مقالات

الإجهاض “جريمةٌ إنسانيةٌ وأخلاقيّة”

قال الله سبحانه في مُحكم كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا … ﴾ 1.
تشير هذه الآية المباركة إلى المراحل التي يمرّ بها الإنسان منذ لحظة إنعقاد نطفته في رحم أمّه وانتهاءً بالوصول إلى مرحلة الموت والخروج من هذه الدنيا الفانية إلى دنيا الخلود.
وهذا التسلسل في سرد مراحل تكوين الإنسان يشير إلى الإعجاز الإلهيّ العظيم الذي يحوِّل النّطفة المقذوفة في رحم المرأة إلى مخلوقٍ كاملٍ من جسمٍ وروحٍ يولد ليتنعّم بالدنيا وليعيش فيها كما خطّط الله وأراد.

وهذا النموّ للنّطفة يحصل عند المرأة بشكلٍ قهريٍّ وليس بإرادتها، لأنّ الله سبحانه وتعالى جهَّز المرأة منذ أن خلقها حتى تكون مؤهّلةً للقيام بهذا الدور الذي يحفظ إستمرار النّسل البشريّ في هذه الدنيا، وإن كان أصل إلقاء النّطفة وقذفها في رحم المرأة أمراً اختيارياً بيد الرجل والمرأة، فكما يحقّ لهما التّوافق على قذف النّطفة خارج الرحم لكي لا تسبّب الحمل عند المرأة، كذلك يحقّ للرجل أن يقذف النّطفة داخل الرّحم لتكون البداية في مرحلة تكوّن الإنسان.

وكلّ هذا إن دلّ على شيءٍ فهو يدلّ على أنّ المرأة مؤتمنةًٌ شرعاً وأخلاقاً وإنسانيًّا على تلك النّطفة المقذوفة في رحمها، خصوصاً إذا انعقدت لتتحوّل بعد مراحل إلى مخلوقٍ كاملٍ يخرج إلى الدنيا مُستحقّاً للعيش فيها كما كلّ البشر الآخرين.

والمراد من ذكر كلّ هذا هو الوصول إلى النتيجة وهي “حُرمة الإجهاض”، أيّ حُرمة أن تقوم المرأة، من تلقاء نفسها أو بالاتّفاق مع الرجل، بالتخلّص من النّطفة المُنعقدة في أيّة مرحلةٍ من المراحل، لأنّ ذلك يتنافى مع حقّ الإنسان في الحياة وفق المنظور الإسلاميّ الإلهيّ، ذلك الحقّ الذي يبدأ منذ انعقاد النّطفة، لأنّها المرحلة الأساس في التكوين والخلق، وإذا كان التخلّص من مجرد النّطفة حراماً ، فمن المؤكّد أنّ التخلّص من الحمل في المراحل اللاحقة حرامٌ بشكل مؤكّد أكثر كما لو كان الحمل “علَقة” أو “مُضغة” أو بعد دخول الرّوح إلى جسد الحمل في رحم المرأة.

ولكن ممّا يؤسف له جداً أنّ الفساد والفسق والفجور الذي ساد في العالم الغربي، خصوصاً بعد إطلاق مفهوم ما يسمّى بـ”الحريّة الشخصيّة”، أدّى إلى أن يصبح هذا الفعل الإجراميّ وغير الأخلاقيّ والمنافي للشرائع السماويّة كافّةً أمراً مشروعاً في العديد من دول العالم من دون أن يتصدّى أحدٌ لذلك الفعل الشّنيع بقوة.

وممّا يؤسف له أكثر أنّ هذا الفعل المُنافي لحقّ الإنسان في الحياة إنتقل حتّى إلى بلادنا الإسلاميّة تارة بعنوان “تحديد النّسل”، وطوراً بعنوان “الضّغط الاقتصاديّ”، وثالثةً تحت عنوان “عمالة المرأة وعدم قدرتها على التّربية”، مع أنّ كلّ هذه العناوين ليست بشيءٍ إذا ما أردنا مقارنتها بحقّ الحياة المقدّس للإنسان الذي جعله الله أعظم هبةٍ ومنحةٍ أعطاها له وفضَّله بها على الكثير ممّن خلق.

إلاّ أنّ هذه العناوين وغيرها التي سمحت للمرأة في عالم الغرب بممارسة الإجهاض بعنوان أنّها حرّة في الاحتفاظ بالحمل أو بإجهاضه لم تنتشر كثيراً في عالمنا الإسلاميّ إلاّ في حدودٍ ضيّقةٍ لأنّ الشّرع الإسلاميّ الحنيف يعتبر الإجهاض جريمةً ويُعاقب مرتكبها والمُعين عليها كذلك، وإن كانت المسألة تُثار بين الفترة والأخرى تحت عناوين كالتي ذكرناها أو غيرها.

ومن هنا نرى أنّ مسؤوليّة القيّمين على الشؤون الدينيّة للمسلمين كبيرةٌ في هذا المجال، وقد تحمّلوها عبر الإفتاء بحرمة الإجهاض إلاّ في حدود الضّرورة الشّديدة في مرحلة ما قبل دخول الروح إلى الجنين، كما لو كان بقاء الحمل الذي لم تدخله الرّوح مؤديّاً إلى وجود ضررٍ صحيٍّ كبيرٍ أو خطرٍ على حياة المرأة فقط في هذه الحالة يجوز الإجهاض، أمّا بعد دخول الرّوح فلا يجوز الإجهاض مطلقاً إلا إذا كان بقاء الحمل في هذه الحالة مؤدياً إلى موت الأم وجنينها فحينها فقط يجوز للمرأة إجهاض الجنين الذي دخلته الروح.

والحمد لله رب العالمين2.

  • 1. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 5، الصفحة: 332.
  • 2. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد التوفيق المقداد (حفظه الله)
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى