أنّ بعض من سلّم قياده للباطل نطق بلسان العصبيّة، وخطّ بيراع الهوى فغيّر الحقائق محاولاً بذلك صرفَ الآيات عن أهلها ومحلّها, وحملها على غير أهلها, فأطلَق للسانه العنان، وسطَّر في قرطاسه هذا الكلام: (إنّ الآية إذا كانت دليلاً على عصمة الخمسة عليهم السلام فلماذا جاءت بصيغة المضارع (إِنَّما يُرِيدُ) ولماذا لم تكن (إنّما أراد الله)؟ فإنّهم إذا كانوا معصومين ثمّ يريد الله عصمتهم – فهو من تحصيل الحاصل)(1).
ردُّ الشبهة:
ونجيب على هذه الشبهة بخطوتين:
الخطوة الاولى: في بيان مؤدّى لفظة الإرادة في قوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (سورة الأحزاب 33).
أقول: إنّ كلمة الإرادة في قوله سبحانه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ) لم ترد في القرآن الكريم, إلّا أنّ مادّتها وما رادفها من كلمات وردت عشرات المرّات.
وقبل استعراض نماذج من تلك الآيات الكريمة لا بدّ لنا من الرجوع إلى كتب اللغة؛ لمعرفة انطباعات اللغويّين الأوّليّة بخصوص هذه الكلمة بعد نقلهم إيّاها في مدوَّناتهم اللغويّة من مصادرها الأولى, لعلّ القارئ يجد في ذلك عوناً على متابعة ردّ الشبهة من نقاط انطلاقه إلى النتائج التي سينتهي إليها.
قالوا: أراد الشيء (إرادةً): شاءه. وقال ثعلب: الإرادة تكون محبّة وغير محبّة. واستعملت عندهم بمعنى القصد, وفلان حكى إرادتي لك, يعني حكى قصدي. والإرادة عندهم تكون من الحيوانات أيضاً.
أما الإرادة في قوله تعالى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ) (2), فليس حقيقة, فالجدار قد تهيَّأ للسقوط وظهر تهيُّؤه كما تظهر أفعال المريدين, فوصف الجدار بالإرادة؛ إذ كانت الصورتان واحدة, ومثله كثير في اللغة والشعر.
وأراد الشيء: أحبّه وعُني به, ويقال: أراد يريد إرادةً, والرّيد: الاسم من الإرادة, ويفسِّر بعض اللغويّين الإرادة بالمشيئة, كما يفسِّرون المشيئة بالإرادة, وفرّق بعضهم بينهما بأنَّ الإرادة أخصُّ من المشيئة؛ لأنّ المشيئة ابتداء العزم, فإنّك ربما شئت شيئاً ولا تريده لمانع عقليٍّ أو شرعيّ (3), وعندما نمعن النظر في القرآن الكريم نجد العديد من آياته الشريفة قد تضمنت نوعين من الإرادة, وحتّى تكون الصورة أكثر وضوحاً وبياناً, فإنّنا نقتصر على إيراد بعض الآيات الشريفة فيما يخصُّ المقام:
قال تعالى: (وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)(4), وقال: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(5), والمعنى في الآيتين الكريمتين يفصح عن أنّ إرادة الله نافذةٌ لا يقف في طريقها شيء, فهي مشيئته سبحانه التي تعني الحتميّة, إذ تختصُّ بنظام الخلق وناموس الطبيعة, ويُطلق على هذا النوع من الإرادة, بالإرادة التكوينيّة.
إذن, فالإرادة التكوينيّة، هي: التصرّفات التي تقع في شؤون عالم الخَلق، من التكوين والإبداع والمعاجز، ومطلق الأفعال والأعمال, وبعبارةٍ أُخرى: كلّ ما كان من شأنه أن يدخل في دائرة الوجود -إثباتاً ونفياً- تتولّاه الإرادة التكوينيّة لله عزَّ وجل، فيَحكم بوجوده تارةً فيصبح موجوداً, أو ينفي وجوده أحياناً فيبقى في ظلُمات العدم.
أمّا النوع الثاني من الإرادة، والذي يطلق عليه الإرادة التشريعيّة كما يعرب عنه قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(6)، وقوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(7)، فإنّه يُستفاد منهما أنّ معنى الإرادة التشريعيّة: الأوامر والنواهي الصادرة من الله تبارك وتعالى والتي تصل إلى ذوي العقول بصورة الوحي إلى الأنبياء عليهم السلام.
ومنه يُعلم, أنّ الواجبَ على الإنسان في الإرادة التشريعيّة الالتزامُ بأحكام الحلال والحرام والدين بصورةٍ عامّة, ولكنّه في الإرادة التكوينيّة لا يستطيع أن يخرج في أفعاله وأعماله عن دائرتها؛ لأنّ تصرّفاته كافّة وتقلّباته في عالم الوجود تكون بالقدرة والإمكانيّة التي تعطى له من جانب الله جلّ وعلا.
وعلى ضوء ما تقدّم يتّضح أنَّ الإرادةَ في الآية محلّ البحث هي إرادةٌ تكوينيّة لا تشريعيّة؛ وذلك لعدّة أمور:
1. عدم إمكان تصوّر إرادة تشريعيّة من دون أنْ تكون هناك تشريعاتٌ معيَّنة يتحقَّق من خلالها المراد التشريعي, فمِن غير المعقول التصريحُ بالإرادة التشريعيّة مع خلوِّ المقام من ذكر التشريعات التي تفضي إلى تحقّق المراد التشريعي, وخيرُ مثالٍ على ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)(8), فالإرادة في هذه الآية الكريمة إرادةٌ تشريعيّة؛ إذ جاءت فيها عدّةُ تشريعات كالغُسل والوضوء والتيمُّم ونحو ذلك, فهي تهدف إلى طهارة الناس من الحدث والخبث, ومن دون شكّ أنّ هذا الأمر سيمتثلُ له بعضهم ويعرض عنه آخرون, إذن, لو كانت الإرادةُ في آية التطهير تشريعيّةً لذُكرتْ تلك التشريعات, إلّا أنّ واقع -الحال كما ترى وتشاهد- فإنّها تخلو من ذلك, وعليه تكون الإرادة في الآية -محل البحث- إرادةً تكوينيّة.
2. إنّ اختصاص الإرادة التشريعيّة بالتطهير من الذنوب لا وجه لحصرها بهؤلاء المعنيّين في الآية؛ لأنّ جميع التشريعات ترتبط أساساً بتطهير الناس وتزكيتهم سواء بسواء, وعليه فلا بدّ أنْ تكون الإرادة تكوينيّةً بحيث لا يمكن أنْ يتخلّف المراد عمّا تعلّقت به إرادة الله سبحانه وتعالى, ولكن ليس بذلك المعنى الذي يستلزم القولَ بالجبر وأنّ أهل البيت عليهم السلام مجبَرون بالعصمة، بل المراد أن الأئمة عليهم السلام كالأنبياء عليهم السلام.
وقول المعترض: (إنّ الآية إذا كانت دليلاً على عصمة الخمسة عليهم السلام فلماذا جاءت بصيغة المضارع (إِنَّما يُرِيدُ) ولماذا لم تكن (إنّما أراد الله)؟ فإنّهم إذا كانوا معصومين ثمّ يريد الله عصمتهم – فهو من تحصيل الحاصل) ولا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس والتخليط, فدونك كتاب الله عزَّ وجل, فهو مليء بهذا التعبير, منه قوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(9). فليس معناه أنّه تعالى كان يريد العسر بعباده والآن أراد بهم اليسر.
وكذلك قوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ)(10)؛ إذ ليس معناه أنّه تعالى كان لا يريد التخفيف عن عباده سابقاً.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا)(11), فعلى كلام المعترض أنّ الشيطان قبل الآن ما كان يضلّل العباد؛ لمجيء لفظة (يُرِيدُ) بصيغة المضارع!!.. والحقُّ الذي لا يماري فيه المعترضُ ولا غيره أنّ إرادة الشيطان مستمرّة من لدن خلْقِ آدم إلى يومنا هذا, فإغواؤه وتضليله للناس مستمرٌّ في الماضي والحاضر والمستقبل.
فيتَّضح ممّا تقدَّم جليّاً أنّ المراد من كلمة (يُرِيدُ) هو الاستمرارية في الأزمنة الثلاثة, وكذلك فيما نحن فيه, في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ)، فإنّ إرادته تعالى في إذهاب الرجس عن أهل البيت عليهم السلام مستمرّة في الأزمنة الثلاثة في الماضي والحاضر والمستقبل, هذا من جانب.
ومن جانبٍ آخر, إنّ عصمة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أشهرُ من أنْ يدور حولها النقاش, وأشهر من أنْ تستدعي سَوْق الأدلّة والبراهين, وقد اتّفق الفريقان -بلا مخالف- أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم هو أحد أفراد آية التطهير.
والمعترض يقول زاعماً: (إنّ كون هؤلاء الأشخاص عليهم السلام محفوظين من الرجس والذنوب بعد تعلُّق الإرادة بإذهاب رجسهم)!!
أقول: فيا لله العجبُ, وهل كان إذهاب الرجس عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بدءاً من نزول الآية, وهل كان فيه رجسٌ (حاشا رسول الله) قبل نزولها؟!
هذا ممّا لا يلتزم به المعترضُ نفسُه, مع بداهة مخالفته لما عليه جميع المسلمين, إذ لا يعتري أحدَهم شكٌّ ولا شبهةٌ في عصمة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن بُعث رحمةً للعالمين.
الخطوة الثانية: في بيان قوله تعالى (لِيُذْهِبَ عَنكُمُ)
وفي هذه الخطوة سوف نتناول البحث فيها من جانبين:
الاول: الجانب النحوي:
أقول: لا يخفى على من له اليد الطولى في علم النحو أنّ اللام في قوله تعالى: (لِيُذْهِبَ) زائدةٌ تفيد التوكيد، وأصلها (أنْ يذهب) فيكون المعنى: “يريد الله لأنْ يذهب”.
خلافاً لمن قال أنها للتعليل, ” ثم اختلف هؤلاء، فقيل المفعول محذوفٌ أي: إنما يريد الله أمرَكم ونهيَكم ليذهب، أو إنما يريد منكم ما يريدُ ليذهب، أو نحو ذلك(12).
وممن وافق الشيعةَ من علماء النحو في قولهم أنّ اللام في كلمة (ليذهب) زائدةٌ تفيد التوكيد:
ابن هشام الأنصاري في (شرح قطر الندى), قال: “لَام الْجَرّ سَوَاء كَانَت للتَّعْلِيل كَقَوْلِه تَعَالَى: وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس، وَقَوله تَعَالَى: إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله، أَو للعاقبة كَقَوْلِه تَعَالَى: فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدواً وحزناً، وَاللَّام هُنَا لَيست للتَّعْلِيل؛ لأَنهم لم يلتقطوه لذَلِك وَإِنَّمَا التقطوه ليَكُون لَهُم قُرَّة عين فَكَانَت عاقبته أَن صَار لَهُم عدواً وحزناً، أَو زَائِدَة كَقَوْلِه تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيت، فالفعل فِي هَذِه الْموَاضِع مَنْصُوب بِأَنْ مضمرة”(13).
الجرجاويّ الأزهريّ المعروف بـ(الوقاد) (في شرح التصريح على التوضيح), قال ما هذا نصُّه: “ولام التوكيد، وهي الزائدة، نحو: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ)”(14).
الحازميّ في (فتح ربِّ البريّة في شرح نظم الآجُرّومِيّة), قال: “وقد تكون اللامُ زائدةً نحو: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) (الأحزاب:33) (لِيُذْهِبَ) اللامُ هذه زائدةٌ”(15).
وجاء في (المعجم الوسيط), ما نصُّه: “التوكيد وَهِي اللَّام الزَّائِدَة وَهِي أَنْوَاعٌ مِنْهَا:
أ. اللام الزَّائِدَة بعد فعل الْإِرَادَة وَالْأَمر دَاخِلَة على الْمُضَارع الْمَنْصُوب بِأَن المضمرة نَحْو (إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس) وَنَحْو (وَأُمرْتُ لأعدلَ بَيْنكُم)”(16).
وعليه, يكون معنى الآية كما يأتي: (إنما يريد اللهُ لأنْ يُذهِب عنكم الرجس)؛ لمجيء اللام الزائدة بعد فعل الإرادة من قوله تعالى: (يريدُ اللهُ), التي تفيد التوكيدَ, ودخولِها على المضارع المنصوب بـ(أنْ) مضمرة, في قوله تعالى: (ليُذهِب).
وحصيلةُ الكلام: إنْ قيل بأنّ اللام في كلمة (ليُذهب) للتعليل فيكون معنى الآية في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ): هو:”إنما يريد أمرَكم ونهيَكم”, على ما نقله الآلوسيّ في تفسيره, وهو الأمر الذي اضطرّهم للقول بكون الإرادة في الآية الشريفة تشريعيةً لا تكوينيةً, وقد تقدّم الكلام حول هذا الأمر في الخطوة الاولى في بيان مؤدى لفظة الإرادة, حيث قلنا هناك: عدم إمكان تصوّر إرادةٍ تشريعيّةٍ من دون أنْ تكون هناك تشريعاتٌ معيَّنةٌ يتحقَّق من خلالها المرادُ التشريعيّ, فمِن غير المعقول التصريحُ بالإرادة التشريعيّة مع خلوِّ المقام من ذكر التشريعات التي تفضي إلى تحقّق المراد التشريعيّ, واستشهدنا لذلك بآيةٍ من آيات القرآن الكريم مشتملةً على الأمر والنهي, مع وجود عدةِ تشريعات.. وبخلافِه في الآية محلِّ البحث, حيث لا تتضمّن أيَّ تشريعٍ ليكون مورداً للأمرِ والنهي.
وبناءً على ذلك, يتضح أنّ القول بأنّ اللام في كلمة (لِيُذهب) للتعليل بعيدٌ عن الصواب, والحقُّ الذي لا يماري فيه إلا جاهلٌ أو متعصبٌ هو أنها زائدةٌ تفيد التوكيد, وقد استعرضْنا من قبْلُ كلماتِ أهل التحقيق وأساطين الفنّ في ذلك، فراجع.
وهلمَّ معي -بعد النظر في الجانب النحويّ- إلى النظر في الجانب الدلاليّ للفظة (الإذهاب).
الثاني: الجانب الدلالي:
إنّ كلمة الإذهاب يصحّ استعمالها فيما هو ثابت، فيكون الإذهاب رفعاً للموجود، وتُستعمل فيما هو غير ثابت، فيكون الإذهابُ دفعاً لورود الشيء، ومنعاً من صيرورته موجوداً أصلاً، وخُذ مثالاً على ذلك: فإنّك لو التقيت سقيماً فمن البديهي أنْ تدعو له بالشفاء، فتقول: اللّهمّ أذهِبْ عنه المرض، وكذا لو التقيتَ سَليماً صحيحاً، فلا فرق بين الحالتين، ففي حالة الدعاء للمريض يكون معنى الإذهاب الرفعَ، بمعنى: ارفعْ عنه المرض، وفي حالة الدعاء للسليم يكون الإذهاب بمعنى الدفع، أي ادفعْ عنه المرض كي لا يُصاب به.
إذن فالإذهابُ كما يُستعمل في إزالة الأمر الموجود، يُستعمل في المنع عن طروئه، كقوله تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء) والصرف هنا الدفع، أي ندفع عنه، وليس معناه رفعاً للموجود كما هو واضح.
وعلى ضوء ما تقدَّم يكون معنى كلمة (لِيُذْهِبَ) في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، الدفعَ، أيْ يدفع عنهم ذلك، لا أنّ الرجسَ موجودٌ فيهم، وإرادةُ الله جاءتْ لترفعَه عنهم؛ وذلك لعصمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السابقة على نزول الآية، ولصحّةِ استعمال الإذهاب فيما هو غيرُ ثابت، كما تقدّم ذكرُه، وبقرينةِ قوله (عَنكُمُ)، فلو كان الإذهابُ بمعنى الرفع لقال (منكم), وقرينة أخرى هي الأهم في المقام وهي عدم بلوغ الحسنين عليهما السلام حين ذاك فلا رجس فيهم حتى ترفعه الآية بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم (رفع القلم), فدعوى رفع الرجس عنهما سالبة بانتفاء الموضوع.
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصصية
الوحدة العلمية / السيد مهدي الجابري
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: روح المعاني -للآلوسي- 11: 199, بتصرف.
(2) سورة الكهف: 77.
(3) لسان العرب, 3: 191.
(4) سورة الرعد: 11.
(5) سورة يس: 82.
(6) سورة البقرة: 185.
(7) سورة المائدة: 6.
(8) سورة المائدة: 6.
(9) سورة البقرة: 185.
(10) سورة النساء: 28.
(11) سورة النساء: 60.
(12) تفسير الآلوسي, 11: 193.
(13) شرح قطر الندى وبلّ الصدى, 66, وشرح شذور الذهب لابن هشام, 383.
(14) شرح التصريح على التوضيح, 2: 387.
(15) فتح ربّ البرية في شرح نظم الآجُرومية, 271.
(16) المعجم الوسيط –مجمع اللغة العربية- 2:809.