الفكر و النهج الخميني

ميزان السلوك

تمهيد
إن للعرفان والسلوك إلى الله تعالى في فكر الإمام الخميني قدس سره مكانة مرموقة، كيف لا وهو العارف الكبير، والرجل الذي أمضى عمره الشريف في جهاد نفسه وتأديبها، وكان المطيع لله تعالى، حتى حينما كان في المستشفى وفي وضع صحي صعب، لم يمنعه ذلك من القيام لله تعالى ذاكراً عابداً متهجداً.

تهذيب النفس
أول الطريق في السير إلى الله سبحانه وتعالى، هو أن يبدأ الإنسان من نفسه فينزّهها عما حرمه الله تعالى عليها ويعوّدها الطاعة، وهذا يكون في فترة الشباب بالدرجة الأولى، فتهذيب النفس في عمر الشباب أثبت للإنسان وأرسخ، كما أن الشاب يكون في حالة نفسية وعقلية وجسدية أقدر من الشيوخ على القيام لله تعالى بأداء طاعاته، وهذا ما كان يؤكد عليه الإمام الخميني قدس سره، ويحذر أيضاً في هذا الإطار من الشيطان وألاعيبه وإغراءاته التي لا تحصى لإزالة الشباب عن مواقع الطاعة والتهذيب إلى مراتع الهوى واللعب واللهو والغفلة يقول قدس سره: “اسعَ في إصلاح نفسك ما دمت تحظى بنعمة الشباب، فإنَّك ستخسر كل شيءٍ في الشيخوخة، فمن مكائد الشيطان ولعلها أخطر مكائده، التي سقط فيها أبوك ومازال، إلا إذا أدركته رحمة الحق تعالى، هو “الاستدراج” ففي أوائل الشباب يسعى شيطان الباطن أشدُّ أعداء الشباب، في ثنيه عن إصلاح نفسه ويمنّيه بسعة الوقت، وأن الآن هو آن التمتع بالشباب، ويستمر في خداعه بالوعود الفارغة ليصدّه عن فكرة الإصلاح تماماً، وساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم يتصرّم الشباب، ويرى الإنسان نفسه فجأة في مواجهة الهرم الذي كان يؤمِّل فيه إصلاح نفسه، وإذا به ليس بمنأىً عن وساوس الشيطان أيضاً، إذ يمنّيه آنذاك أيضاً بالتوبة في آخر العمر. لكنه حينما يحُسُّ بالموت في آخر العمر، يصبح الله تعالى أبغض موجود إليه، لأنه يريد انتزاع الدنيا محبوبه المفضّل منه. وهذه حالة أولئك الذين لم ينطفئ نور الفطرة فيهم تماماً. وهناك من أبعدهم مستنقع الدنيا عن فكرة الإصلاح كلياً، وسيطر عليهم غرور الدنيا بشكل تام، وقد رأيت أمثال أولئك بين أهل العلوم المتعارفة، ومازال بعضهم على قيد الحياة، وهم يرون أن الأديان ليست سوى خرافة وترّهات”1.

ما هو تهذيب النفس؟
تهذيب النفس هو لبُّ العرفان كما أشار لذلك الإمام الخميني قدس سره في وصيته لابنه السيد أحمد قدس سره، فقد أشار له في إحدى وصاياه، أن يحذر من أن يدركه الهرم وهو لا يزال يراوح مكانه في تهذيب النفس ونهيها عن السعي للدنيا لأجل الدنيا، وهذا ما يحتاج إلى مراقبة دؤوبة، وسعي دائم وحثيث للمحاسبة والمعاتبة عند الوقوع في الخطأ، ومن ثم جعل الحياة كلها بحركاتها وسكناتها لله تعالى، حتى الأكل والشرب والنوم، فبإمكان أي منا أن يحول كل هذه المباحات إلى طاعة لله تعالى كأن ينوي بذلك الاستعانة على العبادة وخدمة العباد المؤمنين، يقول الإمام الخميني قدس سره: “استمع الموعظة الواحدة التي يعظنا بها الله، وأرهف لها سمع القلب والروح، ثم اعقلها تماماً، وسر في خطها. يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾2, فالميزان في بدء الحركة إنما هو في كونها “قياماً لله” سواء في الممارسات الشخصية والفردية أو في الفعاليات الاجتماعية.

فاسعَ أن تكون موفّقاً في هذه الخطوة الأولى، وما أسهل ذلك في أيام الشباب، وأوفر حظه من التوفيق، وإياك أن يفاجئك الهرم مثل أبيك وأنت إما مراوح في مكانك أو متراجع القهقرى؛ والأمر محتاج في تفاديه إلى المراقبة والمحاسبة”3.

التوجّه لله لا يعني الاعتزال
قد يتصور بعض الناس أن التوجه والانقطاع لله تعالى يعني ترك العلاقات الاجتماعية والابتعاد عن الناس وخدمتهم والسعي للمعاش، وهذا ما كان يحذر منه الإمام الخميني قدس سره بشكل دائم، فالعرفان لا يعني التصوف والرهبانية، إذ لا رهبانية في الإسلام، بل إن إحدى طرق التقرب إلى الله تعالى هي خدمة خلقه وعباده والسعي في قضاء حوائجهم، يقول قدس سره: “إنّ الميزان في الأعمال هو النوايا التي تستند إليها، فلا الاعتزال الصوفي دليل على الارتباط بالحق، ولا الدخول في خِضَمّ المجتمع وإقامة الحكومة شاهد على الانقطاع عن الحق، فما أكثر ما يكون العابد والزاهد واقعاً في شراك إبليس التي تشتد وتتوسع بما يناسب ذلك العابد كالأنانية والغرور والعُجب والتكبر واحتقار خلق الله والشرك الخفي وأمثال ذلك مما يبعده عن الحق، ويجرّه نحو الشرك؛ وما أكثر ما يرتقي المتصدي لشؤون الحكومة، فيحظى بلبِّ قرب الحق لما يحمله من دافع إلهي كداود وسليمان عليهما السلام بل وأفضل منها وأسمى منزلةً، كالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وخليفته بالحق علي بن أبي طالب عليه السلام وكالمهدي (أرواحنا لمقدمه الفداء) في عصر حكومته العالمية.

فميزان العرفان والحرمان إذن هو الدافع، وكلما كانت الدوافع أقرب إلى نور الفطرة، وأكثر تحرراً من الحجب حتى النورية منها كانت أكثر التصاقاً بمبدأ النور”4.

عقبات على طريق المعرفة
أشار الإمام الخميني قدس سره إلى الكثير من العقبات التي تحول بين الإنسان المؤمن والسلوك إلى الله تعالى، وسنشير إلى أهم هذه العقبات التي نبهنا منها لعلّنا نستفيد من ذلك في تخلية الطريق من عقبات قد تسير بنا إلى غير الوجهة والهدف الأساسي الذي نرمي إليه.

1- حب الأنا:
الأنا هي النفس، والمقصود من حب النفس ليس حب الخير لها وبغض الشر، بل المقصود أن تصبح هذه الأنا كعبة الإنسان وتكون محور حركته دون رضا الله وطاعته، وهي من أخطر العقبات بل هي أكبر الموانع من الوصول لمعرفة الله سبحانه وتعالى وكم حذر منها علماء الأخلاق، وكم نبّه إمامنا الخميني قدس سره تلامذته وأحبته إليها. ومن وصاياه في التحذير من الأنا: “هنالك أمر مهم بالنسبة لنا نحن المتخلفين عن قافلة الأبرار، وأرى أنه قد يكون ذا أثرٍ في بناء النفس لمن كان بصدد ذلك. فعلينا أن ندرك أن منشأ ارتياحنا للمدح والثناء، واستيائنا من الانتقاد ونشر الشائعات، إنّما هو حب النفس الذي يُعدُّ من أخطر الأشراك التي ينصبها إبليس اللعين.

نحن نرغب في أن يكون الآخرون مادحين لنا، حتى وإن أظهروا أن لنا أفعالاً صالحة وحسنات وهمية تفوق بمئات المرات حقيقة ما نحن عليه، كما إنّنا نرغب في أن تكون أبواب الانتقاد – وإن كان حقاً – موصدة دوننا، أو أن يتحول الانتقاد إلى مديح وثناء!

ونحن لا يزعجنا الحديث عن معايبنا لأنه ليس حقاً، كما لا يسرنا المديح والثناء لأنّه حق، بل لأنّ هذا العيب هو “عيبي أنا” وهذا المدح هو “مدح لي أنا”, وهو أمر سائد في أوساطنا هنا وهناك وفي كلِّ مكان. وإذا أردت أن تتحقّق من صحّة هذا الأمر، فتأمّل بما يصيبك من الانزعاج إذا انبرى المدّاحون لمدح أحد الأشخاص على فعل قام به، وكنت قد قمت بذات الفعل، ستنزعج حتى إذا كان ما قام به أفضل مما قمت به أنت، وخصوصاً إذا كان ذلك الشخص من أقرانك وزملائك، وأوضح من هذا المثال: عندما ترى أن عيوب شخص صارت مدائح؛ ففي تلك الحال، تيقّن أن للشيطان وللنفس – التي هي أسوأ من الشيطان – يداً في الأمر”5.

2- الغفلة عن الله تعالى:
يحذرنا الإمام الخميني قدس سره من الوصول إلى مرحلة نسيان الله تعالى، وعدم الإلتفات إليه بحيث يخرج من حساباتنا، واعتبر هذا الأمر في غاية الخطورة، لأن الإنسان في هذه الحالة يصبح مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾6 وقوله عز وجل: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾7.

يقول قدس سره: “إن نسيان الله موجب لنسيان النفس، سواء أكان النسيان بمعنى عدم التذكر، أو بمعنى الترك. وفي كلا المعنيين إنذار مروّع.

إن ما يلازم نسيان الله تعالى هو نسيان الإنسان نفسه؛ أو قل إن الله تعالى يجرّه إلى نسيان نفسه، وهو أمر يصدق على جميع المراحل السابقة. فمن ينسَ الله وحضوره جلّ وعلا في مرحلة العمل يُبتلَ هو نفسه بنسيان نفسه، أو أنّه يُجرُّ إلى ذلك؛ ينسى عبوديته فيُجرّ من مقام العبودية نحو النسيان. 

فمن لا يعرف ما هو، ومن هو، وما هي وظيفته، وما هي العاقبة التي تنتظره، فإن الشيطان حالٌّ فيه، وجالس بدلاً من نفسه، والشيطان عامل على العصيان والطغيان. وإذا لم يثب ذلك الإنسان إلى رشده، ويرجع إلى ذكر الله، وغادر هذا العالم وهو على هذه الحال من الطغيان والعصيان، فقد يأتي في ذلك العالم على شكل شيطان مطرود من قِبَل الله تعالى.

أما إذا كان النسيان بمعناه الآخر (أي: الترك)، فإن الأمر سيكون أشدّ إيلاماً، لأنه إذا ترك طاعة الله، وترك الله، فإن ذلك يستوجب أن يتركه الله ويكِله إلى نفسه، ويقطع عنه عناياته. ولاشك أن الأمر سينتهي به إلى الخذلان في الدنيا والآخرة. لذا نرى كثرة ما ورد من تأكيد الدعاء بعدم الإيكال للنفس في الأدعية المأثورة عن المعصومين لأنهم عليهم السلام يدركون نتائج هذه المصيبة، في حين أننا غافلون عنها”8.

3- حب الدنيا:
وأما حب الدنيا فإنه من أشد الأخطار على علاقة الإنسان بربه، وهذا ما حذرنا منه الإمام قدس سره حيث يقول: “لا تسعَ للحصول على الدنيا أبداً حتى الحلال منها – فإن حبَّ الدنيا – حتى حلالها رأس جميع الخطايا، وهي حجاب سميك يضطر الإنسان إلى الحرام منها.

فأنت شاب تستطيع – بما حباك الله به من القوة – منع أول قدم تزلّ نحو الانحراف، فتمنع بذلك من التحاقها بخطىً أخرى، فلكل قدمٍ قدمٌ أخرى تتلوها، وكل ذنب – مهما صَغُر – يجرُّ المرء نحو ذنوبٍ أكبر، حتى تستحيل الذنوب الكبيرة في نظره لمماً يُستهان بها، بل قد يبلغ الأمر بالبعض أن يفتخروا بارتكاب بعض الكبائر!لا بل قد يصل الوضع لدى البعض الآخر حدّاً – أحياناً – يجعلهم يرون المنكر معروفاً والمعروف منكراً! نتيجة شدة وكثافة الظلمات والحجب الدنيوية”9.

خاتمة
هذا شيء قليل مما نبه عليه الإمام الخميني قدس سره أحباءه وأولاده وأمته، ولو أردنا أن نستعرض كل ما ورد من كلامه في هذا المضمار فإنه لا يمكن حصره بدرس أو اثنين فللإمام قدس سره باع طويل ومؤلفات كثيرة في تهذيب النفس والسلوك إلى الله تعالى، وفقنا الله وإياكم للعمل بسنة الصالحين بحق سيد المرسلين وآله الطاهرين.

* خط الإمام الخميني (قدس سره)، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- نفحة من السلوك المعنوي، رسالة موجهة للمرحوم السيد أحمد الخميني.
2- سورة سبأ، الآية 46.
3- من رسالة للإمام قدس سره بعنوان: الفطرة أول منازل التوحيد، إلى ابنه حجة الإسلام السيد أحمد الخميني رحمه الله 17 شوال 1404ه.
4- م.ن.
5- من رسالة للإمام قدس سره بعنوان: الفطرة أول منازل التوحيد، إلى ابنه حجة الإسلام السيد أحمد الخميني رحمه الله 17 شوال 1404ه.
6- سورة المجادلة، الآية 19.
7- سورة الحشر، الآية 19.
8- من رسالة للإمام قدس سره بعنوان: الفطرة أول منازل التوحيد، إلى ابنه حجة الإسلام السيد أحمد الخميني رحمه الله 17 شوال 1404هـ..
9- م.ن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى