منوعات

دوافع ثور الإمام الحسين(ع)

يس من شك في أنَّ الإنسان منذ وُجِد على هذه الأرض وسعى في مناكبها وقضية المعتقد الديني تستحوذ على القدر الأهم في حياته وسعيه، وإذا ما دققنا اكثر في مستوى المعتقد الذي يحمله (يعتنقه) ومدى اهتمامه به، لاتضح لنا أنه لم يكن ترفاً أو كمالياً، بقدر ما هو قضية حياة أو موت. فالإيمان الديني الذي تأسس على معتقد راسخ في أسرة تُعدُّ من أشرف الأسر على الإطلاق عند العرب، فهي التي لم تسجد لصنم ولم تنشأ على شكٍّ في ما دعى إليه الجدُّ الكريم محمد (ص)، بدعوته لنقل البشرية من حياة العبودية إلى حالة التحرُّر من عبادة الأوثان والاصنام، لذا كان حمل المعتقد والإيمان به إيماناً مطلقاً، هو المستقبل المليء بالأخطار التي تهدِّده منذ إعلانه الرفض للظلم، وهي أخطار ذات بعدين: إمّا أن تؤدي به إلى الذلّة، وهذا مما يأباه الامام الحسين (ع) كما صرح بقوله: صوت في عز خير من حياة في ذلٍّ، ومقالته (ع) المشهورة التي أصبحت شعاراً: ((هيهات منّا الذلّة)). وإمّا أن تمضي به الحياة، ولكن أية حياة تلك التي يسودها الظلم، والترقب ويملؤها الفزع والرعب، يرى أمة تتدهور نحو رذيلة الحاكم وفساده.. أيبقى في مكانه؟ لا، لايمكنه ذلك لأن السيل يجرف أمّة جدِّه (ص) ويدمِّرها، بل لايمكنه أن يستكين للظلم، وهو (ع) القائل لأخيه محمد بن الحنفيه وهما بعدُ في المدينة:

(يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية).

ولم يكن من حلٍّ أمامه إلا أن يضع نهاية لهذا التدهور في أوضاع أمة جدّه المصطفى (ص)، فحمل معه أهل بيته وعشيرته طالباً الإصلاح في هذه الأمة، فهو معرَّض لسيل جارف من المرتدِّين الذين اشتراهم السلطان، وهو يعلم أن مؤيديه ومناصريه قد نكثوا العهد – من قبل – مع والده في مواقف عدة في لحظات الحسم.. وبناءً على معرفته تلك وعلمه المسبق… اتخذ قراره الذي لا رجعة فيه… عالماً بأنَّ ذلك الطاغية لا يرحم، وأنه يريد موته حتماً إذا ما أعلن الثورة عليه… أو أن التعامل معه والخضوع له اكثر مرارة من الاستشهاد… أدت معرفته إلى كل ذلك فاتخذ قراره في المواجهة التي لا بدَّ منها…

والحقيقة أنه ليس هناك من هو أحوج منا اليوم لأن نتذكر سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) الأسوة في قوة الإرادة وصلابة العزيمة في المواجهة والدفاع عن قضيته، قضية الوجود الإنساني بأسره، ومن هنا عدت تلك القضية انعطافاً خطيراً في حياة الأمة، لم تمحها عشرات القرون، وما زالت تتجدّد كل عام… ونحن بحاجة إلى التأكيد على ثورة الإمام الحسين (ع) في معناها وما آلت إليه من نتائج، وليس الواقعة بحد ذاتها، وإنما رموزها وأبعادها النفسية… فلقد ظلت ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) تصدع في نفس كل مسلم غيور، رفض ويرفض الذل والمهانة، فهي واقعة خسر الإمام الحسين (ع) أهله وعشيرته من أجلها، ولكنه علّم الكون كيف تكون قوة المبادئ، وقوة الإرادة، فمحي أثر يزيد بعد أن عاش مهووساً (مرض الهوس) بمقتل الإمام الحسين (ع)، وعاش اللوثة العقلية في حياته بفعل ما اقترفه من ذنب، وانمحى أثره بعد موته، وظل الحسين شاخصاً بذكراه عبر القرون، ذكرى تظل تتجدَّد عبر العصور.

الدوافع السياسية والاجتماعية لثورة الإمام الحسين (ع)

إن لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية صفات ينفرد بها، ورموزاً إنسانية تتعايش معه في كل حيثيات الحياة الإجتماعية، هي الروح الإجتماعية التي تحرك المجتمع، وهذه الروح الإجتماعية هي قدرة إنسانية تحسُّ بالمشكلات وتتلمسها بشكل واضح ودقيق، وربما تمتلك المعيار الذي به تقيس حالة النمو أو التطور أو التدهور الفردي أو الجمعي للمجتمع، ولكن الطبيعة البشرية والشخصية الإنسانية لا توجدان على أي حال إلا من خلال العلاقات بين الناس. فكان الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) يُعَدُّ الروح الإجتماعية التي تحسُّ بما يدور في فلك تلك المجتمعات، والتغيرات الطارئة التي تقود إلى التدهور والانحدار، فكان انتقال الحكم إلى بني أمية واغتصابه عنوة وتوارثه من معاوية إلى يزيد، وخلال عشرين عاماً انحدرت كل الحياة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي حديث التكوين، والذي بناه الرسول المصطفى (ص)، فعودة الجاهلية من جديد بثوب ألبسَتْهُ بنو أمية البلادُ الإسلامية بعد أن هدّمه النبي (ص) بدعوته الإسلامية واستبدله بمجتمع القيم الإسلامية… وعودة العصبية من جديد، كما أظهرها حكّام بني أمية في عصبيتهم لبني جلدتهم. فالسبب الاجتماعي كان الأكثر طغياناً ودافعاً منذ البداية، فثار الإمام الحسين (ع) من أجل القيم الإسلامية والشعب المسلم؛ لقد ثار على يزيد باعتباره ممثلاً للحكم الأموي، هذا الحكم الذي جوع الشعب المسلم، وصرف أموال هذا الشعب في اللذات وشراء الضمائر، وقمع الحركات التحررية، هذا الحكم الذي اضطهد المسلمين من غير العرب وهدَّدهم بالإفناء، وفرّق وحدة المسلمين العرب، وبثَّ بينهم العداوة والبغضاء، هذا الحكم الذي شرد ذوي العقيدة السياسية التي لا تنسجم مع سياسة البيت الأموي، وقتلهم وقطع عنهم الأرزاق، وصادر أموالهم، هذا الحكم الذي شجع القبيلة على حساب الكيان الاجتماعي للأمة المسلمة وقتل كل نزعة إلى التحرر بواسطة التخدير والدعاية الكاذبة، كل هذا الانحطاط ثار عليه الإمام الحسين (ع) (1).. تلك وغيرها من الأسباب والعوامل السياسية التي بذرها الأمويون في الحياة السياسية في المجتمع الإسلامي، الدوافع الاجتماعية التي تداخلت مع الدوافع السياسية وهي الإيغال في ضرب الروح الاجتماعية السائدة في المجتمعات الإسلامية الناشئة آنذاك، فبدلاً من زيادة النضج الاجتماعي لدى المجتمعات الإسلامية، أوغلوا في التهديم ونشر الوعي المتدني من خلال بثِّ روح المحرمات كسلوك في المجتمع وارتكاب الفواحش في مقابل عيش خسيس، فلقد كان المجتمع الإسلامي في أيام الإمام الحسين (ع) مجتمعاً مريضاً يُشتَرَى ويُباع بقليل من المال وكثير من العذاب والإرهاب (2) في حين كانت دعوة النبي محمد (ص) الإسلامية هي دعوة خلاص الإنسان من عبادة الأوثان، وتوكيد وحدانية الله تعالى، وتطبيق شريعته، وتطبيق العدالة، وتخفيف المعاناة لدى الضعفاء من الناس، حيث قال الله سبحانه وتعالى: (ونريد أن نمنَّ على الذين استُضعِفوا في الأرض ونجعلَهم أئمةً ونجعلَهم الوارثين) (سورة القصص: الآية 5).. ولكن يبدو أن استلام معاوية الحكم بعد المداهنة والاحتيال السياسي وإجهاد المسلمين في حروب جانبية مع الشرعية الحقَّة المتمثلة في خلافة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، ولجوء معاوية إلى استخدام الدين كغطاء لدعوته ومطالبته بالحكم، ونجاحه في هذه الأساليب لتحقيق مآربه بعد مقتل الإمام علي (ع)، وإقناع الناس بالصبغة الدينية تارةً وبالعنف والترهيب والترغيب تارةً أخرى، فالدين أساساً يعد حركة اجتماعية قامت من أجل تحرير الإنسان من الجهل والتبعية، ونشر الحق والعدالة الاجتماعية، فقد استخدمه معاوية كغطاء يوهم الناس به، على أساس أنه يحكم بتفويض الهي، وأنه وبني أمية خلفاء رسول الله، هادفين من وراء ذلك بأن يجعلوا الثورة عليهم عملاً محظوراً، وإن ظلموا وشردوا المؤمنين، وأن يجعلوا لأنفسهم – باسم الدين – الحق في قمع أي تمرّد تقوم به جماعة من الناس وإن كانت محقة في مطالبها؛ لذا فإن أضمن السبل لتحطيم هذا الإطار الديني هو أن يثور عليه رجل ذو مركز ديني مسلَّم به عند الأمة المسلمة بأسرها، فثورة مثل هذا الرجل كفيلة بأن تفضح الزخرف والغطاء الديني الذي يتظاهر به الحكام الأمويون، وأن يكشف هذا الحكم على حقيقته، وجاهليته وبعده الكبير عن مفاهيم الإسلام، ولم يكن هذا الرجل إلا الحسين (ع) (3).

ومن الأسباب والدوافع السياسية والاجتماعية التي أدت إلى قيام ثورة الإمام الحسين (ع)، يمكن أن نجمل بعضها فيما يلي:

* الدوافع السياسية: إن بني أمية استطاعوا:

1- شقَّ صفوف المسلمين من خلال إبعاد مَن هم أولُّ مَن شارك في تأسيس وبناء الدولة الإسلامية في زمن الرسول (ص)، وتقريب البعض الآخر وإغداق الأموال والهبات والعطايا عليهم.

2- شقَّ صفوف المسلمين من خلال إبعاد المسلمين من غير العرب، ووضوح صورة التفرقة والتمييز مع أقرانهم العرب المسلمين.

3- إعلان الحكم بالوراثة من معاوية لابنه يزيد، مع الاحتفاظ بالسلطات الدينية كغطاء لتدعيم حكم الدولة، وغطاء لكل الأعمال المبتكرة.

4- إظهار العداوة العلنية لآل بيت الرسول (ص) وخصوصاً الإمام علي بن أبي طالب (ع) ومحاولة التقليل من شأنهم في المجتمع.

5- التغيير الجذري الكامل لكل السياقات القيمية السائدة التي جاءت بها الرسالة الإسلامية السمحاء.

6- إثارة النعرة القبلية العصبية التي حاربها الرسول (ص) في زمنه، وأعادها بنو أمية مرة أخرى.

* أما الدوافع الاجتماعية، فيمكن إيجاز بعضها:
1- عزل مجتمع المدينة ومكة عزلاً تاماً ودون الرجوع إليه في المسائل المتعلقة بالأمور الدينية.

2- الانحراف الواضح عن المجتمع الإسلامي الذي بناه النبي الأكرم (ص) بعد كل تلك المعاناة في سنوات الدعوة الإسلامية الأولى.

3- تكوين قيم جديدة لم يألفها المسلمون حتى قبل استلام معاوية السلطة، وتقريبه بني أمية دون المسلمين الآخرين ذوي التاريخ العريق في دعم الإسلام.

4- انتشار الفساد القيمي في المجتمع الإسلامي الحديث في عهد الأمويين، والذي رفضه المسلمون بعد انتصارهم بقيادة النبي الأكرم (ص) على الجاهلية ودحرها.

5- عودة الجاهلية بشكل محوّر، غير مباشر، والدعوة للتطبيع يقودها (الخليفة) وعائلته.

الآثار التي خلفتها ثورة الإمام الحسين (ع)..

إنَّ ثورة الإمام الحسين (ع) أعظم أمانة اُمتحنت بها الأمة الإسلامية، فحافظت عليها بالضحايا حتى تناقلتها أجيال الأمس وسلمتها إلى هذا الجيل (4)، فالإمام الحسين (ع) هو هوية أمَّة بكاملها، هوية انتماء إلى عقيدة راسخة، جدلية متجددة عبر قرون من خلال الانتماء الذي حقق الصراع اللامنتهي، الذي يؤدي إلى استمرار هذه العقيدة، فهي ما أن تخفت بفعل قسوة الحكام أو عنف الأنظمة، وعودة دعاة الرؤية الأموية أحياناً أخرى في أزمنة أخرى، حتى ينبعث شعاعها من جديد، فجوهر وجود الامام الحسين (ع) برؤياه للحياة، وفلسفته القائمة على الثورة، ظلّت تحمل لواء الحرية ورفض العبودية والصنمية، وهو تعبير صريح عن رفض الوجود المستكين الخاضع، فطالما ظلّت ذكرى الإمام الحسين (ع) تلهج في صدور الملايين من المسلمين عبر الحقب والعقود، يظل الصراع قائماً بين آنية الوثوب، ولحظة الحزن الساكتة المتوقدة في أمة ولدت تناهض الركوع والانصياع للأصنام بكل أشكالها، وإن اختلفت عبر العصور منذ أن رفض الإمام علي ابن أبي طالب (ع) في مكة الركوع للأصنام مروراً باستشهاد الإمام الحسين (ع) حتى هذا العصر الذي تغيرت الأصنام من أحجار ودمى حجرية إلى حكام من البشر.. تطلب عبادتها… فكانت ثورة الإمام الحسين (ع)، صوتا يستصرخ الضمائر، حتى يمكننا القول بأن ثورة الإمام الحسين (ع) – كما هو معروف لدى عامة الناس – ثورة وعي أمة.

إن ثورة الإمام الحسين (ع) لم تكن أحادية الجانب، لا بالمعنى ولا بالمبنى، حيث إنَّ معانيها استمدّت من الرسالة السماوية وتعاليمها الإلهية، فهو حمل معاني القيم الإنسانية مجتمعة في الدين الإسلامي الحنيف النقي دون التخدير الكاذب كما فعل بنو أمية، عندما حكموا الناس باسم الدين وقاوموا أيَّ تحرك يقوم به الناس باسم الدين أيضاً.

أما في مبناه، فقد بنى الإمام الحسين (ع) دعوته للثورة على امتداد مبدئية والده الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي قال في وصيته لابنه الحسين (ع): (لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعزّ من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة) (5).

المصدر: http://www.wybqalhosin.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى