مقالات

دفاعٌ عن الشَّيخ الصَّدوق

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم: زكريَّا بركات
31 أكتوبر 2022


بلغني أنَّ بعض الباحثين حاولوا الطَّعن في وثاقة الشَّيخ الصَّدوق محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه، مؤلف كتاب من لا يحضره الفقيه وغيره من الكتب الشريفة، وأحد المحمَّدين الثَّلاثة الأجلاء، وذلك توصُّلاً إلى الطعن في مذهب الإماميَّة.

وجواباً عن هذه المحاولة أقول ـ وبالله تعالى أصول ـ :

أوَّلاً: إنَّ وثاقة الشَّيخ الصدوق ثابتة بالقطع في علم الرِّجال، وجلالته مُتسالم عليها في الإطار الإمامي.. قال النَّجاشي بترجمته في الرِّجال: “شيخنا وفقيهنا ووجه الطَّائفة بخراسان”.
وقال الشيخُ الطُّوسي في الفهرست: “كان جليلاً، حافظاً للأحاديث، بصيراً بالرِّجال، ناقداً للأخبار، لم يُرَ في القُمِّيين مثلُه في حفظه وكثرة علمه”. وقال في الرِّجال: “جليل القدر، حَفَظة، بصيرٌ بالفقه والأخبار والرِّجال”.
وحُكي عن ابن إدريس في كتاب النِّكاح أنَّه قال: “كان ثقةً، جليلَ القدر، بصيراً بالأخبار، ناقداً للآثار، عالماً بالرِّجال، حفظةً”.
وقال السيِّد ابن طاوس في “فلاح السائل” إنه مجمع على عدالته.
وترجم له السيِّد الخوئي برقم (11292) في “معجم الرجال”، وقال إنَّ عظمة الشَّيخ الصَّدوق “من الاستفاضة بمرتبة لا يعتريها ريب”. وقال السيِّد الخوئي في الموضع نفسه إنَّ ولادة الشيخ الصدوق بدعاء الإمام المهدي المنتظر (عج) “أمرٌ مستفيض معروف متسالم عليه، ويكفي هذا في جلالة شأنه، وعِظَمِ مَقامه”. انتهى.

وفي ضوء ذلك نقول: إن كان مراد أصحاب محاولة الطعن أن يقنعوا الإمامية اعتماداً على ما عند الإمامية من علم ومعطيات، فلا مجال للطَّعن في الشيخ الصدوق من جهة الإمامية كما عرفت، لأنَّ وثاقته بل جلالته من القطعي المحكم، والمعلوم المسلَّم، ولو فُرض وجود شُبهة أو إشكالات، فإنَّ المرجع هي المحكمات، وإليها تُرَدُّ المتشابهات، فأمَّا الذين في قلوبهم زَيغٌ فيتَّبعون ما تشابه منه. وإن كان مرادهم الاعتماد على دعاوي خصومهم، فهذا لا جدوى منه؛ لأنَّ خصومهم ليسوا ثقاتٍ حتى يُقبل قولُهم عند الإماميَّة. وإن كان المرادُ هو الاحتجاج على خصوم الإماميَّة، فهذا ممَّا لا فائدة منه؛ لأنَّ الخصوم لا يروون عن الشَّيخ الصدوق ولا يعرفونه، فلا تترتَّب ثمرةٌ على ذلك.

ثانياً: تمسَّك الطاعنُ في الشيخ الصدوق بما نُسب إليه من تغيير لبعض الروايات، معتبراً ذلك موجباً لعدم الوثوق به وسقوط العدالة.. وكل ما ذكره في ذلك مأخوذ من كلام علماء الإمامية الذي يوثِّقون الشيخَ الصَّدوقَ، ويعتبرونه في مرتبة عالية من الجلالة، ولو كان ما يحاوله الطاعن صحيحاً لتبنَّاه عُلماء الإمامية؛ ولكنهم لم ينظروا إلى الموضوع كما نظر الطاعن بسوء ظنِّه، والسرُّ في ذلك أنَّ تغييرات الصدوق بعضها غير ثابت عند العلماء، كما إنَّ قسماً منها له وجهٌ آخر معلوم أو محتمل؛ لأنَّ التغيير من المحتمل جداً أن يكون بسبب اختلاف الطُّرُق، أو اختلاف النُّسَخ، فنسبة مثل ذلك إلى الشيخ الصدوق رجمٌ بالغيب وقول بلا علم، كما إنَّ جملة من التغييرات هي عبارة عن تفسير مَزْجِيٍّ من الشَّيخ الصَّدوق للرِّوايات اشتبه على النُّسَّاخ فأدرجوه في مُتون الرِّوايات، فاختلط الأمرُ على من تأخَّر، وبعض التغيير هو من اختصار الرواية أو التَّقطيع والاكتفاء بذكر محلِّ الشاهد من متن الرواية إذا لم يوجب إخلالاً بالمعنى، وهو أمر متعارف عند علماء الحديث، ولا يُوجِب طعناً.. وهذا كلُّه يعلم به الطاعنُ، وبعضه قد نقله هو في بحثه؛ ومع ذلك تجاهله في مقام الاستنتاج لانعدام التَّقوى مع التعصُّب الذي يدفعه إلى تفسير كل شيء بشكل سيِّئ. وقد تصدَّى السيِّدُ الخوئي ـ قُدِّس سرُّه ـ (معجم رجال الحديث، ج16 ص323 فما بعدها) إلى مناقشة كلِّ الموارد الَّتي قيل إنَّ الشيخ الصدوق (رض) غيَّر فيها الروايات، وأوضح بطلان ما تمسَّك به أصحابُ الشبهة، لكنَّ الباحث (النَّزيه) حين سرق تلك الموارد من كتب الشيعة، أخفى على قُرَّائه دفاعَ علماء الشِّيعة وما بيَّنوه من ردود واضحة وجليَّة.. وهذه عادة خصوم الإماميَّة في سرقة الشُّبهات من كتب الإماميَّة، ثم ينشرونها مع إخفاء الردود، ليوهموا القرَّاء بأنهم باحثون اكتشفوا تلك الإشكاليات التي يعجز ـ بزعمهم ـ الإماميَّةُ عن ردِّها.. ويبدو أنهم تعلَّموا هذا الأسلوب الكيدي من اليهود والنصارى الذين يسرقون الشبهات والإشكاليات من كتب علماء المسلمين، فينشرونها وكأنها من بنات أفكارهم، ويخفون ما أجاب به علماء المسلمين عن تلك الشبهات..! فما أقبحه من سلوك يدل على انعدام التقوى وغلبة الهوى.

ثالثاً: إنَّ غرض صاحب الطعون والشبهات هو الحط من المذهب الإمامي والتشكيك في روايات النص على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام والغَيبة، نظراً إلى أنَّ الشيخ الصدوق روى قسماً كبيراً من هذه الروايات.. فالجواب: أنَّه لو سلَّمنا ـ جدلاً ـ بأنَّ الشيخ الصدوق ليس ثقة كما يزعم صاحبُ الطعون؛ فهذا لا يوجب الشك في نصوص الإمامة والغيبة، والسرُّ في ذلك أننا قارنَّا بين روايات الشيخ الصدوق وروايات غيره في هذا الموضوع، فوجدنا روايات الشيخ الصدوق موافقة لما رواه الكليني في الكافي والنعماني في الغيبة والخزاز القمي في كفاية الأثر والشيخ الطوسي في الغيبة.. وغيرهم، فمجموع ما رواه هؤلاء الأجلَّاء متواتر يُورِثُ القطعَ واليقينَ، بل إنَّ بعض تلك الروايات رواها علماءُ أهل السنَّة والزيدية أيضاً، إضافةً إلى أنَّ روايات النص والغيبة مُؤيَّدةٌ بالأدلَّة العقليَّة والنقليَّة القطعيَّة الأخرى.. فالطعن في الشيخ الصدوق لا يُحقق الثمرة التي يرجوها الطاعن، ولو تفرَّد الشيخ الصدوق بتلك الروايات لكان لمحاولات الطاعن معنى وقيمة لو صحَّت الطعون ولم يكن لها ردود.

رابعاً: إنَّنا نستغرب من عصبية مقيتة تدفع صاحبها إلى الطَّعن في ميراث الإماميَّة ومصادر رواياتهم واستقامة علمائهم، مع أنَّ كثيراً من علماء الفرق الإسلامية، حتَّى المتعصبين منهم، أقرُّوا بصدق علماء الإمامية، وشهدوا لهم بالوثاقة والاستقامة، وأثنوا عليهم بالقول الحسن. فهذا القاضي المهلَّا ـ من علماء الزيدية في كتابه مطمح الآمال ـ يُثني على النعماني ـ من علماء الإمامية ـ ويعتبره من علماء الأمَّة المحمَّدية، وهذا إمام الزيدية أبو طالب الهاروني يكثر الرواية عن علماء الإمامية في كتابه الأمالي، وهذا المحقق الزيدي محمد يحيى سالم عزَّان في مقدمة كتاب التحرير يقول إنَّ إمام الزيدية أبا طالب الهاروني تلمَّذَ عند الشيخ المفيد الذي كان من علماء الإماميَّة وهو من تلاميذ الشَّيخِ الصَّدوق.. وهذا ابن تيميَّة ـ على تعصُّبه الشديد ـ شهد للإمامية بالصِّدق، وذلك في كتابه “الردُّ على السُّبكي” (2/ 697) ، حيث قال إنَّ معظم ما يرويه الاثنا عشريَّة في الشَّريعة موافق لقول جمهور المسلمين، وأنَّ الغالب فيما ينقلونه عن أئمَّة أهل البيت الصِّدقُ، وأنَّ ما يمكن تخطئتهم في روايته يحتمل أنه بسبب الخطأ. والشواهد كثير يصعب حصرها، ويطول المقال بذكرها، وفي ما ذُكر كفاية لإولي الألباب، والله ولي التوفيق والهادي إلى الحقِّ والصَّواب.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى