روايات أهل البيت(ع)

الرسول الأعظم(ص)…

و مما جعله أهل التبشير المسيحي ذريعة للحط من كرامة القرآن ـ بزعم وجود التناقص فيه ـ ما عاتب الله به نبيه ( صلى الله عليه و آله ) بشأن عبوسه في وجه ابن أم مكتوم المكفوف ، جاء ليتعلم منه مُلِحَّاً على مسألته ، و هو لا يعلم أنه منشغل بالكلام مع شرفاء قريش . فساء النبي إلحاحه ذلك فأعرض بوجهه عنه كالحاً متكشراً . الأمر الذي يتنافى و خلقه العظيم الذي وصفه الله به في وقت مبكر !
جاء قوله تعالى : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ 1 في سورة القلم ، ثانية السور النازلة بمكة . أما سورة عبس فهي الرابعة و العشرون .
جاء في أسباب النزول : أن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) كان يناجي عتبة بن ربيعة و أبا جهل بن هشام و العباس بن عبد المطلب و اُبياً و أمية ابني خلف يدعوهم إلى الله و يرجو إسلامهم . و في هذه الحال جاءه عبد الله ابن أم مكتوم 2 و نادى : يا رسول الله ، أقرئني و علمني مما علمك الله ، فجعل يناديه و يكرر النداء ، و لا يعلم أنه مشغول و مقبل على غيره ، حتى ظهرت آثار الكراهة على وجه رسول الله ، لقطعه كلامه !
قالوا : و قال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد : إنما أتباعه العميان و العبيد ، فأعرض عنه و أقبل على القوم الذين كان يكلمهم ، فنزلت الآيات . و كان رسول الله بعد ذلك يكرمه و يقول إذا رآه : مرحباً بمن عاتبني فيه ربي . و استخلفه على المدينة مرتين 3 .
قال الشريف المرتضى : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها إلى النبي ( صلى الله عليه و آله ) بل هو خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه ، و فيها ما يدل على أن المعني بها غيره ، لأن العبوس ليس من صفات النبي مع الأعداء المنابذين فضلاً عن المؤمنين المسترشدين . ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء و يتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة . و قد قال تعالى في وصفه : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ 1 . و قال : ﴿ … وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ … ﴾ 4 . فالظاهر أن قوله ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ 5 المراد به غيره 6 .
و هكذا ورد قوله تعالى : ﴿ … وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ 7 . و قوله : ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ 8 .
و غيرهما من آيات مكية جاء الدستور فيها بالخفض و اللين و الرأفة مع المؤمنين ، فكيف يا ترى يتغافل النبي عن خلق كريم هي وظيفته بالذات ، و لاسيما مع السابقين الأولين من المؤمنين ، و بالأخص مع من ينتمي إلى زوجه الوفية خديجة الكبرى أم المؤمنين 9 .
و قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : ماذكروه سبباً لنزول الآيات إنما هو قول لفيف من المفسرين و أهل الحشو في الحديث ، و هو فاسد ، لأن النبي ( صلى الله عليه و آله ) قد أجلَّ الله قدره عن هذه الصفات ، و كيف يصفه بالعبوس و التقطيب و قد وصفه بالخلق العظيم و اللين و أنه ليس بفظ غليظ القلب ؟! و كيف يعرض النبي عن مسلم ثابت على إيمانه جاء ليتعلم منه ، و قد قال تعالى : ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ … ﴾ 10 !؟ و من عرف النبي و حسن أخلاقه و ما خصه الله تعالى به من مكارم الأخلاق و حسن الصحبة حتى قيل : إنه لم يكن يصافح أحداً قط فينزع يده من يده حتى يكون ذلك هو الذي ينزع يده . فمن هذه صفته كيف يقطب وجهه في وجه أعمى جاء يطلب زيادة الإيمان . على أن الأنبياء ( عليهم السلام ) منزهون عن مثل هذه الأخلاق و عما دونها ، لما في ذلك من التنفير عن قبول دعوتهم و الإصغاء إلى كلامهم . و لا يجوز مثل هذا على الأنبياء من عرف مقدارهم و تبين نعتهم .
نعم ، قال قوم : إن هذه الآيات نزلت في رجل من بني أمية كان واقفاً إلى جنب النبي ، فلما اقبل ابن أم مكتوم تقذر و جمع نفسه و عبس و تولى ، فحكى الله ذلك و أنكره معاتباً له 11 .
قال الطبرسي : و قد روي عن الصادق ( عليه السَّلام ) : ” أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي ، فجاء ابن أم مكتوم ، فلما رآه تقذر منه و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك و أنكره عليه ” .
قال : و لو صح الخبر الأول لم يكن العبوس ذنباً ، إذ العبوس و الانبساط مع الأعمى سواء ، إذ لا يرى ذلك فلا يشق عليه . فيكون قد عاتب الله سبحانه نبيه بذلك ، ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق ، و ينبهه على عظيم حال المؤمن المسترشد ، و يعرفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه .
قال : و قال الجبائي : في هذا دلالة على أن الفعل إنما يكون معصية فيما بعد لا في الماضي ، فلا يدل على أنه كان معصية قبل النهي عنه ، و لم ينهه ( صلى الله عليه و آله ) إلا في هذا الوقت .
و قيل : إن ما فعله الأعمى كان نوعاً من سوء الأدب . فحسن تأديبه بالإعراض عنه . إلا أنه كان يجوز أن يتوهم أنه أعرض عنه لفقره ، و أقبل عليهم لرياستهم تعظيماً لهم . فعاتبه الله على ذلك .
قال : و روي عن الصادق ( عليه السَّلام ) أنه قال : ” كان رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال : مرحباً مرحباً ، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبداً ، و كان يصنع به من اللطف حتى كان ( ابن أم مكتوم ) يكف عن النبي مما يفعل به 3 . أي كان يمسك عن الحضور لديه استحياء منه .
قلت : الأمر كما ذكره هؤلاء الأعلام ، من أنها فعلة لا تتناسب و مقام الأنبياء ، فكيف بنبي الإسلام المنعوت بالخلق العظيم ؟! فضلاً عن أن سياق السورة يأبى إرادة النبي في توجيه الملامة إليه . ذلك : أن التعابير الواردة في السورة ثلاثة ” عبس ” ، ” تولى ” ، ” تلهى ” الأولان بصيغة الغياب و الأخيرة خطاب . على أن الأولين ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ 5 فعلان قصديان ( يصدران عن قصد و إرادة و عن توجه من النفس ) . و الأخير ( تلهى ) فعل غير قصدي ( صادر لا عن إرادة و لا عن توجه من النفس ) . فإن الإنسان إذا توجه بكليته إلى جانب فإنه مُلتَهٍ عن الجانب الآخر ، على ما تقتضيه طبيعة النفس الإنسانية المحدودة ، لا يمكنه التوجه إلى جوانب عديدة في لحظة واحدة ! إنما هو الله ، لا يشغله شأن عن شأن !
و هذا الفعل الأخير كان قد توجه الخطاب ـ عتاباً ـ إلى النبي ، لانشغاله بالنجوى مع القوم و قد ألهاه ذلك عن الإصغاء لمسألة هذا الوارد ، من غير أن يشعر به .
فهذا مما يجوز توجيه الملامة إليه ( صلى الله عليه و آله ) : كيف يصرف بكل همه نحو قوم هم ألداء ، بحيث يصرفه عمن يأتيه بين حين و آخر ، و هو نبي بعث إلى كافة الناس .
و هو عتاب رقيق لطيف يناسب شأن نبي هو ﴿ … بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ 12 .
أما الفعلان الأولان فقد صدرا عن قصد و إرادة ، كانا قبيحين إلى حد بعيد ، الأمر الذي يتناسب مع ذلك الأموي المترفع بأنفه المعتز بثروته و ترفه في الحياة . و كان معروفاً بذلك .
و عليه فلا يمكن أن يكون المعني بالفعل الثالث ( غير العمدي ) هو المعنى بالفعلين الأوّلين ( العمديّين ) 13 .

  • 1. a. b. القران الكريم : سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 4 ، الصفحة : 564 .
  • 2. هو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم القرشي ، قيل : إن إسمه الحُصَين ، سمّاه النبي ( صلى الله عليه و آله ) عبد الله .
    قال ابن حيان : كان أهل المدينة يقولون : اسمه عبد الله ، و أهل العراق يقولون : إسمه عمرو .
    قال إبن خالويه : كان أبوه يكنّى أبا السرج ( على ما ذكره الشيخ في تفسير التبيان : 10 / 268 ) و كان مؤذناً للنبي ( صلى الله عليه و آله ) بعد هجرته من مكة ، و إسم أمه عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة ، و هو ( ابن أُم مكتوم ) ابن خال خديجة أُم المؤمنين ( عليها السلام ) ، فان أم خديجة أُخت قيس بن زائدة و اسمها فاطمة ، أسلم في السابقين إلى الإسلام بمكة و كان من المهاجرين الأولين ، قيل : قَدُم المدينة قبل النبي ، و قيل : بعده بقليل ، و مات في أيام عمر ، و قيل : استشهد بالقادسية . راجع : الإصابة لإبن حجر : 2 / 523 .
  • 3. a. b. مجمع البيان : 10 / 437 .
  • 4. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 159 ، الصفحة : 71 .
  • 5. a. b. القران الكريم : سورة عبس ( 80 ) ، الآية : 1 ، الصفحة : 585 .
  • 6. تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى : 118 – 119 بتلخيص يسير .
  • 7. القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 88 ، الصفحة : 266 .
  • 8. القران الكريم : سورة الشعراء ( 26 ) ، الآية : 215 ، الصفحة : 376 .
  • 9. تقدَّم قريباً أنه كان ابن خال خديجة رضوان الله عليها .
  • 10. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 52 ، الصفحة : 133 .
  • 11. تفسير التبيان : 10 / 268 – 269 بتصرُّف يسير .
  • 12. القران الكريم : سورة التوبة ( 9 ) ، الآية : 128 ، الصفحة : 207 .
  • 13. شبهات وردود حول القرآن الكريم : 282 – 286 ، منشورات مؤسسة التمهيد ، الطبعة الثانية / سنة : 1424 هجرية ، طبعة منشورات ذوي القربى ، قم المقدسة / الجمهورية الإسلامية الإيرانية .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى