالهم ، فراجع : ما وصف به الشيخ النوري الذي يوافقه في الرأي هنا ، فإنه إعتبره رجلاً عظيماً ، متبحراً في العلوم بشكل فريد ، إلى غير ذلك من أوصاف فضفاضة أفرغها عليه 7 .
رغم أن الشيخ النوري رحمه الله هو الذي ألف كتاب “فصل الخطاب” الذي يتحدث فيه عن تحريف كتاب الله ، حيث خدعته أحاديث أهل السنة الواردة في هذا الخصوص . فراجع ما ذكرناه في أواخر كتابنا : حقائق هامة حول القرآن الكريم .
ورغم أن العلماء قد أثنوا ثناء عاطراً على هؤلاء الذين ذمهم المطهري ـ كما قيل ـ فقد أثنوا على الدربندي ، والطريحي وغيرهما ، ووصفوهم بالدين والورع ، والتقوى ، والإستقامة ، وهم قد عاشوا معهم وعاشروهم .
ولكنه هو يتهمهم بالكذب والإختلاق ، والتزوير والجهل ، وكأن القرآن هو الذي صرح له بأنهم قد قاموا هم بأعيانهم بممارسة هذا الإختلاق . والجعل الذي يدعيه عليهم!! وبإختراع ما رأى أنه هو من الأساطير!!
واللافت للنظر هنا : أننا نجد أن نفس الدربندي الذي يتعرض للإتهام ، وللتجريح ، ينكر على بعض القراء ذكرهم لبعض الغرائب دون أن يسندوها إلى كتاب ، ولا إلى ثقة من الرواة .
واللافت أيضاً : أنه رحمه الله قد ذكر ذلك وهو يتحدث عن أمور ترتبط بعلي الأكبر عليه السلام بالذات ، ثم هو يفندها ، أو يذكر ما يحل الإشكال فيها ، فراجع 8 .

تاسعاً : إحتضان ليلى إبنها في ساحة الوغى

والغريب في الأمر هنا : أن الشهيد العلامة المطهري فيما ذكره عنه مؤلف الملحمة الحسينية يقول : “إن ثمة قصة تتحدث عن إحتضان ليلى لإبنها علي الأكبر في ساحة الوغى ، والمشهد الخيالي المحض” وقد تحدث عن كثرة المآتم التي حضرها وقرأ فيها قراء العزاء هذه القصة بالذات” .
ونقول :
1 ـ إننا على كثرة مجالس العزاء التي حضرناها وسمعناها لم نسمع ولا مرة واحدة : أن ليلى قد إحتضنت إبنها في ساحة الوغى ، ولا نقله لنا أحد . ولا قرأناه في كتاب ، وذلك يفيد : أن ما سمعه رحمه الله إنما كان حالة خاصة محصورة بأشخاص بأعيانهم ، ولم يصبح جزءاً من تاريخ كربلاء يتداوله الناس أينما كانوا ، وحيثما وجدوا .
2 ـ كما أننا لم نسمع أي شيء عن ليلى مما يدخل في دائرة الخيال المحض . لا بالنسبة لليلى وهي في فسطاطها ، ولا بالنسبة لها حين كانت تلاحظ ولدها من بعيد وهو في ساحة الوغى !! .
فنحن نستغرب هذه الأقوال كما يستغربها ، ونرفضها كما يرفضها .
3 ـ البحث العلمي ، والدراسة والإستدلال ، والحديث ينبغي أن يتجه لمعالجة ما أصبح تاريخاً متداولاً ، يتلقاه الناس بالقبول والرضا ، لا أن يكون عن نزوات أشخاص منحرفين أو يعانون من عقدة ، فإن معالجة هذا النوع من الأمراض له مجالات وسبل أخرى تربوية وغيرها .

عاشراً : حتى لو كتم التاريخ

ولنفترض جدلاً ، أن ما قدمناه وكذلك ما سيأتي من دلائل وشواهد لا يكفي للقول بأن التاريخ قد صرح بحضور ليلى في كربلاء يوم العاشر من المحرم ، رغم أن أقل القليل منه يكفي للإشارة إلى وجود هذا القول .
غير أننا نقول : إن عدم ذكر التاريخ لذلك ـ لو صح ـ فإنه لا يكون سنداً للنفي من الأساس إذ أن التاريخ قد سجل لنا أسماء عدد من الذين حضروا تلك الواقعة نساء ورجالاً وأطفالاً… ولكنه عجز عن ذكر أسماء الكثيرين الآخرين منهم ، بل أهمل ذكر أسماء الأكثرية الساحقة في وقائع مختلفة ، كحنين ، وخيبر ، وصفين ، والجمل ، والنهروان .
فهل ذلك يعني : أن من لم يصرح التاريخ بإسمه لم يكن حاضراً في تلك الوقائع ، بحيث يجوز لنا نفي حضوره بشكل بات ، وقاطع ، ونهائي ؟ .
إننا لا نظن أن أحداً يستطيع أن يلتزم بهذا الأمر ، وهو يعلم : أن ذلك يستبطن فتح المجال لإنكار مختلف حقائق التاريخ ، وإرتكاب جريمة تزوير كبرى لا يجازف عاقل بالإقدام عليها في أي من الظروف والأحوال .

التضحية والجهاد ودعاء ليلى لولدها

ليلى تنشر شعرها للدعاء

وقد ذكر صاحب كتاب الملحمة الحسينية أن الشهيد السعيد العلامة الشيخ مرتضى مطهري رحمه الله ، قد قال وهو يعدد التحريفات التي لحقت بواقعة كربلاء :
” قضية حضور ليلى في كربلاء ، والإدعاء بأن الحسين قد أمرها أن ترجع إلى إحدى الخيم ، وتنشر شعرها ، بعد أن خرجت من المخيم ” 9 .
ويقول رحمه الله : إنه حضر مجلساً حسينياً سمع فيه : “أن علياً الأكبر نزل إلى ساحة الوغى ، وإذ بالحسين يتوجه إلى أمه ليلى ، ويطلب منها الدخول إلى إحدى الخيم ، ونثر شعرها ، والتوجه إلى ربها بالدعاء ، ليرجع إبنها سالماً إليها ، فإني سمعت جدي رسول الله (ص) يقول : بأن دعاء الأم بحق ابنها مستجاب ، فهل هناك تحريف ، أكثر من هذا ؟! .
أولاً : ليس هناك ليلى في كربلاء ، حتى يحدثها الإمام .
ومن ثم ثانياً : هل هذا هو منطق الحسين في المعركة ؟! أبداً ، فمنطق الحسين يوم عاشوراء كان منطق التضحية والجهاد .
ثم أن كل المؤرخين متفقون على أن الحسين كان يجد الأعذار لكل من يطلب التوجه إلى المبارزة ، ما عدا ابنه علي الأكبر ، فإنه لما استأذنه بالقتال أذن له كما تذكر كل الروايات “فاستأذن في القتال أباه فأذن له” 10 .
ولكن رغم ذلك : “ما أكثر الأشعار التي نظموها بحق ليلى وابنها في خيم كربلاء ” 11 .
ونقول :

إن لنا على هذا الكلام عدة ملاحظات ، نشير إليها فيما يلي

أولاً : الزهراء ، وكشف الرأس للدعاء

قد ورد أن الزهراء عليها السلام قد هددت الذين إعتدوا على مقام أمير المؤمنين عليه السلام ، وحملوه إليهم رغماً عنه ليبايع ـ هددت ـ بأن تكشف رأسها وتدعو عليهم 12 .
ومن الواضح أن كشف رأسها لن يكون أمام الرجال الأجانب ، بل في بيتها وفي داخل خدرها .

ثانياً : الحسين (ع) لم يطلب من ليلى شيئاً

ليس في الرواية : أن الإمام الحسين عليه السلام قد طلب من ليلى : أن تدخل إلى الفسطاط وتنشر شعرها وتدعو .
بل فيها : أنه عليه السلام قد أمرها بالدعاء ، وأخبرها بقول النبي (ص) حول أن دعاء الأم مستجاب في حق ولدها ، فجردت رأسها ـ وهي في الفسطاط ـ ودعت له 13 .
ويستنكر الشهيد المطهري ذلك حسبما ذكره عنه صاحب الملحمة الحسينية فيقول : “فهل هناك تحريف أكثر من هذا ؟” .
ونحن بعد أن ظهر أنه لم يلتفت إلى السياق السليم للرواية ، ولم يوردها على سياقها الحقيقي ، نقول له نفس هذا القول : “فهل هناك تحريف أكثر من هذا ؟!!” .
اللهم إلا أن يبرئ مؤلف هذا الكتاب نفسه من هذه المؤاخذة ، على أساس أنه لا يتحدث عما ورد في الرواية ، وإنما هو يتحدث عن تحريف ذلك الخطيب لها .

ثالثاً : إستجابة دعاء ليلى والتضحية والجهاد

وغني عن القول : إن إستجابة الله سبحانه دعاء أم علي الأكبر ، بعد أن أمرها الإمام الحسين عليه السلام بالدعاء لولدها ، وإرجاع ولدها إليها لا يتنافى مع التضحية والجهاد ـ كما يريد الشهيد السعيد العلامة المطهري رحمه الله أن يقوله ، وفقاً لما نسب إليه .
وذلك لأن إستجابته سبحانه وتعالى لها بإرجاع ولدها إليها لفترة وجيزة ـ ثم عودته بعد ذلك لمواصلة كفاحه ، ثم إستشهاده ، لا يدل على أن الإمام الحسين عليه السلام قد رغب في بقاء ولده حياً من بعده ، وأنه قد ضن به على الموت في ساحة الجهاد ، فإن تأخير إستشهاده ساعة من نهار ، إنما هو من أجل أن يثلج بذلك صدر والدته ، بعودته إليها سالماً من إحدى جولاته ومعاركه ـ وليكون إستشهاده بعد ذلك أهون عليها ، لما تمثله إستجابة دعائها من دلالة يقينية على عناية الله سبحانه بهم ، وما يعطيه ذلك لها من ثقة بالله ، وطمأنينة ورضى بقضائه ، وما يهيؤه للصبر الجميل على تحمل بلائه جل وعلا .
وليكن توجيهها الحسيني نحو الدعاء لطلب عودة ولدها منسجماً مع مسارعته عليه السلام للإذن لولده باقتحام ساحة الجهاد . دون أدنى تعلل أو تردد في ذلك .

رابعاً : الإجماع التاريخي المزعوم

1 ـ لا ندري كيف إستطاع العلامة الشهيد أن يتبين وجود إجماع وإتفاق من كل المؤرخين على أنه عليه السلام لم يحاول أن يجد أي عذر لولده علي الأكبر ، حينما إستأذنه بالبراز . إن صح نسبة ذلك إليه .
فإن مجرد عدم ذكر المؤرخين لذلك ـ وإكتفاؤهم بعبارة : “إستأذن فأذن له” ليست صريحة في إجماعهم على أن شيئاً من ذلك لم يحصل ، فإن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدم حصوله ، وها نحن نرى كيف أن المؤرخين يختلفون في إيراد الخصوصيات المختلفة للوقائع التي يسجلونها ، فيذكر أحدهم خصوصية يهملها الآخر وبالعكس . وما ذلك إلا لأجل ما ذكرناه .
2 ـ هل استطاع الشهيد مطهري ، أو غيره من العلماء أن يسبر كل ما كتبه العلماء ، والمحدثون والمؤرخون عن أحداث عاشوراء ؟! .
3 ـ لربما يكون الناقل لهذه الخصوصية ، من المشاهدين للأحداث من بعيد ، ولم يتسن له أن يسمع الكلمات التي دارت بين الوالد وولده بدقة فنقل ذلك على سبيل الإجمال .

خامساً : التفاوت والإختلاف في النقل

ونجد أن ما نقله رحمه الله عن قارئ العزاء في ذكره لتفاصيل هذه القضية يختلف عما سجله المؤلفون في كتبهم .
ولعل العلامة الشهيد رحمه الله تعالى لم يراجع تلك المؤلفات ليطلع على النص الدقيق للقضية .
أو لعله قد ذهل ـ وهو ينقل عن حفظه ـ عن بعض الخصوصيات فقد ذكروا : أن الحسين عليه السلام كان يراقب جهاد ولده . وكانت أمه ليلى تنظر في وجه الحسين ، فبرز إليه رجل اسمه بكر بن غانم ، فتغير وجهه عليه السلام ، فرأته ليلى فبادرت إلى سؤاله عن سبب ذلك ، وهل أن ولدها أصابه شيء ؟! .
فأجابها : “لا ولكن قد برز إليه من يخاف عليه منه ، فادعي لولدك علي ، فإني قد سمعت من جدي رسول الله (ص) : أن دعاء الأم يستجاب في حق ولدها ، فجردت رأسها ، وهي في الفسطاط ، ودعت له إلى الله عز وجل بالنصر عليه” .
وقال : وجرى بينهما حرب شديد ، حتى إنخرق درع بكر بن غانم من تحت إبطه فعاجله علي بن الحسين بضربة قسمه نصفين 14 .

لأزرعّن طريق التفت ريحانا

الشعر المختلق

ويقول الشهيد العلامة المطهري رحمه الله ، كما ورد في الملحمة الحسينية وهو يتحدث عما سمعه في مجلس آخر في طهران : إن القارئ أضاف إلى مقولة : إن ليلى توجهت إلى الخيمة ونثرت شعرها ، بناء على طلب الحسين : “أنها نذرت أيضاً زرع الطريق من كربلاء إلى المدينة بالريحان ، إذا ما استجاب الله تعالى دعاءها وأرجع لها إبنها سالماً من المعركة!! أي أنها ستزرع طريقاً طوله ثلاثمائة فرسخ بالريحان!! قال القارئ ذلك ثم راح ينشد ويقول :
نذر علي لئن عادوا وإن رجعوا *** لأزرعن طريق التفت ريحانا
لقد ذهلت لما سمعت ، وزاد تعجبي من هذا البيت من الشعر العربي ، وصرت أسأل نفسي من أين جاء وسط هذه التعزية ؟! ثم ذهبت أبحث في بطون الكتب ، وإذا بي أجد بأن ـ التفت ـ هي منطقة غير منطقة كربلاء أولاً .
ثم أن بيت الشعر كله لا علاقة له بحادثة عاشوراء ، لا من قريب ولا من بعيد ، بل أنه نظم على لسان مجنون ليلى العامري وهو ينتظر ليلاه التي كانت تقيم في هذه الناحية .
وإذا بقراء التعزية صاروا يقرأونه على لسان ليلى أم علي الأكبر ، وحرفت التفت إلى طف كربلاء وواقعة عاشوراء .
تصوروا لو أن مسيحياً أو يهودياً أو ملحداً كان حاضراً في مثل هذا المجلس ، ألا تنتظرون منه أن يقول : ما هذه الترهات التي تشوب تاريخ هؤلاء القوم ؟!
إنه لن يقول بأن قراء التعزية قد إختلقوا مثل هذه القصص من عندياتهم . بل إنه سيقول والعياذ بالله : ما أحمق نساءهم اللواتي ينذرن زرع الريحان من كربلاء إلى المدينة ، فما هو معنى هذا الكلام 15 .

ويقول أيضاً وهو يتحدث عن ليلى في كربلاء

“والشعر المختلق على لسانها :
نذر علي لئن عادوا وأن رجعوا *** لأزرعن طريق الطف ريحاناً ” 16
ونقول :

إن لنا مع هذا الكلام وقفات نوردها ضمن النقاط التالية

أولاً : الشعر والمبالغة

إن من الواضح : أن من أهم مظاهر الشعر وميزاته ، هو إستخدام أسلوب المبالغة فيه ، وإطلاق عنان الخيال للتجوال في الآفاق الرحبة ، وليقتنص من هنا وهناك صوراً جمالية فاتنة رائعة .
ولنأخذ مثالاً توضيحياً على ما نقول : موضوع التشبيه وهو أبسط ما ينحو إليه الشاعر والناثر على حد سواء ، فإذا وجدنا الشاعر يشبه رجلاً بالأسد في قوته وشجاعته وإقدامه ، أو يشبهه بالجبل الأشم ، في ثباته ، وشموخه وعظمته ، فإنه يفعل ذلك دون أن يخطر له على بال ما للأسد من أنياب ولبد ، وهيئات ، وحالات ، أو ما في الجبل ، من شجر وحجر ، وتراب ، ومسارب ، وشعاب .
وهذا يوضح أن القصد من ذكر زراعة طريق الطف بالريحان ليس هو إنشاء نذر شرعي بالقيام بزراعة حقيقية لهذا الطريق ، وإنما المراد تصوير مدى الحرص على رجوع ذلك الولد الحبيب والغالي إلى أحضان والدته ، ومدى تلهفها لرؤيته ، وحقيقة الأسى الذي تعاني منه جراء فراقه .
وهو أمر تستحق لأجله الإحترام والإكبار بلاشك .
وإن من مظاهر كمال المرأة أن تملك هذه العاطفة النبيلة والجياشة ، ولن يستطيع أحد أن يصفها بالحمق ولا بغيره من أوصاف السوء ، مهما كان إنتماؤه الديني ، وأياً كانت نظرته الإيمانية والعقائدية …

ثانياً : التفت إسم مكان

ويا ليت صاحب كتاب الملحمة الحسينية قد ذكر لنا المصدر الذي إعتمد عليه حين قال : إن “التفت” هو إسم المكان الذي كان يقيم فيه بنو عامر بن صعصعة … فإن كلمة “التفت” لم نجدها فيما بأيدينا من كتب الجغرافيا ، والبدان ، واللغة ، والتاريخ ، والأدب التي تحدثت عن بني عامر ومساكنهم ومنازلهم .
ولا ندعي أننا قد إستقرأناها جميعاً ، بل إننا نقول إن إطلاعنا على المصدر يعطينا الفرصة لمحاكمة هذه المقولة وللبحث في مدى صحة الإعتماد عليها . وبدون ذلك فإنها تكون دعوى تبقى عهدتها على مدعيها ، وهي حجة عليه ، ولا تلزم الآخرين بشيء … خصوصاً مع إحتمال أن يكون رحمه الله قد إستفاد ذلك بطريقة إجتهادية مما يذكره المؤرخون حول مساكن بني عامر بن صعصعة ، وهم قوم قيس بن الملوح .
فقد قال عمر رضا كحالة : “كانوا كلهم بنجد ، ثم نزلوا ناحية من الطائف ، مجاورين لعدوان أصهارهم ، فنزلوا حولهم…” إلى أن قال : “فكانت بنو عامر يتصيفون الطائف لطيبها وثمارها ، ويتشتون بلادهم من أرض نجد لسعتها ، وكثرة مراعيها ، وإمراء كلئها ، ويختارونها على الطائف 17 . وفي نصوص أخرى : أنهم كانوا بذي سلم ، وهو واد منحدر على الذنائب ، والذنائب في أرض بني البكاء على طريق البصرة إلى مكة 18 وذلك لقول مجنون بني عامر :
أيا حرجات الحي حيث تحملوا *** بذي سلم لا جادكن ربيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى *** بلـين بلى لم تبلهن ربوع 19
وقيل : إن ليلى تـزوجت في ثقيف 20 .
وقيل بل تزوجها ورد العقيلي 21 .
وذكروا أيضاً أن ليلى كانت تنزل بجبلي نعمان ، وهما جبلان قرب مكة ، وقد قال قيس بن الملوح في ذلك :
أيا جبلي نعمان بالله خليَّا *** سبيل الصبا يخلص إليَّ نسيمها 22
ونحتمل أن يكون صاحب كتاب الملحمة الحسينية قد أخذ كلمة “التفت” من كلمة “التوباد” على أن يكون قد قسم هذه الكلمة إلى قسمين أحدهما كلمة “التو” والفارسي يلفظ الوأو كالفاء ، فتصير “التف” والأخرى كلمة “باد” ، التي تعني بالفارسية “الهواء” وكلمة “تو” بمعنى داخل .
لكن إضافة التاء الثانية تبعد هذا الإحتمال ، وتقرب احتمالاً آخر ، وهو أن يكون الأصل : (تفت باد) فكلمة : “تفت” تعني بالفارسية الحرارة ، فلعله رحمه الله قد إعتبر أن المراد من الكلمتين هو “الهواء الحار” في إشارة إلى حرارة تلك المنطقة التي سميت بهذا الإسم . وأن تركيب الكلمتين (تفت باد) مع بعضهما البعض ، وإعطائهما طابع اللغة العربية قد إقتضى إسقاط التاء الثانية ، فصارت الكلمة هكذا : “التوباد” .
نقول ذلك على أساس أن بني عامر كانوا يسكنون قرب جبل التوباد في نجد ، وقد قال مجنون بني عامر قيس بن الملوح :
واجهشت للتوباد حين رأيـته *** وكبر لـلـرحمـان حين رآني
وأذريت دمع العين لما رأيتـه *** ونادى بـأعـلى صوته فدعاني
فقلت له قد كان حولك جيرة *** وعهدي بذاك الصرم منـذ زمان
فقال مضوا إلخ . 23 !

ثالثاً : التمثل بالشعر

ولنفترض : أن هذا الشعر قد جاء للتعبير عن حالة مجنون بني عامر مع ليلاه ، فما المانع من أن يكون قد إستعاره من ليلى أم علي الأكبر على سبيل التمثل به ، لمطابقته لحاله وإنسجامه مع تطلعاته ، وتعبيره عن آلامه وآماله .
ولعله لأجل هذا الغرض بالذات تصرف في كلمة من الشعر فأبدلها بأخرى ـ لو صح ما ذكروه : من إبدال كلمة : “الطف” بكلمة “التفت” .
فكما يمكن أن يكون قراء العزاء هم الذين أبدلوا هذه الكلمة ، كذلك يمكن أن يكون الذي أبدلها هو مجنون بني عامر نفسه .
خصوصاً إذا علمنا أن قيس بن الملوح كان معاصراً لليلى أم علي الأكبر ، حيث كان يعيش في زمن يزيد لعنه الله وابن الزبير 24 .
وعند ابن الجوزي : إنه توفي سنة سبعين للهجرة 25 وعند ابن تغري بردى أنه توفي في حدود سنة 65 وقيل في سنة 68 هـ 26 .

رابعاً : الإستعانة أو الإيداع

وقد يكون قيس بن الملوح أو غيره قد أورد هذا البيت في قصيدته على سبيل التضمين سواء قصد به الإيداع أو الإستعانة والإيداع هو أن يودع الناظم شعره بيتاً من شعر غيره أو نصف بيت ، وبعد أن يوطئ له توطئةً تناسبه بحيث يظن السامع أنه جزء من شعره .
فلعل قيس بن الملوح قد أدخله في شعره على سبيل الإستعانة أو الإيداع فإن ذلك شائع في شعر العرب 27 .

خامساً : لسان الحال طريقة تعبير مألوفة

بل ما الذي يمنع من أن يكون قراء العزاء الحسيني قد أوردوا هذا الشعر على طريقة “لسان حال ليلى” ، لكن بعض من سمعه ، قد ظن أنه ينسبه إليها على سبيل الحقيقة ، وأنها هي التي قالته أو نظمته .

سادساً : الشك في المجنون وفي شعره

واللافت للنظر هنا أمران ، كل واحد منهما يجعلنا نرجح أن هذا الشعر قد نسب إلى مجنون ليلى أو مجنون بني عامر على سبيل الإدعاء والتزوير ، وهذان الأمران هما :
الأول : إن أصل وجود المجنون موضع شك .
الثاني : إن شعره المنسوب إليه كله مولد عليه ، أو اكثره ، وللتدليل على ذلك نشير إلى روايات عديدة دلت على ذلك :
ونقتصر على ما ورد في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، ومن أراد المزيد من المصادر فعليه بمراجعة كتب الأدب والتراجم وغيرها . والنصوص التي إخترناها هي التالية :
1 ـ أيوب بن عبابة يقول : سألت بني عامر بطناً بطناً عن مجنون بني عامر فما وجدت أحداً يعرفه 28 .
2 ـ وعن ابن دأب أنه سأل أحد بني عامر عن وجود المجنون فأنكر وجوده وقال : هيهات بنو عامر أغلظ أكباداً من ذاك . إنما يكون هذا في اليمانية الضعاف قلوبها . . إلخ 28 .
3 ـ وعن الأصمعي : “رجلان ما عرفا في الدنيا قط إلا بالإسم . مجنون بني عامر ، وإبن القرية وإنما وضعهما الرواة” 29 .
4 ـ وهناك إختلاف كثير في إسم المجنون ونسبته فراجع 30 .
5 ـ وعن عوانة أنه قال : المجنون إسم مستعار لا حقيقة له . وليس له في بني عامر أصل ولا نسب ، فسئل من قال هذه الأشعار ، قال : فتى من بني أمية 31 .
6 ـ عن ابن الأعرابي : أنه ذكر عن جماعة من بني عامر أنهم سئلوا عن المجنون فلم يعرفوه ، وذكروا أن هذا الشعر كله مولد عليه 31 .
7 ـ عن ابن الكلبي قال : حدثت أن حديث المجنون وشعره وضعه فتى من بني أمية كان يهوى إبنة عم له ، وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها فوضع حديث المجنون وقال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون ونسبها إليه 32 .
8 ـ وعن أيوب بن عباية : أن فتى من بني مراون كان يهوى أمرأة منهم فيقول فيها الشعر وينسبه إلى المجنون ، وأنه عمل له أخباراً ، وأضاف إليها ذلك الشعر ، فحمله الناس وزادوا فيه 33 .
9 ـ وقال الجاحظ : “ما ترك الناس شعراً مجهول القائل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون” 34 .
10 ـ عن عوانة قال : ثلاثة لم يكونوا قط ولا عرفوا : ابن أبي العقب صاحب قصيدة الملاحم ، وابن القرية ومجنون بني عامر 34 .
11 ـ الأصمعي : الذي ألقى على المجنون من الشعر وأضيف إليه أكثر من ما قاله هو 35 .
ويقول أبو الفرج : إن أكثر الأشعار المذكورة في أخباره نسبها بعض الرواة إلى غيره وينسبها من حكيت عنه إليه وإذا قدمت هذه الشريطة برئت من عيب طاعن ومتتبع للعيوب 35
وكل ذلك يرجح : أن تكون نسبة هذا الشعر إلى المجنون ، قد جاءت على سبيل التزوير والإفتعال كما هو الحال في كثير مما نسب إليه .
وإن الأرجح هو سرقة هذا البيت من صاحبه الأصلي ، وهو ام علي الأكبر رحمها الله ، ثم التصرف فيه ، ثم نسبته إلى أخر هو المجنون ، أو شخص آخر رأوه أولى به ، لما يتضمن من حكايته لحاله أو لحالهم . إن كان المجنون شخصية وهمية صنعها رجل من بني أمية للتستر وراءها .

شواهد تضاف إلى ما سبق

ليلى واقفة بباب الفسطاط

وأخيراً فإننا نجد في النصوص الواردة في الكتب المعتبرة ما يفيد حضور ليلى في كربلاء فيقول البعض : “ورد في بعض الكتب المعتبرة : فقاتل علي بن الحسين حتى قتل : وكانت أمه واقفة بباب الفسطاط تنظر إليه” 36 .
ويقول إبن شهراشوب رحمه الله :
“ثم تقدم علي بن الحسين الأكبر ، وهو ابن ثماني عشرة سنة ، ويقال : إبن خمس وعشرين ، وكان يشبه برسول الله (ص) خَلقاً ، وخُلقاً ونطقا ، وهو يرتجز ويقول :
أنا علي بـن الحسين بن علي *** مـن عصبة جد أبيهم النبي
نحن وبيـت الله أولى بالوصي *** والله لا يحكم فينا إبن الدعي
أضربكم بالسيف أحمي عن أبي *** أطعنكم بـالرمح حتى ينثني
طـعـن غـلام هـاشمي عـلـوي
فقتل سبعين مبارزاً ، ثم رجع إلى أبيه ، وقد أصابته جراحات ، فقال : يا أبه ، العطش ، فقال الحسين : يسقيك جدك فكر عليهم أيضاً وهو يقول :
الحرب قد بانت لها حقائق *** وظهرت من بعدها مصادق
والله رب العرش لا نفارق *** جمعكـم أو تغمـد البوارق
فطعنه مرة بن منفذ العبدي على ظهره غدراً ، فضربوه بالسيف . فقال الحسين : على الدنيا بعدك العفا .
وضمه إلى صدره ، وأتى به إلى باب الفسطاط ، فصارت أمه شهر بانويه ولهى تنظر إليه ولا تتكلم .
فبقي الحسين وحيداً ، وفي حجره علي الأصغر ، فرمي إليه بسهم ، فأصاب حلقه إلخ 37 .

مناقشة وردها

لكن الملاحظ هو أن هذا النص يذكر أن أم علي الأكبر الشهيد في كربلاء ليست هي ليلى بنت أبي مرة .
وإنما هي أم ولد أسمها شهربانويه” .
وهذا يتوافق مع ما رواه أبو الفرج حيث قال : “وقال يحي بن الحسن العلوي : وأصحابنا الطالبيون يذكرون : أن المقتول لأم ولد ، وأن الذي أمه ليلى هو جدهم . حدثني بذلك أحمد بن سعيد عنه 38 .
والمراد بجد الطالبيين هو الإمام السجاد عليه السلام كما هو واضح .
وفي نص آخر : أمه آمنة ، أو ليلى بنت أبي مرة 39 .
وفي نص آخر : أسمها : برة بنت عروة بن مسعود 40 .
وهذا الاختلاف لا يضر في المقصود ، من أنها رحمها الله كانت حاضرة في كربلاء .
وفقاً لهذا النص الذي أوردناه ، أو أن ذلك هو الظاهر منه على أقل تقدير . مع أننا نحتمل قوياً : أن تكون ليلى هي أم علي الأكبر ، وأن شهربانويه لقب لها . . فعبر أحدهم عنها باسمها ، والآخر عبر بلقبها . واشتبه الأمر على فريق ثالث حين لم يفرق بين الإسم واللقب فتوهم التنافي والتضاد . فما ذكر في كتاب الملحمة الحسينية .
فما ينسب إلى الشهيد مطهري من نفي حضورها في كربلاء بشدة وبحدة يصبح في غير محله . ولا يساعد عليه الدليل ولا يعضده البرهان .
واثمرة فؤاداه :
ويقولون : إنه لما قتل علي الأكبر “قال حميد بن مسلم : فكأني أنظر إلى أمرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة ، تنادي بالويل والثبور ، وتقول : يا حبيباه! يا ثمرة فؤاداه! يا نور عيناه! .
فسألت عنها : فقيل : هي زينب بنت علي . وجاءت وانكبت ، عليه فجاء الحسين عليه السلام فأخذ بيدها فردها إلى الفسطاط 41 .
فالتعبير بـ ” واثمرة فؤاداه” يشير إلى أنها إنما تندب ولدها وليس ابن اخيها ، لأن هذا التعبير إنما يستعمل للتعبير عن النسل ، قال الزبيدي :
” ومن المجاز “الولد” : ثمرة القلب . وفي الحديث : إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته ” قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم .
قيل للولد : ثمرة ، لأن الثمرة ما ينتجه الشجر ، والولد نتيجة الأب .
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : ونقص في الأموال والأنفس والثمرات : أي الأولاد والأحفاد ، كذا في البصائر 42 .
وقد تكرر هذا التعبير في العديد من النصوص ، التي أوردها نقلة هذا الخبر ، فراجع 43 .
وا ولداه :
1 ـ وبعد ما تقدم كله … فإننا نجد نصاً يكاد يكون صريحاً في حضور والدة علي الأكبر لواقعة الطف ، لولا وجود حالة إشتباه في الأشخاص ، لعلها ناشئة عن عدم معرفة من حضر الوقعة بهم على نحو التحديد …
فقد أورد الطريحي رحمه الله نصاً يقول :
” قال من شهد الوقعة : كأني أنظر إلى أمرأة خرجت من فسطاط الحسين ـ وهي كالشمس الزاهرة ـ تنادي :
وا لداه وا قرة عيناه! .
فقلت : من هذه ؟ .
قالوا : زينب بنت علي 44 .
2 ـ و”ذكر الشيخ مهدي المازندراني ، عن محمد الأشرفي المازندراني : أنه لما قتل علي الأكبر خرجت ليلى حافرة (الصحيح : حافية أو حاسرة) حائرة ، مكشوفة الرأس ، تنادي :
واولداه ! واولداه! 45 .
3 ـ “وروي أن زينب خرجت مسرعة ، تنادي بالويل والثبور ، وتقول : يا حبيباه! يا ثمرة فؤاداه! يا نور عيناه! .
واولداه! واقتيلاه! واقلة ناصراه! واغربتاه! وا مهجة قلباه!
ليتني كنت قبل اليوم عمياء ، وليتني وسدت الثرى .
فجاءت وانكبت عليه ، فبكى الحسين عليه السلام رحمة لبكائها ، وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون .
وجاء وأخذ بيدها فردها إلى الفسطاط 43 .
4 ـ “روى أبو مخنف ، عن عمارة بن راقد ، قال : إني نظرت إلى أمرأة قد خرجت من فسطاط الحسين ، كأنها البدر الطالع ، وهي تنادي : واوالده 46 وا مهجة قلباه! يا ليتني كنت هذا اليوم عمياء ، وكنت وسدت تحت أطباق الثرى 47 .
5 ـ وفي رواية عن عبد الملك قال : كنت أسمعه وإذ قد خرجت من خيمة الحسين عليه السلام امرأة كسفت الشمس من حياها 48 وتنادي من غير شعور ، واحبيباه ، وابن أخاه ، حتى وصلت إليه فانكبت عليه ، فجاءها الحسين (ع) فستر وجهها بعباءة حتى أدخلها الخيمة ، فقلت لكوفي : من هذه ؟ أتعرفها ؟!
قال : نعم هذه زينب أخت الحسين (ع) 49 .

وقفات

ولنا مع الروايات الآنفة الذكر وقفات :

الوقفة الأولى : كالبدر الطالع

قد صرحت الروايات التي ذكرناها آنفاً ، وجميع الروايات التي لم نذكرها .
( وهي التي تقول : أنها خرجت وهي تقول : وا ابن اخاه… ) .
نعم . . أنها جميعاً ـ تقريباً ـ صريحة بأن التي خرجت من الخيمة قد كانت مكشوفة الوجه ، وأنها كالشمس…
ومن الواضح : أن زينب العقيلة لم تكن لتكشف وجهها ، وهي التي نعت على يزيد في خطبتها الشهيرة : سوقه بنات رسول الله (ص) من بلد إلى بلد قد أبديت وجوههن ، فهي تقول :
“أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله (ص) سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، يستشرفهن أهل المناهل والمناقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ” 50 .
كما أن ابن الجوزي قد تعجب من أفاعيل يزيد التي منها ضربه ثنايا الحسين عليه السلام بالقضيب ، “وحمله آل الرسول (ص) سبايا على أقتاب الجمال ، موثقين في الحبال ، والنساء مكشفات الوجوه والرؤوس . وذكر أشياء من قبيح ما إشتهر عنه” 51 .

الوقفة الثانية : إحتمال إشتباه الراوي

إن الرواية تصرح بأن حميد بن مسلم لم يكن يعرف زينب العقيلة ، فسأل عن المرأة التي رآها فأخبروه أنها زينب .
والظاهر أن المجيبين كانوا أيضاً لا يعرفون زينب العقيلة ، فأطلقوا كلامهم ، وقبله منهم حميد بن مسلم ذاهلاً هو الآخر عن حقيقة الأمر ، أو غير مصدق له لكنه لم يشأ الإعتراض عليه .
والدليل على ما نقوله هو أن زينب الحوراء كانت مخدرة ومحجوبة عن نظر الناس إليها ، فكيف يمكن أن يعرفها أفراد ذلك الجيش المشؤوم من مجرد رؤية وجهها ، إن كان قد انكشف ، فإن وجوه المخدرات لم تكشف إلا بعد إستشهاد الإمام الحسين (ع) ، وسبي العيال و الأطفال ، مع أنها لم تكن لتكشف وجهها باختيارها أمام ذلك الجيش في أي من الظروف والأحوال .
ولعل إطلاق إسم زينب في الجواب إنما هو بسبب أن اسمها كان هو المعروف المتداول لدى الجميع …
سؤال وجوابه :
غير أن سؤالاً آخر قد يلح بطلب الإجابة عليه هنا هو : أنه إذا كان ذلك هو معنى كلمة : “وا ثمرة فؤاداه” وكذلك الحال إذا كانت قد قالت : واولداه ، فكيف توهم ذلك المسؤول أنها زينب ، وكيف قبل منه سائله هذا الجواب ، وهما يعلمان : أن المقتول هو ابن الحسين . وأن زينب هي أخت الحسين ، فلا يعقل أن يكون المقتول ولدها .
ويمكن أن يجاب عن ذلك :
أولاً : إنه ليس في كلامه ما يدل على قبوله ورضاه بذلك الجواب ، وإن كان قد سكت عنه فلعله أهمل الإعتراض عليه لعلمه ـ من خلال ـ هذه الإجابة بالذات ـ بجهله بتلك المرأة ـ وأنه إنما يردد اسماً سمعه كالببغاء ، ولم يكن المقام مقام جدال وأخذ ورد ، فإن الأمر أعجل من ذلك .
ثانياً : لعل المجيب لم يسمع ما قالته تلك المرأة في ندبها لقتيلها ، فأرسل كلامه على عواهنه ، لأنه ـ ربما ـ لم يكن يُعرف في حرم الحسين إلا من إسمها زينب أخته عليه السلام .
وبالنسبة لكشف وجهها فلا يبعد أنه لم يكن يعرف أن شأن السيدة زينب يجل عن أن تكشف وجهها أمام الملاء ، وربما كان يقيس الأمور على نفسه وعلى أمثاله من الفسقة والفجرة الذين لا يرجعون إلى دين ولا ينتهون إلى وجدان…
هذا كله . . إن لم نسوغ لأنفسنا إحتمال التحريف والسهو من قبل نقلة هذه الأخبار… وقديماً قيل : ما آفة الأخبار إلا رواتها…

الوقفة الثالثة : الجمع بين الروايات

وقد يقال : إن نص هذه الرواية مضطرب ، بحسب نقلته فتارة تجد النص يقول : إنها قالت : وا إبن أخاه ، وآخر يقول : إنها كانت تقول : واولداه ، واثمرة فؤاداه …
مع تصريح ابن شهرا شوب بأن أم علي الأكبر كانت واقفة بباب الخيمة حين إستشهاد ولدها .
والجواب :
أننا إذا أردنا الجمع بين نصوص هذه الرواية ، فمن الممكن لنا أن نقول : إن زينب عليها السلام قد خرجت وكانت تصيح : وا إبن أخيّاه .
وأن أم علي الأكبر أيضاً قد خرجت وهي تصيح : واولداه ، واثمرة فؤاداه .
فلعل هذا الراوي تحدث عن هذه ، وذاك تحدث عن تلك ، ولعله أيضاً قد خلط في حديثه بين المرأتين فنسب كشف الوجه إلى الحوراء زينب ، مع أن التي كشفت وجهها هي الأخرى قد خرجت مثلها ، وإنما كشفت تلك وجهها بسبب فقد السيطرة على نفسها لهول الكارثة .

الوقفة الرابعة : الزيادة والنقيصة لا تضر

وقد يقال : قد وجدنا نصاً يثبت هذه الرواية بصورة مفصلة وآخر يثبتها بصورة مختصرة . : وذلك يعني وجود كذب في الرواية فلا يمكن الإعتماد عليها .
والجواب :
إن من الواضح : أن إختلاف النص في زيادة بعض الكلمات لا تضر ، فإن النصين المثبتين لا يدخلان في دائرة التعارض ، أو إن إحدهما قد تعلق غرضه بالإختصار أو النقل بالمعنى وما إلى ذلك .
وتعلق غرض الآخر بالتفصيل والتطويل .

كانت ليلى على قيد الحياة

قد تقدم أن المحقق التستري يقول : لم يذكر أحد من أهل السير المعتبرة حياة أمه 52 يوم الطف ، فضلاً عن شهودها” 53 .
ويفهم من المجلسي أيضاً أنه ينفي أن تكون أمه يوم عاشوراء على قيد الحياة ، ويقول : إن ذلك قد ظهر له من الروايات المعتبرة . فراجع كلامه 54 .
ونقول :
ألف : إن جميع ما تقدم يدل على أنها كانت لا تزال على قيد الحياة بل لقد حكى بعض بأنه قال الراوي : كنت أطوف في سكك المدينة ، وأنا على ناقة لي ، حتى أتيت دور بني هاشم ، فسمعت من دار رنة شجية ، وبكاء حنين ، فعرفت أنها إمرأة ، وهي تبكي وتنوح ، وتبكي كالمرأة الثكلى” .
ثم يذكر أنه سأل جارية عن الدار وصاحبها ، فأخبرته أنها دار الحسين عليه السلام ، وأن الباكية هي ليلى أم علي الأكبر لم تزل تبكي ابنها ليلاً ونهاراً 55 .
وفي المقابل لا توجد فيما بين أيدينا أية رواية تدل على أنها قد ماتت ، ولذلك لم يستطع النافون لحضورها في كربلاء التشبت بشيء من ذلك ، ولم يكن أمامهم سوى الإستدلال بعدم وجدانهم ما يدل على حضورها ، وقد عرفت أنه دليل قاصر .
كما أن الصحيح هو وجود ما يدل على حضورها حسبما تقدم .
باء : إنه إذا كانت على قيد الحياة كما دلت عليه الروايات التي ذكرناها ، وذكرها الآخرون ، فلا بد لمن ينفي حضورها في كربلاء من الإجابة على السؤال عن سبب تركها المسير إلى كربلاء فهل منعت ؟ أم كرهت ورفضت ؟ ولماذا ؟ .
أما ما نسب إلى المجلسي في كتابه جلاء العيون “الفارسي المطبوع” فلم نجده في ترجمته العربية التي هي بقلم العلامة الجليل السيد عبد الله شبر رحمه الله تعالى ، مع أنه يصرح بقوله : “ناقلاً لتحقيقاته الشافية ، وتنبيهاته اللطيفة الوافية .
كما أننا لم نجد أثراً لتلك الروايات التي أشارت إليها العبارة الفارسية للكتاب المنسوب إليه . نعم لم نجد لها أثراً في أي من مؤلفات العلامة المجلسي ، لا في موسوعاته الحديثية كالبحار ، ولا في غيره .
جيم : إن مما يدل على بقاء ليلى على قيد الحياة إلى ما بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام؛ ما رواه ابن قولويه ، قال :
” حدثني حكيم بن داود بن حكيم ، عن سلمة ، قال : حدثني أيوب بن سليمان بن أيوب الفزاري ، عن علي بن الحزوّر ، قال :
سمعت ليلى ، وهي تقول : سمعت نوح الجن على الحسين بن علي عليه السلام ، وهي تقول :
يا عين جودي بالــدموع فإنما *** يبكي الحزيـن بحرقة وتفجّع
يا عين الهاك الـــرقاد بطيبه *** من ذكــر آل محمد وتوجع
باتت ثلاثاً بالصعيد جسومهـم *** بين الوحوش وكـلهم في مصرع
وذلك يدل على بقائها على قيد الحياة إلى ما بعد استشهاد الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه 56 .

كلمة أخيرة

وبعد هذه الجولة المحدودة التي قمنا بها ، لا يسعنا إلا أن نشكر القارئ الكريم الذي أعطى وقتاً . وبذل جهداً في متابعته لما أوردنـاه في هذا البحث المقتضب الذي تحدث فيما تحدث عنه : عن إمكانية الإعتماد على كتاب “الملحمة الحسينية” في نسبة مطالبه إلى الشهيد مطهري على أنها هي الرأي النهائي له رحمه الله . .
وكذلك تحدث عن قيمة الرأي الذي ينسب طائفة من الأحداث إلى الكذب والخرافة .
ثم تطرقنا بإقتضابٍ وإختصار إلى مناقشة الأدلة التي استند إليها النافون لحضور أم علي الأكبر في كربلاء .
ثم اتخذ البعض من هذا النفي عنواناً للأسطورة والخيال العاشورائي بزعمه ، وإعتبره مدخلاً مناسباً للطعن في قراء العزاء ورميهم بمختلف أنواع الأفائك ، ومواجهتهم بشتى أنواع التهم ، وتصغير شأنهم ، وتحقير أمرهم . وذلك بهدف تشكيك الناس بكل ما يقولونه عن عاشوراء وكربلاء ، وإفراغها من محتواها الثقافي ، والعاطفي ، والتربوي ، وما إلى ذلك .
وإذ قد ظهر عدم صحة ما إستندوا إليه ، وبطلان ما إعتمدوا عليه فما علينا إلا أن نترك الخيار في أن يراجعوا ضميرهم ، ويعملوا على إصلاح ما أفسدوه مع إسدائنا النصح لهم بأن لا تأخذهم العزة بالإثم ، فيلجأوا إلى المكابرة ، ثم إلى المنافرة وأن يقلعوا عن الإستمرار برمي الآخرين بمختلف أنواع التهم ويرتدعوا عن إشاعة الأباطيل ونشر الأضاليل .
كما أننا لا نحب لهم أن يتابعوا أساليبهم المعهودة التي تعتمد على كيل السباب والشتائم ، وقواذع القول للتوصل إلى التشكيك إن لم يكن النفي للحقائق الدامغة ، والثابتة .
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله 57 .
حرر بتاريخ 11 ذي الحجة 1420 هـ .
عيتا الجبل ـ جبل عامل ـ لبنان .
جعفر مرتضى العاملي .

  • 1. الملحمة الحسينية ج 1 ص 18 .
  • 2. قاموس الرجال ج 7 ص 422 .
  • 3. نفس المهموم ص 167 .
  • 4. الضغث : قبضة من حشيش يختلط فيها الرطب باليابس .
  • 5. الكافي ج 1 ص 54 .
  • 6. راجع ما قاله عن الدربندي في: الملحمة الحسينية ج 3 ص 264 و 247 و 48 متناً و هامشاً وج 1 ص 43 و44 و 84 . و ما قاله عن الكاشفي ج 1 ص 42 في ج 3 ص 363 و المرجان أيضاً ص 193 . و ما ذكره عن صاحب كتاب محرق القلوب أيضاً موجود في نفس الكتاب .
  • 7. راجع: الملحمة الحسينية ج 1 ص 39 و 12 و 13 و ج 3 ص 245 .
  • 8. راجع : أكسير العبادات في أسرار الشهادات ج 2 ص 653 و 654 .
  • 9. الملحمة الحسينية ج 3 ص 239 و راجع ص 246 عن كتاب اللؤلؤ والمرجان للنؤي ص 92 .
  • 10. عن : اللهوف ص 47 .
  • 11. الملحمة الحسينية ج 1 ص 18 و 19.
  • 12. راجع: البحار ج 30 ص 293 / 295 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 126 .
  • 13. أكسير العبادات ج 2 ص 641.
  • 14. أكسير العبادات في أسرار الشهادات ج 2 ص 641.
  • 15. الملحمة الحسينية ج 1 ص 19 و 20.
  • 16. الملحة الحسينية ج 3 ص 239.
  • 17. معجم قبائل العرب ج 2 ص 708 و 709.
  • 18. معجم البلدان ج 3 ص 8 و فيه أيضا أنها ثلاث هضبات بنجد ، وهي عن يسار فلجة مصعداً إلى مكة .
  • 19. الأغاني ج 2 ص 27 وسيرا علام النبلاء ج 4 ص 6 و 7 والمنظم الجوزي ج 6 ص 104 وتاريخ الإسلام حوادث سنة 61 ـ 80 ص 217.
  • 20. الأغاني ج 2 ص 44 و 51 و 57.
  • 21. الأغاني ج 2 ص 15.
  • 22. راجع الأغاني ج 2 ص 26.
  • 23. الأغاني ج 2 ص 49 و راجع ص 48 و معجم البلدان ج 2 ص 64 .
  • 24. سير أعلام النبلاء ج 4 ص 7 وراجع: تاريخ الإسلام للذهبي (حوادث 61 ـ 80) ص 219 وراجع ص 218 فقد ذكر أنهم شكوا قيس بن الملوح إلى مروان وكذا في نشوار المحضارة ج 5 ص 108 وذم الهوى ص 388 والمنتظم ج 6 ص 106، وشذرات الذهب ج 1 ص 277.
  • 25. المنتظم ج 6 ص 101.
  • 26. النجوم الزاهرة ج 1 ص 170 و 171.
  • 27. راجع : خزانة الأدب لابن حجة الحموي ص 377 فما بعدها .
  • 28. a. b. الأغاني ج 2 ص 4 و 10.
  • 29. الأغاني ج 2 ص 4.
  • 30. الأغاني ج 2 ص 5 و 6 و 7 و 8 و 9.
  • 31. a. b. الأغاني ج 2 ص 10.
  • 32. الأغاني ج 2 ص 5.
  • 33. الأغاني ح 2 ص 9.
  • 34. a. b. الأغاني ج 2 ص 10 .
  • 35. a. b. الأغاني ج 2 ص 11 .
  • 36. وسيلة الدارين في أنصار الحسين 294.
  • 37. مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 118 .
  • 38. مقاتل الطالبين ص 81 وجلاء العيون بشر ج 2 ص 201 والبحار ج 45 ص 45 والعوالم ج 17 ص 288.
  • 39. نسب قريش ص 57.
  • 40. مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 231 والبحار ج 45 ص 33 والعوالم ج 17 ص 637.
  • 41. جلاء العيون ج 2 ص 201 وراجع المصادر التالية: مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 31 والعوالم ج 17 ص 287 والبحار ج 45 ص 44 ومثير الأحزان ص 80 وموسوعة كلمات الإمام الحسين ص 463 عن مصادر كثيرة ومنها: ذريعة النجاة ص 128 ومنها مقتل الحسين لأبي محنف ص 129 .
  • 42. تاج العروس ج 3 ص 77 / 78 .
  • 43. a. b. الإيقاد ص 117.
  • 44. المنتخب ص 444.
  • 45. وسيلة الدارين في أنصار الحسين ص 293 / 294.
  • 46. الظاهر أن الصحيح : وا ولداه .
  • 47. اكسير العبادات في أسرار الشهادات ج 2 ص 644 .
  • 48. لعل الصحيح محياها .
  • 49. المصدر السابق ص 644 / 645 والحديث في العديد من المصادر الأخرى أيضاً .
  • 50. الإيقاء ص 173 و 174 واللهوف لأبن طاووس ص 76 وبلاغات النساء لطيفو ص 35 ط بيروت دار النهضة سنة 1972 و ط مكتبية بصيريتي قم إيران ص 21 ، وأكسير العبادات ج 3 ص 531 والإحتجاج ج 2 ص 125 والبحار ج 45 ص 134 و 185 ومقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 64 والعوالم ج 17 ص 434 وجلاء العيون ج 2 ص 256 ومقتل الحسين للمقرم ص 450 والمجالس السنية ج 1 ص 146 .
  • 51. راجع: نزل الأبرار للبدفشاني ص 160.
  • 52. الصحيح : أمه . أي أم علي الأكبر .
  • 53. قاموس الرجال ج 7 ص 422.
  • 54. راجع إجلاء العيون ص 406 (فارسي) .
  • 55. وسيلة الدارين في انصار الحسين ص 194 .
  • 56. راجع : كامل الزيارات ص 95 .
  • 57. كتاب : كربلاء فوق الشبهات للسيد جعفر مرتضى العاملي ، الفصول الرابع الى السابع / الطبعة الثانية 1422 هـ . الموافق 2002 م .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى