إسئلنا

الدور المرتجى من المثقفين…

نجاح العمل الاجتماعي يحتاج إلى تمازج عناصر ثلاثة هي:

  1. القيادة الفاعلة (الرمز).
  2. الطبقة المثقفة (النخبة).
  3. المجتمع النشيط (القاعدة).

ولا يمكن لمجتمع أن يوفر النجاح لنفسه عبر الأخذ بأحد العناصر الثلاثة، مهما أوتي ذاك العنصر من استعدادات وقدرات؛ لأنّه ـ في أسلم الفروض ـ لن يشكل إلا جزءاً من دواعي حركة المجتمع، وبه وحده لا يمكن لقاطرة النجاح أن تتحرك، وتبلغ هدفها المرتجى.
من هنا ندرك أنّ المجتمع الحي لا بد أن يكون فيه حضور واضح للطبقة المثقفة (النخبة) على مسرح العمل والنشاط، بأن تتحول من مجرّد مكتف باستهلاك الأفكار إلى المشارك في إنتاج الفكر وتطبيقه التطبيق الرشيد..
وفي كثير من المجتمعات الحاضرة (ولاسيما في العالم المتقدم) هناك حضور مكثف فاعل لهذه الطبقة يؤثر بشكل واضح في كلّ مناحي الحياة: النظرية والتطبيقية، ويشكل همزة الوصل والالتقاء بين مصدر القرار والرموز القائمة في أعلى سلم الهرم الاجتماعي، وبين القاعدة الاجتماعية العريضة.
يظهر ذلك من خلال التجمعات والنقابات التربوية والتعليمية والمهنية التي تشارك في صنع القرار واستصدار الفعل، وتوجيه رد الفعل للمجريات الداخلية والخارجية الوجهة الحكيمة، في سبيل الابتعاد عن التصرفات الجمعية القائمة على الحماس، والتي لا تبلغ مستوى النضج المطلوب.
وفي مجتمعنا الحبيب تنامت الطبقة المثقفة كمياً، ولا زالت تتنامى بشكل مطرد، وهذا دليل على تقدم اجتماعي، لكنّنا لا نجد ذلك الحضور الفاعل بما يتوازى مع مستوى الهمّ الاجتماعي، وتحقيق الطموح المنشود.

المثقف والدور الاجتماعي

يمكن أن نلمح أدواراً ثلاثة متباينة تجاه الدور الاجتماعي للمثقف: يتمثل أولها في الانسحاب من دائرة العمل الاجتماعي، وتمحور الفرد حول ذاته، بينما يتحلى الثاني بحضور جزئي في معترك العمل يكتفي بالقيام ببعض أدوار محدودة، بينما تتطلع عين المجتمع بشغف وإلحاح إلى حضور فاعل يسعى إلى إزالة آلامه، والسير بجد إلى تحقيق آماله، إيماناً منه بأنّ التغيير الاجتماعي الصحيح تغيير عملي لا يغرق في الغيبية ﴿ … إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ … ﴾ 1، كما أنّه تغيير يعتمد العامل الداخلي لا الخارجي منطلقاً، (ما حكّ جلدك مثل ظفرك).

مناحي الدور المطلوب

الدور المطلوب من النخبة الواعية ينبغي أن يصبّ في الروافد التالية:

1- الجانب الفردي الشخصي

على المثقف ـ كفرد ـ أن يقوم بدور تجاه نفسه وذاته، يكمن في سعة الاطلاع والإنماء المعرفي، والقيام بكلّ ما من شأنه جلب النفع له، والمحافظة على شخصيته، ودعمها اجتماعياً ليكون محط ثقة المجتمع.
إنّ إنماء الفكر والثقافة وتجديدهما يجعل المثقف مسايراً لركب التطور، لاسيما في عالم الانفجار المعرفي والعلمي، العالم الذي تعددت مصادر المعرفة فيه: كماً وكيفاً، بما يجعل غير المتابع يعيش على هامش الزمن والتاريخ وحركة الواقع المتسارعة.

2- الجانب التخصصي

ولئن كان الأمر الأول ذاتياً فردياً، فإنّنا بحاجة ـ أيضاً ـ إلى برامج توضح الذات الجمعية والهوية المثقفة بالقيام بأدوار تحدد وتوضح الذات المثقفة كشريحة اجتماعية وكيان له ملامحه الخاصة، وهذا لا يتم إلا إذا شعر المثقفون بأنفسهم كذات لها تمحور خاص، وسمات مميزة، هذا على الصعيد النفسي الوجداني.
كما نحتاج إلى سعي مقنن ضمن الإطارين الآخرين: العلمي النظري والعملي التطبيقي، ليتعرف المثقفون على أنفسهم وعددهم، وأماكن تواجدهم، والاستعدادات والقدرات عندهم، ومن ثم لتحويل ذلك من إطاره المطلق إلى إطار تجسيده على أرض الواقع كعمل مشرق فتان: اشتد عوده، وزكا أريجه، وآتى ثماره اليانعة.
ومن أمثلة البرامج التخصصية:

  • إقامة ندوات علمية تخصصية.                  
  • دروس تقوية وإعداد.
  • برامج استثمارية للمثقفين.
  • إشادة الملتقيات التخصصية.
  • تكثيف مجموعات العمل التفاعلية (الورش).                    
  • إصدار كتب ومجلات ونشرات ثقافية.
  • إجراءات علمية تعليمية لزيادة عدد المثقفين ومستواهم، سواء بتسهيل الدراسة داخل وطننا الحبيب، أو خارجه.

3- الجانب الاجتماعي

المجتمع هو البحر الذي نغترف منه، ونسبح فيه، وإليه ستعود كلّ مجهوداتنا، لذلك فالمثقفون مطالبون أن يقوموا بواجبهم تجاه المجتمع، مستشعرين همومه، مشمرين سواعد الجد للرقي به إلى مدارج الرفعة والكمال.
فبوصفهم جزءاً من هذا المجتمع، جزءاً واعياً، عليه أن يتحمل دوره بمستواه، لا أن ينكفئ على خصوص ذاته، أو يتمحور حول طبقته، أو أن يستهجن المجتمع، وينظر إليه بعين الازدراء محققاً القطيعة الاجتماعية. وهذا يتطلب منه القيام بمساهمات تصبّ في الرافد الاجتماعي العام بالانخراط في نسيج المجتمع، وتقديم البرامج العلمية والعملية إليه.

شروط الدور الاجتماعي

ولعلّنا نستطيع أن نجمل تلك الشروط ضمن عنوانين بارزين هما: الأصالة والحداثة.
ففي جانب المطلق الثابت ننطلق من قيم الذات، وحقائق الدين والعقل، وقيم المجتمع الصحيحة، لأنّنا بحاجة إلى المثقف الفقيه كما أننا بحاجة إلى الفقيه المثقف؛ ولأنّنا نضع في حسباننا أنّ مجتمعنا مجتمع ديني يتفاعل مع منطلقاته الراسخة، ويقتنع بها أكثر مما يؤمن بما لا يراه مؤيداً بذلك، منبعثاً منه، ولأنّنا رأينا ـ في حقبة سلفت ـ تيارات لم تأخذ بخصوصية المجتمع، ونظرت إليه نظرة استحقار، فلفظها ورفضها، ولم يرَ أنّها تمثله، حتى ماتت، وأصبحت في خبر (كان).
وفي جانب النسبي المتغير نأخذ بكلّ ما يستجد من سبل ووسائل نهضوية ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ … ﴾ 2.
إنّ الأخذ بالأصالة ـ وحدها ـ يعني الانغلاق والجمود والتحجر، كما أنّ الانفتاح ـ وحده ـ يعني الذوبان وفقدان الهوية، والجمع بينهما هو الأخذ بجناحي الطيران للتحليق في سماء النجاح.

غياب أم تغييب

وهنا نتساءل: ما هو السبب وراء انكماش دور المثقفين، وما هي العوامل التي تدفع باتجاه العزوف عن الدور الاجتماعي؟!
ومن باب توصيف الظاهرة، نرى هناك إجابتين مختلفتين تمام الاختلاف للإجابة على السؤال السابق:

ـ الأولى: الأسباب الذاتية

وتقوم هذه الإجابة باستدعاء كلّ ما يدخل في دائرة المثقفين كذات، لترى أنّهم السبب لهذا الانكماش، وتصفهم بالانغلاق والتقوقع، ونظرة الاستعلاء على المجتمع، وعدم امتلاك الفكرة النهضوية، والثقة الكافية، وعدم الدخول العملي المؤثر ضمن النسيج الاجتماعي، و….

ـ الثانية: الأسباب الخارجية

بينما تفسّر النظرة الثانية أسباب المشكلة بأسباب موضوعية خارجة عن نطاق الفعل النخبوي، تُعزى إلى المجتمع والقوى ذات القرار فيه، فهي لا تعطي المثقف فرصة للقيام بذلك، كما تصف المثقف بأقذع أوصاف السخرية والاستهجان (فلاسفة، باشاوات، …)، هذه النظرة التي تلقي بظلالها النفسية على المثقف ليصدّ ـ فيما بعد ـ عن العمل الجمعي، ويبتعد عنه.
ولعلّنا لا نرتئي التفسير الأحادي المنطلق في أيّ من النظريتين، ونرى أنّ السبب الحقيقي هو مركب مزجي من عناصر متداخلة من الأسباب: الذاتية والخارجية، لكنّنا ـ في الوقت نفسه ـ نؤمن بضرورة تحطيم تلك العقبات، والانطلاق نحو الفضاء الواسع المنفتح، كما نؤمن بأنّ المثقف يملك كامل الآليات والقدرة على ذلك، وإن كان يحتاج منه إلى كدح ونشاط، لكنّها طبيعة الحياة القائمة على الأسباب والمسببات: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ 3، ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ 4، “أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكلّ شيء منها سبباً”.
فمتى تكتحل الأجفان بدور ريادي لنخبتنا المثقفة؟!
عسى ذلك أن يكون قريباً..56.

  • 1. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 11، الصفحة: 250.
  • 2. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 60، الصفحة: 184.
  • 3. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 20، الصفحة: 284.
  • 4. القران الكريم: سورة الإنشقاق (84)، الآية: 6، الصفحة: 589.
  • 5. المصادر:
    – القرآن الكريم.
    – الشافعي، الإمام محمد بن إدريس (ت 204هـ/ 820م). ديوان الإمام الشافعي. جمع وتحقيق: الدكتور صابر القادري/91. ط1. بيروت وصيدا/ لبنان: المكتبة العصرية، 1426هـ/ 2005م.
    – المجلسي، العلامة محمد باقر (ت 1111هـ/ 1699م). بحار الأنوار 2/ 90، الباب 14، ح 15. ط4. بيروت/ لبنان: مؤسسة أهل البيت، 1409هـ/ 1989م..
  • 6. نقلا عن شبكة مزن الثقافية – 7/2/2016م – 1:36 م
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى