نور العترة

الامام موسى الصدر ..خلود الفكر والنهج …

أذكر أننا كنا في محضر أستاذنا المرجع الكبير الفيلسوف السيد محمد باقر الصدر في النجف الأشرف عندما دخل علينا ساعي البريد حاملاً ظرفاً من بيروت. فتحه السيد أمامنا وإذا بصورة للإمام موسى الصدر يظهر فيها واقفاً ويعلو فوق رأسه صليب في أحد الكنائس اللبنانية حيث كان يلقي محاضرة فيها. وفي الظرف أيضاً رسالة من مجموعة من علماء الدين اللبنانيين يشتكون فيها لمرجع النجف “تجاوزات” الإمام الصدر، الخارجة عن الموروث والسائد في العلاقات!!
وأنا لن أعلق على ما دار من حديث في هذا المجلس وما كان موقف المرجع الصدر من ابن عمه السيد موسى، ولكن تكفي الإشارة الى عمق الإنسجام بينهما في الرؤية والمنطلقات، وتقاربهما في بناء المعادلات الإجتماعية والسياسية التي تعبر عن إحساس ايماني مرهف، وثقافة تتميز بوعي معاني الحياة، وبالإستجابة لوحي العصر وعناصره المتحركة، وبأصالة الإعتراف بالآخر كنظير في الخلق يملك كل مقومات الإنسانية وشروطها.
فلم يكن ما قام به الإمام موسى الصدر إلا تعبيراً عن الذات المسلمة الحرة، التي تحيا بالإنفتاح، وتنمو بالمسؤولية. فيما لم يكن مجايلوه، وأولئك الذين عايشوا ظاهرة الإمام في لبنان من الحاسدين والكارهين يدركون أبعاد هذه الشخصية العابرة للمذاهب والطوائف والقوميات. فكأننا جميعاً الذين أحبوه والذين اختلفوا معه وعليه لم نلحظه كما يجب، ولم نفهمه وهو يحلق في عالم الإيمان والفكر، ولم نقدره حق قدره حينما أفرط في حبه الكبير للبنان رافضاً أن يتحول هذا الوطن الى “اسرائيليات” مذهبية أو طوائفية. بل ظل ينادي به كتاباً مفتوحاً للتأمل، ونادياً للحوار، ومدرسة تبوح بأبجدية التعايش، ورسالة إنسانية تتناثر في شتى أرجاء الأرض.
أتساءل بعد ثلاثة عقود تقريباً على إخفائه وأنا أحصي وجوه القوم الذين اتهمه بعضهم بالعمالة،وبعضهم بالتبعية والاستزلام،وكان لاخرين أن قالوا عنه ما لا يذكر على لسان أو يكتب على قرطاس.
أتساءل اليوم، وبدون ابداء مظاهر الدهشة والاستغراب،فأنا أعلم أن لكل زمان طحالبه، كيف يستطيع الانسان الذي يدعي الاسلاموية والتقدمية والثورية أن يسقط في غريزة العمى فلا يرى نور وثقافة وفكر الاسلام في حركة الامام وسلوكه ومواقفه. وكيف لا يرى تقدمية الامام وهو الذي نادى بالحوار منهجاً، وبالوحدة مسلكاً، وبالتعايش والانفتاح اطاراً للحياة، وبالحرية منطلقاً لوعي الذات ومعرفة الاخر واكتشاف الوجه الثقافي والحضاري للامم والشعوب.
وكيف … كيف لا يرى ثورية الامام وهو الذي حمل مشروع المقاومة، ووضع نظرية متكاملة لمجابهة المخطط الصهيوني، وقاد بنفسه الجماهير الى رحاب الجهاد لتحرير الارض والانسان من الحرمان والاحتلال. وكان دوماً يكرر شعارات “السلاح زينة الرجال” “وإسرائيل شر مطلق”. فكان من خلال ذلك يصدر حكماً شرعياً وأخلاقياً وسياسياً على دولة إسرائيل المصطنعة بأنها الشر كل الشر، وأنه من غير القوة والسلاح لا يمكن ان تستعاد الأرض السليبة، ولا أن تسترجع الحقوق، أو يرتدي الإنسان رداء الشرف والكرامة.
لقد اختار الإمام لنفسه أداء رسالة الأنبياء، وسعى بجهده وحركته ليستحق لقب خليفة الله على الأرض، فاشتغل في كل المفاصل والقضايا التي تخدم دور الإنسان ووجوده على الأرض.
فعلى المستوى الشيعي فإني أجزم انه قد أحدث صدمة وعي على مستوى البنية الفكرية والوظيفية للإجتماع الشيعي، فكان بحق باني نهضتهم، ورافع شأنهم بعد تاريخ طويل حافل بالظلامات والإهمال والحرمان.
أما على المستوى اللبناني فقد أعطي صيغة التعايش منظوراً ايديولوجياً ودينياً وحضارياً، وجعل لها مبنى فلسفياً، وإطاراً فكرياً يمتلك ان يرتب عليها حقائق إنسانية كبرى، ويفسرها في سياق أدوات انتاج السلام، وشروط الأمان الإجتماعي. فكان للقاءاته ومحاوراته ومحاضراته التي منها محاضرته في كنيسة الكبوشيين والتي أثارت جملة من ردود الأفعال من قبل بعض علماء الدين باعتبارها حركة التباسية في شكلها ومضمونها، الأثر الكبير في تطوير ركائز العيش المشترك، والغاء كل الحواجز والفوارق والمسافات التي تمنع التواصل والإتصال الإنساني.
وفيما يتعلق بالمستوى القومي فالدواعي النفسية وعمق المشتركات التاريخية والجغرافية والدينية والحضارية، وقوة الهوية والإنتماء، ووحدة القضايا وعلى رأسها قضية فلسطين تمثل جميعها مسلمات ينعزل الإحساس والفكر، وتضعف الطاقات والإمكانيات ان تم تجاهلها. ولهذا فقد أولى الإمام اهتماماً خاصاً بالبعد القومي في حركته، وبذل جهداً مضاعفاً ليقرب فيما بين الإتجاهات العربية كي تبقى منصبة في إطار تحقيق الأهداف المشتركة.
اما في المجال الإسلامي فلا أراني محرجاً إن قلت أنه كان قيمة إسلامية لا نظير لها في سعيه لتوحيد الفقه الإسلامي، والحد من التشرذم المذهبي، وفي صياغة رؤية اسلامية واحدة، وفي جمع كلمة المسلمين لمواجهة التحديات في خطوطها كافة.
إن العبرة في تذكر هذه الحادثة هي للإشارة أولاً الى عبقرية هذه الإمام، وشخصيته الفذة ونظرته البعيدة الأغوار الى المستقبل، وكأنه يلامس بيقينه وإدراكه الواعي كل القضايا التي تختلط على الآخرين فينقسمون فيها أحزاباً ومذاهب. وثاني الإشارات يعود الى ضمور عقلية البعض من علماء الدين وآخرين الذين كانوا يتخوفون من كل حركة انفتاحية على الآخر، بعدما تشربوا العهود طويلة أدبيات التحريم ووساوسها.
كان الإمام يتقدم بثبات في معركته مع الوثنية الطائفية، ووثنية التقاليد التي تريد ان يقفل كل واحد على نفسه ويبقى في عزلته الأبدية.
كان يشتهي ان يحقق كل أمانيه، كل أمانيه التي كان يبوح بها لطلابه ويسرّها لهم، فأخذته يد الغدر من حياة الناس ولكنها لم تأخذه من طريق الخلود1.

  • 1. المصدر: السفير الثلاثاء 23 آب 2005 العدد 10177 السنة 32، سماحة الشيخ عفيف النابلسي حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى