عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين…
لقد حظي القلب باهتمام منقطع النظير من لدن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وما ذاك إلَّا لأهميته في تقنين حياة الإنسان وبناء آفاقه المعرفية وأطره الدينية، ومن هنا فقد استهدفه أمير المؤمنين (عليه السلام) بكلماتٍ كثيرةٍ قننت لرعايته وتنشئته بأسس رصينة وبيئة سليمة، فحدَّد مهام القلب والأسلوب السليم في تحديد وظيفته فقال: ((وَالنّاظِرُ بِالْقَلْبِ، الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ، يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ: أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ؟! فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَليْهِ وَقَفَ عِنْدَهُ))([1])، وهنا يتحدَّث أمير المؤمنين (عليه السلام) عن علاقة القلب بالبصر، وكيفية توزيع المهام بينهما، وكيف يُنسِّق الإنسان العمل مع كليهما، وعلى ذلك أعطى وظيفة النظر للقلب، ووظيفة العمل للبصر، وإذا ما تنسَّقت هذه الأدوار فإنَّ الإنسان سيكون على بصيرة من أمره في أيِّ عمل يُعرض له؛ لأنَّه سيدقِّق بقلبه سلامة العمل ومدى فائدته بالنسبة إليه، ومن هنا يُسند أمير المؤمنين (عليه السلام) وظيفة المرشد للقلب؛ لأنَّه العضو الذي يميِّز به الإنسان سلامة العمل من عدمه، أمَّا البصر فأعطاه مباشرة العمل وتفعيله، ومن هنا يجب أن تكون الحاكمية للقلب على البصر في أيِّ عملٍ يريد الإنسان القيام به، وإذا ما ألغى دور القلب المميز بين الصواب والخطأ؛ فإنَّه سيعمل على غير هدى ويمشي بغير مرشدٍ؛ ولذلك لا يمكن الاكتفاء بتحديدات البصر؛ لأنَّه لا يخرج عن كونه يلتقط الصور عن الأشياء، أمَّا حفظ تلك الصور وتصنيفها وفرزها فوظائف مسندة إلى القلب، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه الحيثية: ((الْقَلْبُ مُصْحَفُ الْبَصَرِ))([2]) .
ثمَّ بيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّ القلوب ليست على شكلٍ واحد، إذ هي على شكل أوعية (جمع وعاء)، وهو أداة حفظ للأشياء، وكما هو معروف أنَّ الأوعية تختلف بسعتها وأحجامها، وكذلك القلوب لها أحجام مختلفة، أفضلها من كانت سعته أعلى من غيره، وكلَّما ازدادت سعة القلب كلَّما علا شأنه وارتفعت قيمته، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِنَّ هذهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا))([3]) .
بعد ذلك تطرَّق أمير المؤمنين (عليه السلام) للحالات التي يمرُّ بها القلب، وهي حالات متغيرة غير ثابتة، ومنها حالات سلبية ممَّا يتطلب معالجتها بأطرٍ سليمة ودقيقة، وقد حدَّد أمير المؤمنين (عليه السلام) بعض من تلك الحالات بقوله: ((إِنَّ هذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الاَْبْدَانُ، فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ))، فحدَّد أمير المؤمنين (عليه السلام) حالة يمرُّ بها القلب وهي الملل، ولم يكتفِ بذلك؛ بل حدَّد علاجها وهو القصد إلى طرائف الحكمة، وخير مواطن الحكمة على الاطلاق كلام ربِّ العالمين القرآن الكريم، وهو خير علاجٍ للقلب في كلِّ حالاته، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ذلك بقوله: ((وَتَعَلَّمُوا الْقرْآن فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَص))، وقوله (عليه السلام): ((وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَسَبَبُهُ الاَْمِينُ، وَفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ، وَمَا لِلْقَلْبِ جَلاَءٌ غَيْرُهُ))
فالوقت الذي تورق فيه القلوب وتزهر بأفكارها ومحتواها هو عندما تتعامل مع القرآن الكريم، ومن هنا لابدَّ للمؤمن أن يجعل له وقتًا يسقي به ينابيع قلبه من وهج القرآن ونفحاته، وعليه أن يعرف أنَّ أشدَّ الأمراض هو مرض القلب، فهو أشدُّ من مرض البدن، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أَلاَ وإِنَّ مِنَ الْبَلاَءِ الْفَاقَةَ، وَأَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ، وَأشدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ))([4])، ومهما تمتَّع الإنسان به من صحَّةٍ على مستوى البدن فإنَّها لا تعلو على سلامة القلب وتقواه، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أَلاَ وإِنَّ مِنَ النِّعَم سَعَةَ الْمَالِ، وَأَفْضَلُ مِن سَعَةِ الْمَالِ صِحّةُ الْبَدَنِ، وَأَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْبِ))([5]). جعل الله تعالى قلوبكم أوعى القلوب وأملاها بالقرآن والتقوى …
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة (تحقيق صالح): 216.
([2]) المصدر نفسه: 548 .
([3]) نهج البلاغة (تحقيق صالح): 495.
([4]) نهج البلاغة (تحقيق صالح): 544.
([5]) المصدر نفسه: 545.
المصدر: http://inahj.org