بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على محمد رسول الله و آله الطيبين الطاهرين .
و بعد . .
فإن هناك من يظن أن على المرأة أن تعيش حالة التبعية للرجل ، و تكون بمثابة الصدى ، أو الظل له ، تتلقى أوامره ، و تخضع لإرادته . زاعماً أنها لا تقوى على الاستقلال عنه ، و لا تستطيع أن يكون لها رأي ، أو فكر ، أو اعتقاد ، سوى رأيه و اعتقاده و فكره . و ربما يحاول بعضهم أن يتخذ مما ورد من أن المرأة على دين زوجها ، ذريعة بتأكيد هذا القول . .
و لكن من الواضح : أن المرأة و إن كانت شديدة التأثر بزوجها ، لكن الأمر لا يصل إلى حد فقدانها إرادتها بصورة تامة . و القول المأثور إنما سياقه سياق المبالغة ليفيد أن الغالب في النساء هو ذلك . .
و الأحداث و الوقائع تشهد بما نقول ، كما أن تعاليم الإسلام و ما ورد في كتاب الله و صرح به الرسول الأكرم ( صلى الله عليه و آله ) و الأئمة ( عليهم السلام ) يؤكد هذه الحقيقة .
فإن المرأة في الإسلام إنسان كامل ، أهَّلَها الله لأن تكون موضع كرامة الله ، و تتلقى الخطاب الإلهي ، و التكليف الرباني . . و تتوجه إليها الأوامر و الزواجر التي تناسب واقعها الذي تفرضه طبيعة خلقها ، و يفرضه الكمال المنشود في تكوينها ، و في الصنع الإلهي للبشرية في سياق هدايتها نحو الكمال ، و سوقها نحو الغايات الكبرى التي أراد الله لها أن تسعى إليها ، و تحصل عليها .
فكانت المرأة هي ذلك المخلوق ، الذي لا مجال لأن يُفرض عليه الرأي و الاعتقاد ، ما دامت تملك العقل و التمييز ، و الإرادة و الاختيار ، و ينسحب ذلك على مختلف الشؤون و الحالات ، خصوصاً فيما يرتبط بالناحية الإعتقادية و الإيمانية .
فها هو أعظم المستكبرين ، و أشدهم علواً و عتواً ، و الذي بلغ في استكباره حداً ادعى فيه الربوبية ـ ها هو ـ قد عجز عن فرض إرادته على المرأة ، رغم أنها كانت محاصرة بكل القوى و محاطة بظروف شديدة القسوة ، من شأنها أن تُسقط إرادتها ، و لكنها كانت أقوى من ذلك كله ، ففرضت إيمانها و إرادتها ، و هزمت كل تلك القوى العاتية ، و باء ذلك المستكبر المدعي للربوبية بالفشل الذريع ، و الخيبة القاتلة . . و أقصد بها :
آسية بنت مزاحم امرأة فرعون بالذات .
نعم . . و هذه هي المرأة التي أراد الإسلام لها ـ كما أراد لمريم بنت عمران ، و خديجة ، و الزهراء عليهن السلام ـ أن تكون النموذج الرائد ، و المثل و الأسوة للنساء في هذه الحياة ، و أن تكون مظهراً لإرادة الله تعالى على هذه الأرض ، و تجسيداً لحكمته ، و إظهاراً لبديع صنعه . .
فماذا عن هذه المرأة النموذج الفذ ، و المتفرد ، التي فاقت نساء عصرها ، و نالت الأوسمة الكبرى ، و لكن لا من الناس العاجزين و القاصرين ، و إنما من مصدر الكمال و القدرة ، و العزة و الكبرياء ، حيث قدمها الله تعالى و رسوله ( صلى الله عليه و آله ) لتكون نموذجاً ، و قدوة ، و أسوة ، و مثالاً يُحتذى ، و قمة للكمال الإنساني ، فاقت نساء عصرها كلهن صلوات الله و سلامه عليها ، فكانت بحق سيدة نساء عالمها كله .
آسية بنت مزاحم المرأة الشهيدة
لقد كانت آسية بنت مزاحم ، زوجة فرعون ـ كما يقول المجلسي ـ ” امرأة من بني إسرائيل ، و كانت مؤمنة و مخلصة ، و كانت تعبد الله سراً .
و كانت على ذلك إلى أن قتل فرعون امرأة حزبيل ، فعاينت حينئذٍ الملائكة يعرجون بروحها ، لما أراد الله بها من الخير ، فزادت يقيناً ، و إخلاصاً ، و تصديقاً .
فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون ، يخبرها بما صنع بها .
فقالت : الويل لك يا فرعون ، ما أجرأك على الله جل و علا .
فقال لها : لعلك قد اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبتك ؟ .
فقالت : ما اعتراني جنون ، لكن آمنت بالله ، ربي ، و ربك ، و رب العالمين .
فدعا فرعون أمها ، فقال لها : إن ابنتك أخذها الجنون ، فأقسم لتذوقن الموت ، أو لتكفرن بإله موسى .
فخلت بها أمها ، فسألتها موافقة [ فرعون ] فيما أراد ، فأبت ، و قالت : أما أن أكفر بالله ، فلا والله لا أفعل ذلك أبداً .
فأمر بها فرعون حتى مدّت بين أربعة أوتاد ، ثم لا زالت تعذب حتى ماتت ، كما قال الله سبحانه : ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ﴾ 1 ، 2 .
و عن ابن عباس :
قال : ” أخذ فرعون امرأته آسية ، حين تبين له إسلامها يعذبها لتدخل في دينه ، فمر بها موسى ( عليه السلام ) و هو يعذبها ، فشكت إليه بإصبعها ، فدعا الله موسى أن يخفف عنها ، فلم تجد للعذاب مساً ، و إنها ماتت من عذاب فرعون لها .
فقالت و هي في العذاب :
﴿ … رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ … ﴾ 3
فأوحي إليها : أن ارفعي رأسك ، ففعلت ، فأُريت البيت في الجنة بني لها من درّ ، فضحكت .
فقال فرعون : انظروا إلى الجنون الذي بها ، تضحك و هي في العذاب ” 4 .
و قيل : إنها لما عاينت المعجز من عصا موسى ( عليه السلام ) ، و وقوع الغلبة على السحرة ، أسلمت .
فلما ظهر لفرعون إيمانها نهاها ، فأبت . فأوتد يديها و رجليها بأربعة أوتاد ، و ألقاها في الشمس . ثم أمر أن يُلقى عليها صخرة عظيمة ، فلما قرب أجلها قالت :
﴿ … رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ … ﴾ 3.
فرفعها الله تعالى إلى الجنة ، فهي فيها تأكل و تشرب ، عن الحسن و ابن كيسان .
و قيل : إنها كانت تعذب بالشمس ، و إذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة ، و جعلت ترى بيتها في الجنة ، عن سلمان 5 .
للبيان و التوضيح
و لتوضيح بعض ما يرتبط بهذه المرأة المجاهدة الصابرة ، آسية بنت مزاحم الشهيدة ، نذكر هذا المقطع من كتاب : ” مأساة الزهراء ” فنقول :
1 ـ إن آسية بنت مزاحم امرأة في مقابل رجل ، هو فرعون بالذات .
2 ـ و فرعون هذا هو الزوج المهيمن و القوي ، و هو يتعامل مع هذه المرأة الصالحة من موقع الزوجية .
3 ـ و فرعون الرجل و الزوج ، لا يملك شيئاً من المثل و القيم الإنسانية و الرسالية ، و لا يردعه رادع عن فعل أي شيء ، و في أي موقع من مواقع حياته ، فهو يسترسل مع شهواته ، و طموحاته ، و مصالحه ، بلا حدود و لا قيود ، و دونما وازع أو رادع .
أما آسية فعلى النقيض من ذلك ، ترى نفسها محكومة لضوابط الدين و القيم و المثل ، و هي تهيمن على كل وجودها فلا تستطيع أن تسترسل في حركتها ، و لا يمكنها أن تتوسل بكل ما يحلو لها .
4 ـ و فرعون يمثل أقصى حالات الاستكبار في عمق وجوده ، و ذاته ، حتى ليدعي الربوبية ، و يقول للناس : ﴿ … أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ 6 ، فلا يرى أن أحداً قادر على أن يخضعه ، أو أن يملي عليه رأيه و إرادته ، بل تراه يحمل في داخله الدوافع القوية لسحق كل من يعترض سبيل أهوائه و طموحاته .
فرعون هذا تتحداه امرأته !! في صميم كبريائه ، و في رمز استكباره و علوه ، و عنفوانه ، و عمق طموحاته ، في ادعائه الربوبية ، و في كل ما يرتكبه من موبقات ، و ما يمثله من انحراف .
5 ـ و فرعون ملك لديه الجاه العريض ، و غرور السلطان ، و عنجهيته ، و جاذبيته ، و عنفوانه ، و زهوه . و ما أحب تلك المظاهر الخادعة إلى قلب المرأة ، و ما أولعها بها .
و إذا كانت المرأة تميل إلى الزهو ، فإنها إلى زهو الملك العريض أميل ، و إذا كان الجاه العريض يستثيرها ، فهل ثمة جاه كجاه السلطان ، فكيف و هو يدعي الربوبية لنفسه ؟ !
6 ـ أما المغريات فهي بكل صنوفها ، و في أعلى درجات الإغراء فيها ، متوفرة لفرعون ، فلديه الدور و القصور ، و البساتين ، و الحدائق الغناء ، و لديه اللذائذ و الأموال ، و الخدم و الحشم ، و لديه الزبارج و البهارج و زينة الحياة الدنيا .
و هل ثمة أحب إلى قلب المرأة من القصر الشاهق ، و من الأثاث الفاخر ، و اللائق ، و من وصائف كالحور ، و غير ذلك من بواعث البهجة و السرور ؟ !
7 ـ و عند فرعون الرجال و السلاح ، و كل قوى القهر ، و التسلط ، و الجبروت ، و الهيمنة ، و لذلك أثره في بث الرهبة ، و الرعب في قلب كل من تحدثه نفسه بالتمرد ، و الخلاف .
8 ـ و عند فرعون أيضاً المتزلفون ، و الطامعون ، و الطامحون ، الذين هم وسائله و أدواته الطيعة ، التي تحقق رغباته ، و تلبي طلباته ، مهما كانت ، و في أي اتجاه تحركت .
9 ـ و هناك الواقع المنحرف الذي تهيمن عليه المفاهيم الجاهلية . و الجهل الذريع ، و الافتتان الطاغي بالحياة الدنيا ، هذا الواقع الذي تفوح منه الروائح الكريهة للشهوات البهيمية ، و تنبعث فيه الأهواء ، و تضج فيه الجرائم .
10 ـ و في محيط فرعون ، تريد امرأة فرعون أن تتخلى عن لذات محسوسة و حاضرة من أجل لذة غائبة عنها ، مع أن الإنسان كثيراً ما يرتبط بما يحس و يشعر به ، أكثر مما يرتبط بما يتخيله أو يسمع به ، بل هو يستصعب الانتقال من لذة محسوسة إلى لذة أخرى مماثلة لها ، فكيف يؤثر الانتقال إلى ما هو غائب عنه ، و لا يعيشه إلا في نطاق التصور و الأمل بحصوله في المستقبل ، ثقة بالوعد الإلهي له .
بل إنها ( عليها السلام ) تريد أن تستبدل لذة و سعادة و نعيماً حاضراً بألم و شقاء ، و بلاء ، بل بموت محتم لقاء لذة موعودة .
11 ـ و بعد ذلك كله ، إن هذه المرأة لا تواجه رجلاً كسائر الرجال ، بل تواجه رجلاً عُرف بالحنكة ، و الدهاء ، و الذكاء .
فكما كان عليها أن تواجه استكباره ، و سلطانه ، و بغيه ، و كل إرهابه ، و إغرائه ، فقد كان عليها أيضاً أن تواجه مكره ، و أحابيله ، و تزويره ، و أساليبه الذكية الخداعة ، و هو الذي استخف قومه فأطاعوه .
و قد ظهرت بعض فصول هذا الكيد و المكر في الحوار الذي سجله الله سبحانه له مع موسى ( عليه السلام ) ، و مع السحرة الذين جاء بهم هو ، فآمنوا بإله موسى ( عليه السلام ) .
خلاصة
كانت تلك بعض لمحات الواقع الذي واجهته امرأة فرعون ، التي هي من جنس البشر ، و من لحم و دم ، لها ميولها ، و غرائزها ، و طموحاتها ، و مشاعرها ، و أحاسيسها .
و قد واجهت رحمها الله كل هذا الواقع الصعب بصبر و ثبات ، و لم تكن تملك إلا نفسها ، و قوى إرادتها ، و قويم وعيها ، الذي جعلها تدرك : أن ما يجري حولها هو خطأ ، و جريمة ، و انحراف و خزي ، فرفضت ذلك كله من موقع البصيرة و الإيمان ، و واجهت كل وسائل الإغراء و القهر ، و لم تبال بحشود فرعون ، و لا بأمواله ، و لا بجاهه العريض ، و لا بزينته و مغرياته ، و لا بمكره و حيله و حبائله . .
و طلبت من الله سبحانه و تعالى أن يهيئ لها سبل النجاة من فرعونية فرعون ، و من أعمال فرعون ، و من محيط القوم الظالمين .
و لم يؤثر شيء من ذلك كله ، من البيئة و المحيط و غير ذلك ، في زعزعة ثقتها بدينها و ربها ، أو في سلب إرادتها ، أو في سلامة و صحة خيارها و اختيارها .
و كان دعاؤها
﴿ … إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ 3 .
فهي تعتبر الابتعاد عن فرعون ، و عن ممارسات فرعون نجاة ، و تعتبر الابتعاد عن دنس الانحراف و الخروج من البيئة الظالمة نجاة أيضاً . .
و هي لا تريد من الله قصوراً و لا زينة ، و لا ذهباً و لا جاهاً ، بل تريد أن تفوز بنعمة القرب منه تعالى . المعبر عنه بكلمة : { عِنْدَكَ } ، و بمقام الرضا ، على قاعدة : ” رضا الله رضانا أهل البيت ” ، كما قالت زينب ( عليها السلام ) .
و الحمد لله ، و الصلاة و السلام على عباده الذين اصطفى محمد و آله الطاهرين . .
- 1. القران الكريم : سورة الفجر ( 89 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 593 .
- 2. بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 13 / 164 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود بإصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .
- 3. a. b. c. القران الكريم : سورة التحريم ( 66 ) ، الآية : 11 ، الصفحة : 561 .
- 4. بحار الأنوار : 13 / 164 ، عن عرائس الثعلبي : 106 و 107 طبع مصر .
- 5. بحار الأنوار : 13 / 164 و 165 ، عن مجمع البيان : 10 / 319 .
- 6. القران الكريم : سورة النازعات ( 79 ) ، الآية : 24 ، الصفحة : 584 .