إسئلنا

أوروبا والعرب…

العالم العربي ليس خاليا من الأطروحات الجادة والمهمة على أقسامها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها، لكن المشكلة مع هذه الأطروحات تكمن في واحدة من ثلاثة أمور تتصل وتنفصل، منها أننا لا نحسن طريقة التعبير عن هذه الأطروحات، فنقدمها بشكل باهت لا يلفت الانتباه لها.

ومنها أننا لا نظهر هذه الأطروحات بثقة عالية، ولا نتعامل معها بهذه الثقة العالية، متمسكين بهذا الوصف، وصف الأطروحة وجازمين به، ومنها أننا لا نتنبه لهذه الأطروحات حين تظهر، فتمر من دون أن تعرف بالقدر الكافي، وتمضي وتنكمش من دون أن تحدث دهشة ولا تأثيرا.
يحصل هذا الحال، في الوقت الذي يتسلءل فيه بعض: هل توجد أطروحات جادة في المجال العربي؟ وبطريقة أخرى من التساؤل المزدوج: لماذا لا توجد أطروحات جادة في المجال العربي؟ ولماذا تأتي الأطروحات الجادة من الخارج ولا تأتي من الداخل العربي؟
وفي إدراك بعض أننا بحاجة إلى أطروحات جادة تفتح لنا أفقا، وتحرك ساكنا، وتنشط نقاشا، وتثير دهشة، لكن من دون الالتفات إلى الأطروحات التي تظهر أو حين تظهر عندنا وفي مجالنا.
ومن الأطروحات المهمة التي بحاجة إلى التفات، أطروحة المؤرخ اللبناني الدكتور خالد زيادة التي حددها بقوله: (لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب)، وجاءت عنوانا لكتابه الصادر في طبعته الأولى سنة 2013م، وفي طبعته الثانية سنة 2015م، وأراد منها في المنظور الكلي تغيير النظرة إلى أوروبا من جهة، وتغيير النظرة لأنفسنا من جهة أخرى.
وعند النظر في هذه الأطروحة فحصا وتأملا، يمكن القول إنها ترتكز على أمرين أساسين: الأول له علاقة بأوروبا، والثاني له علاقة بالعرب، بشأن الأمر الأول، يرى الدكتور زيادة أن أوروبا قدمت ما عندها من الأفكار الكبرى التي أثارت دهشة العالم، كالحداثة والديمقراطية والعقلانية والقومية والاشتراكية والليبرالية وحقوق الإنسان، ولم تعد أوروبا كما كانت بالأمس مصدر إشعاع وإلهام وتأثير.
وبشأن الأمر الثاني، يرى الدكتور زيادة أن العرب قد ربطتهم علاقات طويلة بأوروبا، واعتمدوا عليها، وأخذوا منها كثيرا، وحان الوقت الذي يغيرون فيه المسلك والمسار، والاتجاه نحو الاعتماد على أنفسهم، والنظر إلى ذاتهم بعيدا عن سحر أوروبا والارتهان والتبعية لها، وبات على العرب أن ينشئوا أفكارهم وألا يعتمدوا على أوروبا.
وما هو جدير بالإشارة، أن هذه الأطروحة قد اتصلت عند الدكتور زيادة بسياق من البحث الفكري والتاريخي الممتد لعقود عدة، تطورت فيه وتراكمت المعرفة والخبرة، ومثل له حقل دراسة واختصاص علمي وأكاديمي، يرجع إلى سنة 1980م حين ناقش الدكتور زيادة رسالته للدكتوراه في جامعة السوربون الفرنسية، وكانت بعنوان: (المؤثرات الفرنسية على العثمانيين في القرن الثامن عشر)، وصدرت لاحقا في كتاب سنة 1981م بعنوان: (اكتشاف التقدم الأوروبي)، وفي سنة 2010م صدر الكتاب في القاهرة بعنوان آخر هو: (المسلمون والحداثة الأوروبية)، وفي سنة 1983م أصدر الدكتور زيادة كتابا له طابع الرصد والتتبع والتوثيق، حمل عنوان: (تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا)، وتواصل عنده هذا الاهتمام ولم ينقطع، وتجدد مع هذه الأطروحة.
وأظن أن هذه الأطروحة لو جاءت من أحد الغربيين لكان لها شأن آخر، ولجرى التعامل معها بطريقة مختلفة، ولأخذت حيزا أكبر من الالتفات، ولبالغنا في الاهتمام بها والانشغال كتابة ونقاشا، ونقدا وسجالا، ولوجدنا فيها ما يثير الدهشة، هكذا جرت الحال عندنا في العادة، فما يثير اهتمام الغربيين يحرك الاهتمام عندنا في الغالب، ولعا بتأثير الغالب على المغلوب حسب المقولة الخلدونية القديمة.
وكنت قد ناقشت هذه الأطروحة من قبل، وتواصلت في هذا النقاش مع  الدكتور زيادة، وأعطيت هذه الأطروحة آنذاك صفة المقولة، لكني وجدت أنها تستحق صفة الأطروحة كذلك، وذلك لطبيعة السياق الفكري والتاريخي الذي اتصلت به.
والجديد الذي أود لفت الانتباه إليه، هو أنني وجدت تأكيدات مهمة على هذه الأطروحة من الأوروبيين أنفسهم، وهم يتحدثون عن حالهم الفكري والفلسفي وحتى السياسي والحضاري، بشكل يشير إلى أن أوروبا قد تغيرت صورتها في الداخل، ولم تعد بذلك الإشعاع الذي كانت عليه من قبل، بل لم يعد لها ما تقدمه لغيرها من الأمم والمجتمعات الأخرى، وهذا ما لم يشر إليه الدكتور زيادة، ومثل نقصا واضحا في بنية أطروحته.
ومن أوضح هذه التأكيدات الفكرية والفلسفية وأبلغها، ما ذكره عضو الأكاديمية البريطانية الدكتور سودير هازاريسنج في مقالته المهمة المنشورة باللغة الانجليزية في يونيو 2015م، وفي ترجمتها العربية في مجلة الثقافة العالمية الكويتية يناير- فبراير 2016م، بعنوان: (ما تبقى من الفكر المزدهر.. إلى أين انتهى الفلاسفة الفرنسيون العظام؟).
في هذه المقالة التي فاقت عشر صفحات حسب ترجمتها العربية، حاول الدكتور سودير الكشف عن حالة التراجع الفكري لفرنسا بصورة خاصة، وتأثير ذلك في أوروبا بصورة عامة، وحسب قوله: (يعاني الفكر الفرنسي المعاصر من الركود الشديد فعلا، فالفلسفة الفرنسية التي قدمت تيارات فلسفية ومذاهب جسورة، اجتاحت العالم من قبيل: العقلانية، والنزعة الجمهورية، والفلسفة النسوية، والمذهب الوضعي، والفلسفة الوجودية، والبنيوية، لم يعد لديها إلا أقل القليل لتقدمه في العقود الأخيرة).
وتعزيزا لهذا الموقف، يرى الدكتور سودير أن الفكر الفرنسي لم يعد يمثل مرجعية مركزية للتقدميين حول العالم، فالثورات الاجتماعية التي أدت إلى سقوط الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا، وتحدي الأنظمة السلطوية في العالم العربي، لم تستلهم التقاليد الفكرية الفرنسية، وهو ما يمثل فراغا فكريا… وقد قرعت مجلة الأدب Magazine litteraire أجراس الخطر بعنوان مفزع هو: (هل لا تزال فرنسا تفكر؟).
وبالانتقال إلى أوروبا، يرى سودير أن هذا التراجع الفكري لا يقتصر على فرنسا بمفردها، إذ على الرغم من نجاح الحركات الراديكالية الشعبية في الانتخابات مثل حركة سيرنيرا اليونانية وبوديموس، فإن تأثير حركات آفاق الإصلاحيين والتقدميين تضاءل عبر أوروبا كلها منذ نهايات القرن العشرين، غير أن هذه الظاهرة تجلت بصورة حادة في فرنسا، لأن صورة فرنسا ارتبطت وجوديا مع التفوق الفكري، ومع الفرض القائل: إن الأفكار الفرنسية تحظى بجاذبية عالمية… ولكون الكيان الثقافي الأهم لفرنسا يمثل حالة فريدة في الثقافة الأوروبية.
وليس بعيدا من هذا السياق كتاب السياسي الفرنسي جان شوفنمان الذي اختار له عنوانا مثيرا ولافتا هو: (هل تخرج أوروبا من التاريخ؟).
ويتصل بهذا السياق كذلك، صعود جماعات اليمين المتطرف في أوروبا الذي قلب صورة أوروبا في العالم، وكشف كيف أن أوروبا تتغير من الداخل، وليس بعيدا من ذلك إطلاق وصف العجوز على أوروبا، هذه بعض الدلائل المهمة، ولا شك أن ما يعرفه الأوروبيون عن أنفسهم أكثر بكثير، وهناك دلائل أخرى ستتكشف مع توالي الأيام، تجعل من الممكن القول: إن أوروبا لم يعد لها ما تقدمه للعرب1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الفيصل، سبتمبر- أكتوبر 2017م، العددان 491-492.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى