نور العترة

هجرة الحسين إلى العراق…

رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي، وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم، فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسين (عليه السّلام) الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها:

<img src="http://islam4u.com/sites/all/modules/wysiwyg/plugins/break/images/spacer.gif" alt="<–break->" title="
  1. إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء، إذ إنّنا لا نجد في النصوص التأريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلاميّة بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويّون في السّاحة السّياسية وحتى سقوطهم.
  2. إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويّين وفسادهم، والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تأريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسين (عليه السّلام) ونهضته غير العراق، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الاُموي الفاسد.
  3. لم يكن أمام الحسين (عليه السّلام) من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق؛ لأنّ بقيّة الأقطار إمّا إنّها كانت مؤيّدة للاُمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو إنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها ؛ ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.
  4. كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصّالحة التي بناها الإمام عليّ (عليه السّلام)، والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيت (عليهم السّلام)؛ فأراد الإمام الحسين (عليه السّلام) أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق الإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام)، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام)، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيت (عليهم السّلام) إلى العالم الإسلامي في السّنين اللاحقة.
  5. إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السّلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيت (عليهم السّلام) أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السّامية، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف الإمام (عليه السّلام) إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية، وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين. وحتى على فرض اختياره (عليه السّلام) بلداً آخر فإنّ سلطة الاُمويّين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.
  6. لما كان العراق يُصارع الاُمويّين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسين (عليه السّلام) وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني اُميّة وتستّرهم بالشّرعية وغطاء الدين، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها، لاسيما ونحن نرى أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصّراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته، وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسّياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السّياسي الحاذق، والنّصائح التي قدّمها إليه عدد من الشّخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما نعتقد ؛ فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل النّاس، وتركهم نصرة إمامهم، ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.
تصريحات الإمام (عليه السّلام) عند وداعه مكة صدرت عن الإمام الحسين (عليه السّلام) عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبته(عليه السّلام) على مَنْ أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا:

  1. روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قوله (عليه السّلام): “والله، لا يَدَعُونَنِي حتّى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة”1.
  2. كان محمّد بن الحنفيّة في يثرب فلمّا علم بعزم الإمام (عليه السّلام) على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أراد (عليه السّلام) الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره قائلاً: «يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون حالك حال مَنْ مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعزّ مَنْ بالحرم وأمنعهم».

فأجابه الإمام (عليه السّلام): “خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تُستباح به حرمةُ هذا البيت”.
فقال محمّد: «فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن، أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع النّاس به، ولا يقدر عليك أحد».
قال الحسين (عليه السّلام): “أنظر فيما قلت”.
ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى، وأسرع محمّد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: «يا أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟».
قال الإمام (عليه السّلام): “بلى، ولكنّي أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا حسين، اخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً”.
فقال محمّد: فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال وأنت خارج على مثل هذا الحال؟
فأجابه الإمام (عليه السّلام): “قد شاء الله أن يراهن سبايا”2.
ولم يكن اصطحاب الحسين (عليه السّلام) لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب، وكذا فعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قويّة على المسلمين لنصرته، فمَنْ تولّى الحسين(عليه السّلام) ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسين (عليه السّلام) فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، خاصّة إنّ الخلاف بزعم الاُمويّين إنّما هو لأجل الخلافة؟
3 – ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه: “خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول الله (عليهم السّلام) لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس؛ تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم وعدُه.
مَنْ كان باذلاً فينا مهجتَه، وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا؛ فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى”3.
يُبَيِّنُ الإمام الحسين (عليه السّلام) في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد ؛ قياماً بتكليفه الإلهي، موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً، داعياً إلى الالتحاق به مَنْ كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيت (عليهم السّلام)4.

  • 1. الكامل في التأريخ 4 / 39.
  • 2. اللهوف على قتلى الطفوف: 27، وأعيان الشّيعة: 1 / 592، وبحار الأنوار: 44 / 364.
  • 3. إحقاق الحق: 11 / 598، وكشف الغمة: 2 / 204.
  • 4. من کتاب الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، تاليف لجنة من الكُتاب بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى