عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين…
إبداء المعروف للنَّاس سنَّة أكَّدت عليها الديانات السماوية في مختلف رسالاتها، وهي في جوهرها سُنَّة يحكم العقل بوجوبها قبل الدِّين؛ فضلًا عن كونها محصِّلةً بديهية لطبع الإنسان الاجتماعي، ذلك أنَّ الإنسان بطبعه ميَّال إلى الانتماء إلى الجماعة من بني جنسه، وهذا الانتماء يوجب عليه تكوين العلاقات المتبادلة من كافَّة الأطراف، وأفضل العلاقات وأمتنها ما كان معتمدًا على تبادل المعروف بين النَّاس، فهذا النوع من التواصل يثير المحبَّة والألفة، ويُشيع روح التعاون بين أفراد الجماعة، ويقضي على الأحقاد والضغائن، وكلِّ ما يُثير الفرقة بين أبناء المجتمع.
والمقصود بالمعروف هو فعل الخير بكلِّ صنوفه سواء أكان مالًا أو منفعة، وقد حثَّ الله تعالى عليه في محكم كتابه عندما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77]. أمَّا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقد كان لهذه الخصلة الأخلاقية وقعها الكبير في رسالته الاصلاحية، وقد تردَّدت كثيرًا على لسانه، وممَّا قال مُرغِّبًا في اسداء المعروف: ((المعروف كنز من أفضل الكنوز، وزرعٌ من أنمى الزرع، فلا تزهدوا فيه ولا تملّوا))([1])، ثمَّ يحفِّز النَّاس على ابداء المعروف بيان عواقبه فيقول: ((اصطنعوا المعروف بما قدرتم على اصطناعه فإنّه يقي مصارع السوء))([2])، وقال أيضًا : ((صاحب المعروف لا يعثر وإن عثر وجد متكأً))([3])، وقال مؤكِّدًا: ((صنائع المعروف تدرّ النعماء وتدفع البلاء))([4])، وقال مرغبًا: ((عليكم بصنائع المعروف فإنّها نعم الزاد إلى المعاد))([5]) . وما هذه الكثافة في التأكيد على هذه الخصلة الأخلاقية إلَّا لما لها من آثارٍ إيجابية على المجتمع والحياة بكافة مرافقها؛ لأنَّ اصطناع المعروف يؤدِّي إلى تمتين العلاقات وإلى التسابق في فعل الخير؛ لأنَّ، بذل المعروف يجعل صاحبه عزيزًا في مجتمعه، محبوبًا بين أقرانه، وقد أشار إلى هذا المعنى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: ((من بذل معروفه مالت إليه القلوب))([6])، على أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكِّد على المبالغة في المعرف؛ بل الاسراف فيه، وذلك بقوله: ((في كلّ شيء يذمّ السرف إلاّ في صنائع المعروف والمبالغة في الطاعة))([7]) .
ثمَّ يتعجَّب أمير المؤمنين (عليه السلام) من معادلة شائعة بين النَّاس في عصره فيقول: ((إنّي لأعجب من أقوام يشترون المماليك بأموالهم، ولا يشترون الأحرار بمعروفهم))([8])، ومن هنا يجب على من يُقدَّم إليه المعروف أن يجازي صاحب المعروف بالشكر والحمد والثناء، وأن لا ينسى هذا المعروف حتَّى وإن تطاول الزمن، والشكر لصاحب المعروف هو أقل ما يمكن أن يُقدَّم إليه، وهذا المعنى يشير إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((من اُسدي إليه معروف فليكافِ عليه، فإن عجز فليثنِ، فإن لم يفعل فقد كفر النعمة))([9])، ولو لم يجد صاحب المعروف من يشكره على معروفه فعليه أن لا يلتفت إلى ذلك؛ لأنَّ عمله منظور بعين الله تعالى وهو من يجازيه على فعله فيُهيئ له السُبل التي يلتمس فيها أثر فعله للمعروف، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((لاَ يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ لَكَ، فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَسْتَمْتِعُ بِشَيْء مِنْهُ، وَقَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ، وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ))([10]). أمَّا أبواب المعروف فكثيرة جدًّا، وقد ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) شيئًا منها فقال: ((فَمَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ، وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ، وَلْيَفُكَّ بِهِ الأسِيرَ وَالْعَانِيَ، وَلْيُعْطِ مَنْهُ الْفَقِيرَ وَالْغَارِمَ، وَلْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ، ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ; فَإِنَّ فَوْزاً بِهذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا، وَدَرْكُ فَضَائِلِ الاْخِرَةِ، إِنْ شَاءَ اللهُ)).
وهكذا يأخذ المعروف أهميته في الحياة حتَّى يصبح محورًا تتلاقى في الاتفاق عليه جميع الثقافات والأجناس، ليكون أساسًا متينًا وراعيًا أمينًا يتَّفق عليه العقلاء، وكل مجتمع يتَّخذ من المعروف أساسًا في تعاملاته فإنَّه حتمًا سيرقى إلى درجات العلا، وتتحقَّق فيه الإنسانية بأعلى مضامينها. جعلنا الله وإيَّاكم ممَّن يكون دأبه اصطناع المعروف قربة لوجه الله تعالى…
الهوامش:
([1]) مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي: 12/344 .
([2]) الخصال، الشيخ الصدوق: 617 .
([3]) مسند الإمام علي (عليه السلام)، السيد حسن القبانجي: 4/397 .
([4]) معجم المحاسن والمساوئ، الشيخ أبو طالب التجليل التبريزي: 373 .
([5]) ميزان الحكمة، محمد الريشهري: 3/1931 .
([6]) مستدرك الوسائل: 347 .
([7]) مسند الإمام علي (عليه السلام): 4/397 .
([8]) الأمالي، الشيخ الصدوق: 348 .
([9]) دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي: 2/321 .
([10]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 505 .
المصدر: http://inahj.org