لا شك أن الفكر الإسلامي المعاصر بحاجة لأن يطور من رؤيته للعولمة، ويتجاوز تلك النظرية الأحادية والمطلقة والخائفة، ويتخلى عن قراءته الأولى المنفعلة والمرتبكة بسبب صدمة العولمة نفسها، إلى بناء قراءة ثانية تكون أكثر اعتدالاً وتوازناً وموضوعية، تستفيد من مكاسب وإنجازات العولمة، وتتحصن من أضرارها ومخاطرها، تتفاعل مع العولمة وتتحصن من استلابها.
والسؤال هو كيف يطور الفكر الإسلامي من رؤيته ويجدد في منهج النظر للعولمة؟
تطوير الرؤية وتجديد المنهج بحاجة إلى إدراك الحقائق التالية:
أولاً: أن العولمة ليست من نسق الأفكار التجريدية أو التي تنتمي إلى المجال النظري، وهي ليست نظرية يمكن أن تقبل أو ترفض على أساس التحليل العقلي أو المحاكمة الذهنية. كما أنها لم تعد مجرد خرافة لا أساس لها في الواقع الموضوعي.
الغاية من هذا القول هو تحديد صورة العولمة قبل الحكم عليها. وحقيقة العولمة أنها تستند على واقع موضوعي يشكل الأساس الثابت لها، وهي محصلة لهذا الواقع الموضوعي، ومنه تكتسب مبررات ومقومات الوجود والاستمرار. وعندما نريد أن نفهم العولمة، ونتعامل معها نحتاج إلى أن نرجع لذلك الواقع الموضوعي ونفحصه ونشخصه، ونرتكز عليه في تكوين المعرفة بالعولمة.
ثانياً: لا يكتمل فهم العولمة بدون تكوين المعرفة بالعولمة الاقتصادية، وهذا هو النقص الفادح في رؤية الفكر الإسلامي المعاصر للعولمة، الذي ركز نظره على الأبعاد الثقافية، وعلى العولمة الثقافية، ولم يقترب كثيراً من الأبعاد الاقتصادية والعولمة الاقتصادية. والقدر الذي حصل من الاقتراب للأبعاد الاقتصادية في معظمه جاء متأثراً بالكتابات والدراسات النقدية والتي تصنف على النظريات والاتجاهات اليسارية المناهضة بشدة للعولمة الاقتصادية بالذات.
ومن يراجع أدبيات الفكر الإسلامي يكتشف بسهولة مثل هذه الملاحظة، التي يظهر فيها تركيز الاهتمام على الأبعاد الثقافية في العولمة من جهة، وعلى التأثر بالاتجاهات النقدية اليسارية في نقد العولمة اقتصادياَ من جهة أخرى. ومن النادر أن نجد في هذه الأدبيات كتابات أو دراسات لافتة ومميزة في نقد وتحليل العولمة الاقتصادية.
ومن دون تدارك هذا النقص في تكوين المعرفة بالعولمة الاقتصادية، فإن الضعف أو عدم اكتمال الرؤية سيظهر واضحا ومتجليا في رؤية الفكر الإسلامي للعولمة، حيث يشكل الاقتصاد بنيتها الرئيسية، ومجالها الحيوي، وحقلها الأساسي، منه جاءت وتشكلت، وفيه انتظمت وتكونت، ومن خلاله برهنت على وجودها وثباتها.
ثالثا: لا ينبغي النظر إلى العولمة بوصفها فكرة جامدة أو ثابتة، ولا بوصفها فكرة مكتملة أو نهائية، بل بوصفها فكرة متحركة ومتغيرة بفعل قانون الصيرورة التاريخية. القانون الذي يربط العولمة بعجلة الحركة، ويجعلها في حالة تطور وتحول لا يهدأ أو يتوقف، وتتغير بموجبه صورة العولمة وملامحها ومعالمها. فبعد أن كانت العولمة تتحدد في صورتها الاقتصادية، تغيرت هذه الصورة فيما بعد، وبات الحديث عن عولمة سياسية وثقافية إلى جانب العولمة الاقتصادية، وسوف تظل العولمة تغير وتطور من صورتها وهويتها في عصر تتراكم فيه المعارف بسرعة مدهشة.
وهذا يعني أن فهم العولمة ينبغي أن يتجدد ويتطور بصورة دائمة ومستمرة، وبشرط أن لا نعطي هذا الفهم صفة النهائية أو الاكتمال، ولا صفة الجزم أو القطع لأننا نتعامل مع ظاهرة لها طبيعة التغير والتغير السريع.
الأمر الذي يتطلب مراقبة العولمة بشكل دائم ومستمر لكي نحافظ على تجدد الفهم من جهة، وحتى نتعرف على قوانينها من جهة أخرى. وهذا الذي يوفر لنا إمكانية القدرة على ضبط أوضاعنا، والسيطرة عليها، والتحكم بعض الشيء على آليات العولمة، والتخفيف من عواقبها، والحد من أضرارها1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 14 يونيو 2006م، العدد 14536.ش