مقال قيم لسماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ( حفظه الله ) يتناول فيه تاريخ الخوارج سياسياً و عقائدياً ، كما و يتناول موقف الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) منهم .
بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله ، و الصلاة و السلام على محمد و آله الأطهار .
ظهور الخوارج
الخوارج : فرقة ظهرت في النصف الأول من القرن الأول الهجري ، و بالذات في مناسبة حرب صفين التي دارت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الخليفة الشرعي من جهة ، و بين معاوية بن أبي سفيان ، الذي كان يحاول الاستئثار بهذا الأمر لنفسه من جهة أخرى ، حيث رأى معاوية : أن علياً سيربح الحرب لو استمرت ، فأمر ـ بمشورة من عمرو بن العاص ـ برفع المصاحف ، الأمر الذي إنجر إلى التحكيم . و كان أولئك المعترضون على قبول علي للتحكيم هم أنفسهم الذين كانوا قد أجبروه عليه من قبل ، كما اعترفوا به هم أنفسهم ، كما صرحت به النصوص التاريخية الكثيرة جداً ، و هذا ما يكذب ما يدعيه البعض من أن الخوارج كانوا هم المعارضين للتحكيم من أول الأمر .
نعم . . إن هؤلاء قد حكموا على علي عليه السلام بالكفر لأجل قبوله التحكيم الذي أجبروه هم عليه ، كما كفَّروا الخليفة الثالث عثمان بسبب بعض المخالفات التي صدرت عنه في السنين الأخيرة من خلافته ، هذا فضلاً عن تكفيرهم طلحة و الزبير و عائشة و غيرهم .
ثم إنهم خرجوا على علي عليه السلام و حاربوه ، و كان من جملة ما احتجوا به لحربهم إياه : أن قالوا : ” زعم أنه وصي فضيّع الوصيّة ” كما ذكره اليعقوبي ، نعم و هؤلاء بالذات و أتباعهم هم الذين سُموا بالخوارج ، و هم محط بحثنا الآن .
موقف علي عليه السلام من الخوارج
و قد عالج أمير المؤمنين عليه السلام قضية الخوارج بحكمة و مرونة ، ثم بحزم و بحسم أيضاً ، حيث حاول أولاً أن يقنعهم بخطئهم في تصوراتهم و مواقفهم ، فناقشهم و وعظهم هو و أصحابه : ابن عباس و غيره ، و أقاموا عليهم الحجة ، حتى رجع منهم الألوف .
و يلاحظ هنا : أنه عليه السلام ينهى ابن عباس عن أن يخاصمهم بالقرآن ، فإن القرآن حمال ذو وجوه ، و لكن يخاصمهم بالسنة ، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً .
كما أنه هو نفسه قد التزم بذلك إلى حدٍ كبير ، حيث نجده يهتم بأن يحتج عليهم بأقوال النبي ( صلى الله عليه و آله ) و أعماله بالدرجة الأولى ، فاحتج عليهم بأنه ( صلى الله عليه و آله ) قد رجم الزاني ثم صلى عليه و ورثه أهله ، و قتل القاتل كذلك ، و قطع السارق و جلد الزاني غير المحصن ، ثم قسم عليهما من الفيء ، و نكحا المسلمات ، فأخذهم ( صلى الله عليه و آله ) بذنوبهم ، و لم يمنعهم سهمهم من الإسلام ، و لا أخرج أسماءهم من بين أهله .
و احتج عليهم أيضاً بمنِّ النبي ( صلى الله عليه و آله ) على أهل مكة فلم يسب نساءهم و لا ذريتهم ، و بمحوه ( صلى الله عليه و آله ) كلمة : ( رسول الله ) من صحيفة الحديبية ، و بإعطائه النصفة لأهل نجران ، حيث قال : ” ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ” و بتحكيمه سعد بن معاذ في بني قريظة الذين نقضوا العهد .
و لكن . . رغم كل تلك المحاولات و المواعظ و الاحتجاجات ، و رغم رجوع الألوف منهم عن غيهم ، فقد بقيت بقيّة حوالي أربعة آلاف أبو إلا البقاء على ما هم عليه ، و محاربته ، و قتلوا الأبرياء ، حتى النساء ، و أخافوا السبيل ، و أفسدوا في الأرض ، فاضطر عليه السلام لمحاربتهم لدفع شرهم ، و إخماد نار فتنتهم ، فحاربهم ، و قتلهم ، و لم يفلت منهم إلا أقل من عشرة ، كما لم يستشهد من أصحابه إلا أقل من عشرة ، كما أخبر به عليه السلام قبل ذلك .
و يقول المؤرخون : إن الذين أفلتوا من القتل قد أصبحوا بذرات أخرى للخوارج في مناطق عديدة فيما بعد .
و أما أولئك الذين استأمنوا ، فقد صاروا يخرجون على عليّ عليه السلام و على غيره بعد ذلك ، فخرج منهم ألفان على الإمام في النخيلة فقضى عليهم . ثم صار الخوارج يخرجون عليه في شراذم قليلة في بضعة مئات أو أقل أو أكثر في الأنبار ، و ماسبذان ، و جرجرايا ، و المدائن ، و سواد الكوفة ، فكان يقضي على حركاتهم تلك الواحدة تلو الأخرى بيسر و سهولة .
أنا فقأت عين الفتنة
و يقول عليه السلام عن حربه للخوارج و لغيرهم :
” أنا فقأت عين الفتنة ، ولم تكن ليجرؤ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها و اشتد كلبها ” .
و في رواية أخرى لهذا النص بدل ذيل الكلام : ” و لو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون ، و لا القاسطون ، و لا المارقون ” .
و في نص آخر : ” ما قوتل أصحاب الجمل و النهروان ” .
و يبدو أن سر ذلك هو أنه قد كان على رأس الناكثين : طلحة و الزبير ، و هما من أهل السابقة في الإسلام ، ثم أم المؤمنين عائشة زوجة الرسول ، و بنت الخليفة الأول أبي بكر ، المرأة الذكية و الشجاعة ، و التي كانت تحظى بعناية و رعاية خاصة من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، الذي يتميز بعظمة خاصة في نفوس الناس ، و شاع و ذاع عنه ما لا يمكن تجاهله أو إنكاره .
و كان معاوية يتزعم القاسطين ، و عمر هو الذي جعله على بلاد الشام ، و كان يعامله معاملة متميزة ، و بقي على عمله إلى أن توفي عمر ، ثم طيلة خلافة عثمان ، و تربى أهل تلك البلاد على أفكاره و اتجاهاته ، و أصبحت بلاد الشام سفيانية كما أشار إليه الأصمعي و غيره . ثم هناك الشبهات التي كان يلقيها معاوية في الناس بالنسبة لمقتل عثمان .
أما المارقون . . فكانوا معروفين بالعبادة و الزهد ، فالإقدام على حربهم و قتلهم لم يكن أمراً سهلاً و ميسوراً لكل أحد .
أما علي عليه السلام . . فقد كانت مكانته بين المسلمين معروفة لدى كل أحد ، و كانت الأمة لا تزال تسمع من وعي النبي ( صلى الله عليه و آله ) الكثير الكثير مما يدل على فضله ، و أنه مع الحق و الحق معه ، و انه منه بمنزلة هارون من موسى . حتى ليصبح قتاله للخوارج و لغيرهم حتى عائشة دليلاً صريحاً على تعديهم و ظلمهم ، أو خطئهم في موقفهم على الأقل .
نعم . . و قد رأينا الكثيرين من الخوارج عليه ـ عليه السلام ـ يشكون في صحة و سلامة موقفهم منه ، حتى إذا جاء العهد الأموي بدءً من معاوية ، قالوا : قد جاء الآن ما لا شك فيه . ثم أخذوا على عاتقهم مهمة قتال الأمويين بكل ضراوة و عنف ، كما هو معلوم .
لا تقتلوا الخوارج بعدي
و بعد . . فإنا نجد علياً الذي يحارب الخوارج و يستأصل شأفتهم يوصي الناس و شيعته بأن لا يقاتلوا الخوارج بعده ، و يعلل ذلك بأنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه .
و أيضاً . . فقد ذكرت الحرورية عنده ، فقال : إن خرجوا على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم ، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم ، فإن لهم في ذلك مقالاً .
و لعل سر ذلك هو :
أولاً : إن الخوارج في المستقبل سيقاتلون الأمويين الذين كانوا أشد خطراً على الإسلام و الأمة ، لأن دعوتهم و طريقتهم تستهوي النفوس الضعيفة ، لأنهم يدعون إلى الدنيا و إلى زبارجها و بهارجها ، و هذا ما ينساق إليه الناس بغرائزهم و يلائم هوى نفوسهم . كما أنهم قد تلاعبوا في عقائد المسلمين و غيروها و أدخلوا عليهم فيها الشُبَه و الإسرائيليات و غير ذلك مما لا مجال لذكره هنا . في حين أنه كان لهم القدح المعلى و القدم الثابت في الانحراف ، مع خبث نفوسهم ، و شدة ظلمهم و فجورهم .
يقول علي عليه السلام بعد كلامه السابق عن الخوارج : ” ألا إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية فإنها فتنة عمياء مظلمة ، عمت خطتها ، و أصاب البلاء من أبصر فيها ، و اخطأ البلاء من عمي عنها . و أيم الله ، لتجدن بني أمية لكم أرباب سوء ، كالنار الضروس تعذم بفيها ، و تخبط بيدها ، و تزبن برجلها ، و تمنع درها . ـ إلى أن قال ـ : لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعاً لهم ، أو غير ضائر بهم . ـ إلى أن قال ـ : ترد فتنتهم شوهاء مخشية ، و قطعاً جاهلية ، ليس فيها منار هدى ، و لا علم يرى ” .
أما دعوة الخوارج فلم يكن لها ذلك الخطر ، و ذلك لما يلي :
ألف : لقد كان الخوارج ـ عموماً ـ أعراباً جفاة ، لا ثقافة و لا معرفة لديهم ، يشكلون بها خطراً على الدين بشبهاتهم و انحرافاتهم .
ب : إن دعوتهم لم تكن تنسجم مع الفطرة و لا تتقبلها العقول . و إذا ما استهوت بعض شعاراتهم بعض البسطاء و السذج لبعض الوقت فإنها لا تلبث أن تنحسر و تتلاشى بمجرد دعوتهم إلى الفطرة ، و العقل السليم ، و الفكر المستقيم .
يضاف إلى ذلك : حِدِّيتهم المتناهية في التعامل مع سائر المسلمين حيث لم يكن قلوبهم تعرف الرحمة و الشفقة حتى للأطفال و النساء .
فالأزارقة و قد كانوا أعظم فرقهم و أشدها شوكة ، و قد استولوا على الأهواز و أرض فارس و كرمان و جبوا خراجها سنوات عديدة . إن هؤلاء يقولون بكفر جميع من عداهم ، و لا يحق لأصحابهم المؤمنين منهم أن يجيبوا أحداً من غيرهم إلى الصلاة إذا دعا إليها ، و لا أن يأكلوا ذبائحهم ، أو يتزوجوا منهم ، أو يرثوا منهم ، أو يورثوهم ، و يكون غيرهم مثل كفار العرب ، و عبدة الأوثان ، لا يقبل منهم إلا الإسلام و السيف ، و دارهم دار حرب ، و يحل قتل أطفالهم و نسائهم ، و يحل لهم الغدر بمن خالفهم ، و لا تجوز التقية ، إلى غير ذلك مما لا مجال لذكره هنا .
ج : إن الخوارج إنما حاربوا علياً عليه السلام لشبهة تمكنت من نفوسهم ، و زين لهم الشيطان أنهم ظاهرون و منتصرون ، فهم قد طلبوا الحق فوقعوا في الباطل . و إذا كان قد خالط ذلك الشيء من حب الدنيا و المصالح الشخصية و المفاهيم الجاهلية ، و العصبيات القبلية ، فإنما كان ذلك ملبساً بلباس ديني ، و شبهة كانت طاغية على فهمهم و إدراكهم و مبررة على هذا الأساس ، فكانوا ـ كما عن علي عليه السلام ـ مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ 1 .
ثانياً : إن ظاهر الخوارج هو أنهم من العباد و الزهاد ، فمن يتصدى لحربهم ـ سوى علي عليه السلام ـ لم يكن يستطيع أن يدافع عن نفسه كثيراً و لاسيما إذا كان الإعلام ـ حتى الأموي ـ ضده ، و يعمل على تشويهه ، و تحطيم كل مقومات حياته و وجوده .
كما أن العراق الميال لعلي و أهل بيته عليهم السلام سينشغل بقضية لن تكون نتائجها إلا زعزعة ثباته ، و تمزق أوصاله ، و يقلل من فرص إجتياح المد الشيعي على شكل التعاطف مع أهل البيت لمناطق أخرى تقع في نطاق اهتمامات الحكم الأموي .
كما أن تولي هؤلاء لحرب الخوارج معناه أن يتحملوا هم آثار الحرب و مخلفاتها غير المرغوب فيها ، و لاسيما ما ينشأ عن سفك الدماء عادة من الأحقاد ، ثم زعزعت الثوابت على الصعيد القبلي و العاطفي .
ثالثاً : لقد كان الشيعة قلة و مضطهدين من قبل الحكم الأموي ، فتكليفهم بقتال الخوارج معناه المزيد من إضعافهم هم و الخوارج مع بقاء الحكم الأموي محتفظاً بكامل قواه ، يتحكم بمقدرات الأمة ، و يسومها الخسف و الذل .
و قد حاول الأمويون ابتداء من معاوية الزج بأهل البيت و شيعتهم في حرب الخوارج فأرسل معاوية إلى الإمام الحسن عليه السلام و هو في طريقه من الكوفة إلى المدينة يدعوه لحربهم ، فرفض عليه السلام طلبه و كتب إليه : ” لو آثرت أن أقاتل أهل القبلة لبدأت بقتالك ” ، و في مناسبة أخرى على ما يظهر يذكره عليه السلام بأن ليس من طلب الحق فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه فأسكت معاوية .
إلا أن الظاهر هو أن الأمويين قد استطاعوا أن يجيبوا الشيعة على حربهم ، و قد نكل الحجاج بأهل العراق ، و قتل من قتل و فعل بهم الأفاعيل في مجال إرغامهم على ذلك .
علي عليه السلام و جرحى الخوارج
و يقول البلاذري عن حرب النهروان :
” و وجد علي عليه السلام ممن به رمق أربع مائة فدفعهم إلى عشائرهم و لم يجهز عليهم و رد الرقيق على أهله حينما قدم الكوفة ، و قسم الكراع و السلاح و ما قوتل به بين أصحابه ” ، و هذا معناه أنه حينما أخبر عليه السلام أنه لا يفلت منهم عشرة كان يقصد أنه لا يفلت منهم و لو من الجراحة نعم . . و كذلك فعل عليه السلام مع جرحاهم الأربعين في سواد الكوفة و ذلك يعبر عن انه عليه السلام إنما كان يتعامل معهم من منطلق إنساني إسلامي بعيداً عن أي تأثر و انفعال و لم يكن كأولئك الذين لا ينطلقون في مواقفهم إلا من مصالحهم الشخصية و على أساس من انفعالاتهم و عصبياتهم .
عوامل ساعدت على ظهور الخوارج
و بعد . . فلم يكن ظهور الخوارج في مناسبة حرب صفين أمراً عفوياً وليد ساعته ، و إنما كان ثمة أجواء و مناخات ، و عوامل و أسباب ساعدت على ظهورهم ، و نذكر منها :
العامل الثقافي الناقص أو المنحرف ، حيث كانوا في الأكثر أعراباً جفاة ، لم يستضيئوا بنور العلم ، و لا اهتدوا بهدى العقل .
إن أكثرهم كانوا من تميم ، و هي من ربيعة ، و كانت القبائل الربيعية ـ حسبما يراه البعض ـ تحسد قريشاً على استيلائها على الخلافة ، و بينها و بين مضر إحن جاهلية ، خفف الإسلام من حدتها ، و لم يذهب بكل قوتها . و لعل لأجل ذلك نجد أبا حمزة الخارجي حينما غزا المدينة كان يقتل القرشي و يدع الأنصاري ، كما أن الأصمعي يصف الجزيرة بأنها خارجية ، لأنها مسكن ربيعة ، و هي رأس كل فتنة .
لقد شاع عن الخوارج : أنهم من الزهاد و العباد حتى اعتقد كثير من الباحثين : أن ثورتهم كانت خالصة لله تعالى ، و لم يكن للدنيا في تفكيرهم أي نصيب . و لكن الذين يبدو هو أن الدنيا كانت تستأثر بجانب كبير من تفكيرهم ، و اهتماماتهم ، و قد كان لمفاهيمهم الجاهلية ، و عصبياتهم القبلية و مصالحهم الشخصية ، و أملهم بالفوز و النصر أثر كبير في إصرارهم على موقفهم ذاك من علي عليه السلام ، و الذي كان مبنياً على حالة من الشك و التردد كما صرحوا به أنفسهم ، و كما صرح به الإمام الصادق عليه السلام . أما موقفهم من الأمويين و غيرهم من حكام الجور فقد كان لهم فيه مقالاً ـ كما عن علي عليه السلام ـ و لم يكن لديهم أدنى شك في صحته و سلامته . و لكن ذلك لا يعني أنهم في حربهم لهم لا يطلبون الحكم و السلطان ، أو الحصول على شيء من حطام الدنيا أيضاً ، فإن ذلك كان مد نظرهم ، و مطمح نفوسهم ، و كشاهد على كل ما تقدم نذكر :
ألف ـ إن علياً عليه السلام يقول عنهم : ” غرهم الشيطان ، و أنفس بالسوء أمارة ، غرتهم بالأماني ، و زينت لهم المعاصي ، و نبأتهم بأنهم ظاهرون ” .
و يدل على صحة ذلك : ما كانوا يرتكبونه من جرائم و موبقات في حق الأبرياء حتى النساء و الأطفال ، و حتى قبل معركة النهروان أي قبل أن يضعوا لأنفسهم منهجاً عقائدياً يبيح لهم تلك العظائم و الجرائم .
ب ـ إن من جملة ما نقموه على علي عليه السلام : أنه لم يقسم بينهم السبي في حرب الجمل ، كما قسم بينهم الغنائم .
ج ـ إن شيخاً منهم بعد أن رجع عن مقاتلتهم أخبر عنهم : أنهم كانوا إذا هووا أمراً صيروا حديثاً .
د ـ إن شبيب بن يزيد الشيباني قد طلب من عبد الملك أن يفرض له في أهل الشرف ، فرفض ، فغضب و جمع الرجال ، و خرج عليه يحاربه .
و قد أخذ أتباعه عليه ، أنه كان لا يطبق التعاليم الخارجية على قومه . أما نجدة الخارجي ، فلم يعاقب رجلاً كان يشرب الخمر في معسكره ، بحجة أنه شديد النكاية على العدو . و بعض زعمائهم و هو عبيدة بن هلال يتهم بامرأة حداد ، فيحتال خليفتهم ( قطري بن الفجأة ) لتبرئته .
هـ ـ و في بعض حروبهم : ( جعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها ، و السوط ، و العلف ، و الحشيش ، أشدّ قتال ) .
و ـ و زياد بن أبيه يولي أحدهم سابور و يرزقه أربعة آلاف درهم كل شهر ، فيلزم الطاعة ، و لا يفارق الجماعة ، على حدّ تعبيرهم ، كما أن زياداً حينما يعطيهم ما يركبون يقبلون بالتردد عليه ، و السمر عنده .
ز ـ بل إننا نجدهم مستعدّين لان يقتل بعضهم بعضاً في قِبال إطلاق سراحهم من سجن ابن زياد .
إلى غير ذلك من الشواهد التي لا مجال لتتبعها .
4 ـ إن العراق الذي كان على اتصال مباشر بغير العرب قبل فتحه في عهد عمر بن الخطاب ، الذي كان له سياسة خاصة في تمييز العرب على غيرهم ، كان ينظر إلى الخليفة الثاني نظرة خاصة متميزة ، حتى إن علياً لم يستطع أن يمنع جنده من صلاة التراويح حيث تنادوا : يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر ، كما لم يستطع أن يعزل شريحاً عن القضاء ، لأنه منصوب من قبل عمر ، و قد بايعوه على أن لا يغير شيئاً مما قرره أبو بكر و عمر ، على حد تعبيرهم . و أصحاب الجمل أيضاً قد نادوا بأمير المؤمنين : أعطنا سنة العمرين ، و قال الخوارج لقيس بن سعد : ” لسنا متابعيكم أبداً أو تأتونا بمثل عمر ” إلى غير ذلك مما يدل على عظمة الخليفة الثاني في نفوس الناس و الخوارج بالذات .
و ما اشتهر من أن الكوفة كانت علوية ، فإنما كان ذلك بعد استيطان علي عليه السلام لها ، و بذله الكثير من الجهود في سبيل توعية أهلها على الكثير من الحقائق التي كان لا بُدَّ لهم من التعرف عليها . و من ذلك مناشدته للناس بحديث الغدير في رحبة الكوفة ، و في صفين ، و إخباراته الغيبية الكثيرة لهم ، و منه إخباره بمصير أهل النهروان ، و بحديث المخدّج ، و غير ذلك .
و مع ذلك فلم يكن في الكوفة خمسون رجلاً يعرفونه حق معرفته ، و حق معرفة إمامته كما عن الإمام الصادق ، و إنما يحاربون معه وفاء بالبيعة التي كانت له في أعناقهم ، بالإضافة إلى ما سمعوه من وعن النبي صلى الله عليه و آله في فضله الأمر الذي جعل له مكانة و احتراماً خاصاً لديهم .
5 ـ إن العراق قد فتح في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ليواجه الحياة العسكرية ، و يتحمل آثارها النفسية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية . و إذا كان يرافق ذلك عدم توفر العمق الإيماني إلا في حدود العواطف و الأحاسيس و عدم توفر العناية الكاملة بالتربية الإسلامية ، و التأهيل لاستيعاب التعاليم الإلهية ، ثم التفاعل معها بالشكل المناسب و المقبول ، و المفاهيم الجاهلية ، و الأهواء ، والطابع المميز للحياة آنئذٍ ، و لاسيما على مستوى الزعامات القبلية ، مع فارق وحيد ، و هو أن ذلك أصبح يتلون و يتلبس باسم الدين ، و يستفاد منه في التمرير و التبرير ، و الدين من ذلك كله برئ .
6 ـ إن الذين حاربوا علياً في وقعة الجمل ، و الذين يتعاطفون مع عثمان في محنته التي تعرض لها ، قد أصبحوا الآن في جيش علي عليه السلام فقد كان حي الناعطين في الكوفة عثمانياً ، كما أن الناس كانوا بعد حرب صفين ، فيهم المعجب بنتائجها ، و فيهم الكاره ، و الغاش و الناصح كما يقولون . و إذن . . فليس لنا أن نتوقع من هؤلاء بملاحظة حالتهم الثقافية الدينية ، و علاقاتهم القبلية ، و غير ذلك ، أن يكونوا مخلصين له كل الإخلاص . و لاسيما و أنهم هم الذين يتحملون أعباء الحرب و آثارها لا يرون أنهم يحصلون في مقابل ذلك على نفع يذكر حسب مقاييسهم و مفاهيمهم عن الربح و الخسران في حالات كهذه .
و إذا كان علي عليه السلام لا يقيم وزناً للزعامات القبلية و يقيم علاقاته معها على أساس ما تملكه من معان إنسانية نبيلة ، و ما تقدمه من خدمات في سبيل الدين و الإنسان ، و لم يكن ليميّز أحداً على أحد مهما كانت الظروف و الأحوال . و إذا كان أهل الشام يعتبرون قضية معاوية قضيتهم ، و مصيره مصيرهم ، و هو يبذل الأموال فيهم ، و يشتري الرجال ـ إذا كان كل ذلك ـ فإن الفرصة تكون مواتية لمعاوية ليصطاد الزعامات القبلية في عراق علي بالذات ، و يتحفهم بالأموال و الأماني سراً و جهراً ، و يكيد بهم علياً و الإسلام . و لم يكن ثمة مناعات أو حصانات كافية للوقوف في وجه أمر كهذا ، حسبما تقدم .
أما تركيبة الخوارج ، فلم تكن لتشجع على التفاؤل ـ فبالإضافة إلى أنهم أعراف جفاة يهيمن عليهم الجهل و القسوة ـ قد كانوا أخلاطاً من العرب و الموالي ، و العرب منهم يحتقرون الموالى . كما أن معظمهم كان من السفلة فلم يكونوا من أهل البيوتات المعروفة بالشرف و السؤدد ، و لا كان ثمة تقارب في المآرب و الأغراض التي كان كل منهم يطمح إلى تحقيقيها ، و لذا . . فقد كان من الطبيعي أن تكثر بينهم التحزبات و الإنقسامات ، و ليترك ذلك آثاراً بارزة على قدراتهم ، و فعالية مواقفهم و حركاتهم .
الخوارج . . و الأمويون
تركيبة الخوارج
و أما بعد عهد علي عليه السلام فلقد حارب الخوارج الأمويين بضراوة و عنف ، حتى أنهكوا الحكم الأموي ، و مهدوا السبيل لإسقاطه ، و كان إنشغال مروان الجعدي بحربهم مانعاً له عن أن يمد يد العون لعامله نصر بن سيار الذي كان يواجه الضربات الساحقة من أبي مسلم الخراساني القائم بأمر الدعوة العباسية ، بل إن المهلب بن أبي صفرة الذي قاتل الخوارج في عهد الزبيريين و الأمويين معاً قد حاول الاستفادة من شخصية و شعارات طالما جهد الزبيريون و الأمويون في طمسها و القضاء عليها ، فيخطب أصحابه محرضاً لهم على قتالهم ، فيكون مما يقول : ” قاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ” ، ثم جعل شعار أصحابه ـ لو تعرضوا للبيات من قبل الخوارج ـ : ( حم ، لا ينصرون ) و هو شعار النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، و يروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب عليه السلام ، كما يروي المعتزلي .
و يبدو أن سياسة الأمويين الظالمة تجاه الناس ، قد ساهمت في إقبال الناس على الإنخراط في سلك الخوارج لمحاربتهم حتى ليبلغ عدد جيش الضحاك الخارجي مئة و عشرين ألفاً كما يقولون .
الخوارج في العهد العباسي
كما أن الخوارج قد حاربوا العباسيين في مناسبات كثيرة ، و لكن بفعالية أقل مما كانت عليه في السابق ، فإن جذوتهم بدأت تخبوا ، و خطرهم بدأ ينحسر ، و لذا فلا نرى لتفصيل الكلام في حركاتهم كبير فائدة .
نعم . . لا بُدَّ من الإشارة إلى أن نحلة الخوارج قد ظهرت في أواخر العهد الأموي بين البربر في الشمال الإفريقي و قوى أمرهم ، و حاربوا حكام تلك البلاد ، حتى سيطروا على القيروان حتى أخرجها منهم يزيد بن حاتم بن قبيصة ، الذي أرسله المنصور العباسي .
كما أن بعض أسر الخوارج قد حكمت تاهرت لأكثر من 130 عاماً حتى أزالهم عنها الفاطميون . و لعل سر انتشار هذه النحلة بين البربر هو سذاجة هؤلاء و سطحيتهم آنئذٍ ، ثم انجذابهم إلى الشعارات البراقة التي كان الخوارج يرفعونها باسم الدين ، بالإضافة إلى الظروف الخاصة التي كان يعاني منها البربر .
و لكن هؤلاء البربر أنفسهم قد عادوا إلى التشيع بمجرد ظهور الفاطميين ، و كانوا دعامة ملكهم . و إن كان لا يزال البعض منهم يعتنق نحلة الخوارج و يعيشون في بعض المناطق في الشمال الإفريقي حتى الآن .
مفارقات هامة في سياسات الخوارج
و نجد أن المواقف السياسية للخوارج بعض المفارقات مثل :
ألف ـ ما يذكره البعض : من أنهم قد بايعوا زيد بن علي ، حينما ثار على الحكم الأموي ، كما أن بعض شعرائهم و هو حبيب بن جدرة الهلالي قد رثاه حينما استشهد . مع أن زيداً هذا هو حفيد علي عليه السلام الذي قتلهم و أباد خضراءهم ، و كانت دعوته شيعية علوية خالصة .
ب ـ إن شيبان بن سلمة الخارجي ، زعيم الفرقة الشيبانية قد أعان أبا مسلم الخراساني القائم بأمر الدعوة العباسية و ابن الكرماني على العامل الأموي نصر بن سيار .
ج ـ إنهم قد أعانوا ابن الزبير أيضاً ، حيث قد وجدوا : أن من واجبهم أن يمنعوا حرم الله من الغزو الأموي ، فذهبوا إلى ابن الزبير ، فأظهر لهم أنه على رأيهم ، فقاتلوا معه أهل الشام ، ثم امتحنوه فظهر لهم أنه مخالف لهم فتركوه و كان ذلك سنة 64ﻫ .
د ـ قال ابن خلدون : ” و ولى مروان على العراق النضر بن سعيد الحريشي ، و عزل به عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ، فامتنع عبد الله بالحيرة ، و سار إليه النضر و تحاربا أشهراً ، و كانت الصفرية مع النضر عصبة لمروان ، لطلبه بدم الوليد ، و أمه قيسية ” .
و من المعلوم : أن الصفرية هم إحدى فرق الخوارج الكبرى و لا سيما في أواخر العهد الأموي .
انحسار دعوة الخوارج و أسبابه :
قد تقدم ما يوضح بعض أسباب انحسار دعوة الخوارج عن مناطق الحركة العلمية ، و النشاط الثقافي ، و النفوذ و القوة و الازدهار ليعيشوا في مناطق نائية حياة فيها الكثير من مظاهر الجهل و القسوة و البداوة ، و حرمهم إلى حد كبير من المساهمة في المد الثقافي و العلمي الذي كان يزداد قوة يوماً عن يوم ، ثم من التمتع بكثير من الطيبات التي أحلها الله لعباده . حتى أصبحوا في نهاية الأمر لصوصاً سلابين كما أخبر به علي عليه السلام ، و نص عليه عدد من المؤرخين و الباحثين .
و نؤكد على أن مما ساهم في إنحسار دعوتهم ، و تحجيم نشاطهم سرعة تفرقهم ، و تشعبهم فرقاً و أحزاباً ، بسبب أنهم ـ كما قال علي عليه السلام ـ : ” معاشر اخفاء الهام سفهاء الأحلام ” الأمر الذي أعطى لأعدائهم الفرصة للاستفادة من هذه الحالة ، فكان الملهب يحاول إلقاء الخلاف بينهم ، و قد نجح في ذلك إلى حدٍ ما .
ثم هناك تركيبتهم غير المتناسقة ، ثم ظروفهم الحياتية و حالتهم الفكرية و الثقافية . ثم طبيعة تعاليمهم ، التي كانت تنعكس على مواقفهم ، و على تحركهم السياسي و العسكري ، و غير ذلك ، و تؤثر في حِدِّيتهم في مواقفهم ، و تجعلها تتسم بالعفوية و الارتجال ، و لا تساعد على التخطيط السري المنظم لها .
هذا كله بالإضافة إلى عدم وضوح كثير من الأمور الدينية لهم ، حيث لم يكونوا قادرين على التمييز بين الإيمان و الكفر و موجباتهما .
تساهل الخوارج عبر الزمن
و يلاحظ هنا : أنه كلما طال العهد كلما اتجه الخوارج إلى التخفيف من حدة تعاليمهم و عقائدهم ، تبعاً لازدياد معارفهم و إدراكاتهم لضرورات الحياة . حتى لقد تساهلوا في موقفهم بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام ، فقد جنح التناوتي إلى الاعتدال في مسألة الحكم على علي عليه السلام و هي دائماً من أمهات المسائل عند الإباضية ، فإن عمدة و محور مذهب الخوارج ، و المبرر لوجودهم هو تكفير الخليفتين عثمان و علي عليه السلام . بل لقد نقل لنا بعض الإخوان عن بعض علمائهم في الجزائر : أنهم يظهرون الحب لعلي و آله و ينكرون أن يكون ابن ملجم قاتل علي عليه السلام منهم . فإن صح هذا . فإنه يكون تطوراً جديداً و هاماً جداً في مذهب الخوارج .
و إن تساهل الإباضية في كثير من الأمور ـ حتى أننا لا نجد إلا القليل من أوجه الشبه بينهم و بين أسلافهم في الصدر الأول ـ ليفسر لنا بقاءهم على مر الزمن بينما نجد غيرهم من الفرق قد بادوا و انقرضوا بسرعة منذ القرون الأولى . فإن تساهلهم هذا . . قد ساهم طبيعياً في إزالة كثير من نقاط الضعف التي سبقت الإشارة إلى بعضها .
عقائد الإباضية و فقههم
و ما دمنا في الحديث عن فرقة الإباضية ، فلا بأس بالإشارة إلى أنه ربما يتصور البعض : أن هذه الفرقة قد تأثرت في عقائدها بالمعتزلة . و ذلك لمخالفتها أهل السنة في أصول عقائدية هامة حيث قالت بعدم تجسيم الله تعالى ، و بعدم رؤيته تعالى في الآخرة ، و عدم قِدَم القرآن ، و عدم القول بالجبر و القدر .
و لكن الحقيقة هي : أن الخوارج لم يتح لهم الاختلاط بالمعتزلة ، و لا عايشوا التيارات الفكرية بصورة فعالة ، كما أن تفرقهم في البلاد البعيدة عن العواصم الإسلامية قد جعلهم في مأمن من المد العارم لأحاديث الإسرائيليات ، و بقوا في تعاملهم مع النصوص على طبعهم العربي الساذج . و هذا يعني : أنهم قد توصلوا إلى آرائهم العقائدية تلك بأنفسهم و من دون تأثر بأحد .
نعم . . نجد في التاريخ : أن عبد الله بن أباض مؤسس الإباضية قد عاد إلى الاعتزال ، و لذلك ، فإن أصحابه لا يعظمون أمره ، و ذلك أمر آخر لا يرتبط بهذا الذي نحن بصدده .
و لا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن بعض فرق الخوارج كانت تعتقد بالمهدية ـ حسب بعض النصوص ـ و إن كانت سائر الفرق قد سكتت عن هذا الأمر و أغفلت التعرض إليه .
و بالنسبة لفقه الإباضية ، و غيرهم . فإننا نقول : إن صبغة الخوارج كانت أولاً سياسية ، ثم في عهد عبد الملك مزجوا تعاليمهم السياسية بأبحاث عقائدية . و كان الخوارج الأولون يعتمدون على فهمهم الخاص للآيات القرآنية ، و على استنباطاتهم العقلية المحدودة في مجال التحديات العملية للتصرفات و المواقف التي كانت تفرض نفسها ـ آنياً ـ عليهم . فكانت تلك الاستفادات و الاستنباطات سريعة و مرتجلة تتسم بالسطحية ، و تهيمن عليها بالميول ، و العواطف و الأحاسيس ثم لا تلبث أن تتحول إلى مبدأ و عقيدة تزهق من أجلها النفوس و تبذل في سبيلها المهج .
و لكن مما لاشك فيه هو أن كثيراً من فتاواهم و آراءهم كانت جديرة بالاحترام و التقدير ، لأنها مأخوذة من السيرة العملية التي كانت رائجة في الصدر الأول ، أو نابعة من طبيعتهم البدوية الساذجة و الصافية ، أو منساقة مع الفهم الفطري للآيات القرآنية ، و للسنة النبوية في أحيان كثيرة .
إلا أن التزامهم بالحرفية التامة قد أدى في حالات كثيرة إلى ظهور كثير من السخافات المضحكة ، بالإضافة إلى السطحية و قصور النظر و لكن المهم هو أن تلك الآراء و الفتاوى الصحيحة عندهم ـ و لم تكن كثرتها كبيرة ـ قد كانت ـ طبيعياً ـ مجرد حالات جزئية منفصلة تماماً عن كل ما سواها فلم يكونوا يملكون تصوراً عاماً ، و لا نظرة شمولية ، من شأنها أن تعطيهم القدرة على استيعاب المعارف المختلفة و توجيهها وجهة صحيحة في مجال الاستنتاج و إدراك أبعاد الموضوع ، و ما يرتبط به . و لعل ذلك يفسر لنا أمر علي عليه السلام لابن عباس بأن ” لا تخاصمهم بالقرآن فإنه حمال ذو وجوه ” .
و بعد . . فإن حدة الخوارج في مواجهة المخالفات كان من شأنه أن يضفي لوناً غير مرغوب فيه ، و ينفر الناس منهم و من آرائهم الفقهية حتى الصحيحة منها .
إلا أنه و بسبب اتساع مدارك الخوارج ، و إدراكهم طرفاً من ضرورات الحياة و مقتضياتها قد اتجهوا ـ و نخص بالذكر الإباضية منهم ـ نحو التخفيف النسبي من حدة بعض التعاليم و العقائد التي عرفت عنهم . ثم و بسبب بُعد بلادهم عن الاهتمامات المباشرة للحكام ، و لأنهم قد نعموا بالاستقرار النسبي ، فقد أتيحت لهم الفرصة للتأليف في عقائدهم و فقههم ، و يذكر ابن خلدون و غيره : إن مؤلفاتهم تلك ضاربة بسهم من إجادة التأليف و الترتيب ، و بناء الفروع على أصولهم .
الوهابيون . . و الخوارج
و أخيراً . . فلربما نجد صلات وثيقة ، و تشابهاً كبيراً بين آراء و شعارات الخوارج ، و شكل و نمط الحياة عندهم و بين آراء ، و شعارات ، و شكل و نمط الحياة لدى الوهابيين و لاسيما بالنسبة لشدتهم على المسلمين ، و اعتبارهم كفاراً أو بحكمهم . ثم تساهلهم مع غير المسلمين .
ثم ما نشهده من الانسجام التام بين الحكومات الوهابية و بين قوى الاستكبار و الاستعمار العالمي ، و حميمية العلاقات فيما بينهم . و قبول ذلك لدى عامة الناس لدى ذينك الفريقين ، و لعله لأنه ينشأ عن رأي مذهبي اعتقادي ، لا مناص من احترامه ، و لا مفر من تحمل آثاره ، و تكريسه على مستوى الحياة و الواقع .
ختام
و بعد . . فإنني أرجو أن أكون قد وفقت لإعطاء صورة موجزة عن الخوارج و حركاتهم و بعض ما يرتبط بوضعهم السياسي و الثقافي و بعقائدهم والله أسأل أن يوفقنا و يجمع بالإسلام كلمتنا ، إنه ولي قدير .
شوال 1403ﻫ ق ـ آب سنة 1983م
جعفر مرتضى العاملي
- 1. القران الكريم : سورة الكهف ( 18 ) ، الآية : 104 ، الصفحة : 304 .