مقالات

الخوف من الموت…

الموت هو أكبر المخاوف في حياة الإنسان، بل قد يقال انه سبب جميع التخوفات، ولكن لماذا يخاف الإنسان من الموت ما دام الموت مصيرا طبيعيا لجميع المخلوقات؟ يخاف الإنسان من الموت للأسباب التالية:

أولا: إنهاء وجود الإنسان في هذه الحياة

فللحياة جاذبيتها القوية، التي تشد الإنسان اليها شدا وثيقا.. وله فيها ارتباطات عديدة، تجعل تشبثه بها متينا ثابتا.. وفي الحياة لذات وشهوات، ومصالح تفرض نفوذها وسيطرتها على نفس الإنسان.
والملاحظ ان عجز الإنسان او ابتعاده ولو كان مؤقتا عن شيء من لذات الحياة ومصالحها، يؤلم الإنسان ويقلقه ويؤذيه ففراق الأهل والأصدقاء، وقلة توافر الطعام والشراب، وفقدان المال والمكاسب او الامتيازات، أشياء مزعجة ومؤذية للإنسان، ولو كانت لفترة محدودة، فكيف والموت ينسف كل هذه الأمور؟ ويلغي ارتباط الإنسان بها بشكل كامل ونهائي؟

ثانيا: العجز عن المواجهة

قد يستطيع الإنسان مقاومة سائر المخاوف، والإفلات والهرب من كثير من الأخطار، ولكنه لا يمتلك ذرة من القدرة على مواجهة الموت، او الفرار منه، انه حتم قاهر، لابد ان يرفع الإنسان أمامه راية الاستسلام والهزيمة.
ان الله تعالى يتحدى عباده بالموت، ليذكرهم بحجمهم الحقيقي الضعيف المتلاشي، تجاه الهيمنة والقدرة الإلهية يقول تعالى:
﴿ … قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 1.
﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ 2.
فليس هناك في الدنيا منطقة لا يصل اليها الموت، وإلا لسافر اليها وقطنها كل البشر ولا يفيد أي طبيب او علاج او دواء عند نزول الموت. كما لا تستطيع أي قوة ان تواجه الموت.. وإلا لخلد الأباطرة والأكاسرة والفراعنة.
وقد حاول الإنسان ان يوظف تقدمه العلمي والتكنولوجي في العمل على مواجهة أهم خطر يستقبله، وهو خطر الموت الذي يلغي وجوده، وينهي حياته، ولكن باءت كل تلك المحاولات والجهود بالفشل من بداية الطريق، وأخفقت حتى في الإجابة عن أول سؤال في الموضوع وهو: ما سبب الموت؟
يقول الاستاذ وحيد الدين خان في كتابه القيم «الإسلام يتحدى»:
ان الذين لا يؤمنون بالعالم الثاني ـ الآخرة ـ يحاولون بدافع الغريزة ان يجعلوا من هذا الكون عالما أبديا لأفراحهم، ولذلك بحثوا كثيرا عن أسباب «الموت» حتى يتمكنوا من الحيلولة دون وقوع هذه الأسباب، من أجل تخليد الحياة، ولكنهم أخفقوا إخفاقا ذريعا، وكلما بحثوا في هذا الموضوع رجع اليهم بحثهم برسالة جديدة عن حتمية الموت وأنه لا مناص منه.
«لماذا الموت؟» هناك ما يقرب من مائتي إجابة عن هذا السؤال الخطير، الذي كثيرا ما يطرح في المجالس العلمية منها:
«فقدان الجسم فاعليته»، «انتهاء عملية الأجزاء التركيبية» «تجمد الأنسجة العصبية»، «حلول المواد الزلالية القليلة الحركة محل الكثيرة الحركة منها»، «ضعف الأنسجة الرابطة»، «انتشار سموم «بيكتريا» الامعاء في الجسم».. وما الى ذلك من الإجابات التي ترد كثيرا حول ظاهرة الموت.
ان القول بفقدان الجسم فاعليته جذاب للعقل.. فان الآلات الحديدية والأحذية والأقمشة كلها تفقد فاعليتها، بعد أجل محدود، فأجسامنا أيضا تبلى وتفقد فاعليتها كالجلود التي نلبسها في موسم الشتاء، ولكن العلم الحديث لا يؤيد ذلك، لان المشاهدة العلمية للجسم الإنساني تؤكد: انه ليس كالجلود الحيوانية، والآلات الحديدية، وليس كالجبال.. وان أقرب شيء يمكن تشبيهه به هو ذلك «النهر» الذي لا يزال يجري منذ آلاف السنين على ظهر الأرض فمن ذا الذي يستطيع القول: ان النهر الجاري يبلى ويهن ويعجز؟! بناء على هذا الأساس يعتقد الدكتور «درلنس بالنج ـ وهو حائز على جائزة نوبل للعلوم»: «ان الإنسان أبدي الى حد كبير نظريا، فان خلايا جسمه تقوم باصلاح ما فيه من الأمراض ومعالجتها تلقائيا، وبرغم ذلك فإن الإنسان يعجز ويموت، ولا تزال علل هذه الظاهرة أسرارا تحير العلماء.
ان جسمنا هذا في تجدد دائم، وإن المواد الزلالية، التي توجد في خلايا دمائنا تتلف كذلك ثم تتجدد، ومثلها جميع خلايا الجسم، وتحل مكانها خلايا جديدة، اللهم إلا الخلايا العصبية وتفيد البحوث العلمية ان دم الإنسان يتجدد تجددا كليا خلال ما يقرب من أربع سنين، كما تتغير جميع ذرات الجسم الإنساني.

ليس جسم الإنسان هيكلا فقط، وانما هو كالنهر الجاري، أي انه «عمل مستمر». ومن ثم تبطل جميع النظريات القائلة بان علة الموت هي وهن الجسم وفقده قوته، فان الأشياء التي فسدت او تسممت من الجسم أيام الطفولة أو الشباب، قد خرجت من الجسم منذ زمن طويل، ولا معنى لأن نجعلها سبب الموت، فسبب الموت موجود في مكان آخر، وليس في الأمعاء والأنسجة البدنية والقلب.
ويدعي بعض العلماء ان الأنسجة العصبية هي سبب الموت، لانها تبقى في الجسم الى آخر الحياة ولا تتجدد، ولو صح هذا التفسير القائل بأن النظام العصبي هو نقطة الضعف في الجسم الإنساني، فمن الممكن ان نزعم ان أي جسم خال من «النظام العصبي» لابد ان يحيا عمرا أطول من الأجسام ذات النظام العصبي، ولكن المشاهدة العلمية لا تؤيدنا، فان هذا النظام لا يوجد مثلا في الأشجار، وبعضها يعيش لأطول مدة، ولكن شجرة القمح التي لايوجد بها هذا النظام العصبي لاتعيش أكثر من سنة، وليس في كائن «الأميبا» جهاز عصبي، وهي مع ذلك لا تبقى على قيد الحياة أكثر من نصف ساعة، ومقتضى هذا التفسير ايضا ان تلك الحيوانات التي تعد من «نسل أعلى» والتي تتمتع بنظام عصبي أكمل وأجود، لابد ان تعيش مدة أطول من تلك التي هي أقصر نسلا وأضعف نظاما. ولكن الحقائق لا تؤيدنا في هذا أيضا، فان السلحفاة والتمساح وسمكة «باتيك» اطول عمرا من أي حيوان آخر، وكلها من النوع الثاني ـ حقير النسل وضعيف النظام.
لقد أخفقت تماما تلك البحوث التي استهدفت ان تجعل من الموت أمرا غير يقيني، يمكن ان لا يقع، فبقي الاحتمال الذي فرضته الحكمة الالهية، وهو ان يموت الإنسان في اي عمر وفي أي زمن، ولن نستطيع العثور على أي مكان يمنع الموت رغم جميع الجهود.

ثالثا: المفاجأة

ليس من عادة الموت ان يرسل انذارا او اشعارا عن قدومه، حتى ينهي الإنسان أعماله ويستكمل استعداداته، بل يأتي فجأة ودون سابق إشعار، وفقا للأجل الذي يعينه ويحدده الله سبحانه وتعالى لكل حي.. يقول تعالى: ﴿ … فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ 3.
فقد يأتي الموت للانسان وهو في قمة اللذة والشهوة.. وقد يأتيه وهو يضع اللمسات الأخيرة على مشروع قد عمل له فترة طويلة.. وقد يأتي الموت والإنسان متورط في اوحال الجريمة او المعصية.. وقد يأتيه وهو في أسعد لحظات حياته.

رابعا: المصير المجهول

ماذا بعد الموت؟ هذا هو أخطر سؤال يقلق الإنسان عند تفكيره في الموت، فالمشاهد التي يلاحظها الإنسان لأوضاع الموتى، جديرة بأن تثير قلق الإنسان وانزعاجه، فكيف بالجانب الآخر الغيبي الذي لا نراه لما يكون عليه الميت؟ ان كل ما نعرفة هو ان الإنسان بعد الموت يصبح جثة هامدة خامدة، قد غادرتها روح الحياة، وانعدمت فيها القدرة على التحرك والنشاط.
فيحمل الناس تلك الجثة الهامدة ليودعوها حفرة عميقة في باطن الأرض، ثم يغطوها بالتراب حتى تتساوى تلك الحفرة مع الأرض، وبعد ذلك تنقطع كل معلوماتنا وارتباطاتنا ومعرفتنا بما يحدث لذلك الميت في أعماق الأرض.
ان ما بعد الموت أشد وأدهى من الموت، هناك الحساب والعقاب والجزاء، والوقوف بين يدي الله يوم القيامة.
افضل طريقة للتعامل مع الموت خطر الموت الحتمي يختلف عن سائر الأخطار التي يخافها الإنسان في أننا لا نستطيع ان نقدم أي مساعدة للانسان من أجل مواجهة او مقاومة الموت.. كما اننا لا نستطيع نزع هيبة الموت من نفس الإنسان وتشجيعه على عدم التخوف منه.
نعم يمكننا تقديم النصيحة التالية من أجل تعامل أفضل مع هذا المصير الذي لابد منه وهي:

الاستعداد للموت

نحن كمسلمين نعتقد بلطف الله ورحمته، ونؤمن بالآخرة والحساب وبكل شؤون الغيب. لذلك يمكننا ان نستقبل الموت بنفوس واثقة مطمئنة حينما نلتزم بحدود الله ونطبق اوامره ونتجنب نواهيه في هذه الحياة.. فأولياء الله لا يزعجهم الموت كثيرا بل يعتبرونه بطاقة دعوة لدخول جنة الله كما يقول تعالى ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ 4.
والنصوص الدينية تؤكد سهولة الموت ويسره على الإنسان المؤمن الملتزم يقول تعالى ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَىٰ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ 5بينما تتحدث عن بشاعته وصعوبته بالنسبة للكافرين والظالمين والمنحرفين فلهم وضع آخر عند الموت، يقول عنه تعالى ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ 6.
وسئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : ما الاستعداد للموت؟
فقال: «أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والاشتمال على المكارم، ثم لا يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه! والله لا يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت ?أم وقع الموت عليه!!» 7.

  • 1. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 168، الصفحة: 72.
  • 2. القران الكريم: سورة الجمعة (62)، الآية: 8، الصفحة: 553.
  • 3. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 34، الصفحة: 154.
  • 4. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآيات: 27 – 30، الصفحة: 594.
  • 5. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 28، الصفحة: 270.
  • 6. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 50 و 51، الصفحة: 183.
  • 7. الموقع الرسمي لسماحةالشيخ حسن الصفار * جريدة الدار الكويتية 28 / 10 / 2011م.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى