مقالات

إبراهيم وولده عليهما السلام…

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات الكريمة

إن الله سبحانه وتعالى قد وهب لإبراهيم ولده إسماعيل ( عليهما السلام ) بعد أن طعن في السن . وبلغ من الكبر عتياً ، قال تعالى : ﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ … ﴾ 1 .
وحين جاءت الملائكة إلى إبراهيم ( عليه السلام ) بالبشرى فوجل منهم : ﴿ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ﴾ 2 .

وكان الفاصل بين البشارتين بإسماعيل ، وبإسحاق ( عليهما السلام ) خمس سنوات ، وذكرت الآيات البشارة بإسحاق ( عليه السلام ) مصرحة بشيخوخة إبراهيم ( عليه السلام ) ، قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ 3 .
وقال تعالى : ﴿ … قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ﴾ 4 ﴿ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ 5 .
ولما كبر هذا الولد ، وصار يذهب ويجيء أمر الله أباه بذبحه . قال تعالى : ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ 6 .
وقد كانت قضية الذبح هذه هي البلاء المبين ، الذي بيَّن وأظهر حقيقة إبراهيم ( عليه السلام ) وكانت هي الكلمة الأكثر صراحة وإيضاحاً لاستحقاق إبراهيم ( عليه السلام ) لمقام الإمامة ، الذي أعطي له بمجرد أن قام بهذا الأمر العظيم . .
قال تعالى : ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 7 .

طريقة التعاطي مع هذا الحدث

إننا قبل أن ندخل في البحث نذكّر القارئ الكريم بأننا سوف نجري الحديث فيه وفقاً للنظرة العادية للأمور ، وبغض النظر عن مقام الاصطفاء الإلهي ، وعن مرتبة النبوة ، لإبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) . . ولذلك فإن تعابيرنا عن مقاصدنا سوف تكون في هذا السياق . . فليلاحظ ذلك . .

الوليد الجديد والوحيد

إن من يقضي عمره بلا ولد ، ويبلغ سن الشيخوخة . . ثم يولد له ، فإن تعلقه بولده سيكون أشد من تعلق الناس بأبنائهم ، حين يولدون لهم وهم في سن الشباب . فكيف إذا كان هذا الولد وحيداً لأبويه الطاعنين في السن ، فإن الحب له سيكون مضاعفاً ، والالتذاذ بالنظر إليه والتعاطي معه ، والاهتمام بالحفاظ عليه حتى من النسيم العابر ، سيكون أعظم بكثير مما لولم يكن وحيداً . والأنبياء أرق الناس طبعاً ، وأرهف حساً وأكثر حناناً وعطفاً . .
ومن الواضح : أن هذا الحب العارم ، وذلك التعلق الشديد سيكون حافزاً إلى بذل عناية أكبر في تربيته تربية صالحة ، ومراقبة كل حركاته وسكناته ، وتوجيهها بالاتجاه الصحيح والسليم . .
فإذا كان هذا المربي هو أعظم الأنبياء وأفضلهم ـ بعد نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) ـ وكان الطفل هو إسماعيل ( عليه السلام ) الذي كانت طفولته طفولة نبي ، وهي أرقى وأكمل وأنبل وأفضل طفولة . . فإن تجسد معاني النبل والفضل والكمال الفائق فيه ، سيزيد من حب إبراهيم ( عليه السلام ) له ، لأن إبراهيم ( عليه السلام ) هو أفضل من يدرك بعمق وبوعي قيمة تلك الميزات والخصائص ، ويعرف آثارها . . وهو أكثر الناس حباً لها ، وانجذاباً إليها ، وتفاعلاً معها ، وتفانياً في سبيلها ، وقد نذر نفسه ، وكل وجوده وحياته بالدعوة إليها وإيجادها ، ونشرها وترسيخها في الناس ، ولتكون هي وعيهم ، وفكرهم وحياتهم وسلوكهم ، وممارستهم ، وكل وجودهم .
ثم إن الإنسان يحب ثمرات جهده ، ويميل إليها مهما كان حجمها ونوعها . .
وخلاصة القول : أن الإنسان العادي يحب تلك الصفات ، وينجذب إليها ، فكيف بالنبي ، وكيف بشيخ الأنبياء ، وأفضلهم بعد النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) . .
وها هي تتجسد بأجلى وأتم مظاهرها بولده الوحيد الذي جاءه بعد أن طعن أبوه في السن ، وكبرذلك الولد أمام عيني أبيه ، الشيخ الكبير ، فلا غرو في أن تبلغ محبته له أعلى الدرجات ، وأقصى الغايات . .

عنفوان الطفولة

يضاف إلى ذلك كله : أن للطفولة حالاتها ، ومزاياها التي تتنوع بواعث الانشداد والانجذاب فيها ، وذلك من خلال الحركات واللفتات التي يسجلها الطفل في حركته . .
فإن الأب سيلتذ بعنفوان الطفولة ، ولمحات الوعي ، ولمعات الذكاء ، ولفتات الجمال . وسيكون أكثر التذاذاً وهو يراقب ويتلمس الميزات والمواصفات الإنسانية ، وهي تتنامى في شخصية هذا الطفل العزيز ـ إسماعيل ( عليه السلام ) ـ بصورة غير عادية وغير مألوفة ، لأنها ميزات طفل يعده الله سبحانه لمقام النبوة .
وكان إسماعيل ( عليه السلام ) يسجل تصرفاته ، فتأتي غاية في الدقة ، والصحة ، وبالغة الانسجام مع مرادات وأهداف أبيه النبي صلوات الله وسلامه عليهما . .
وسيجد والده الذي يعرف قيمة هذه الميزات ، وبواعث تلك الحركات والتصرفات ، التي له تعلق خاص بها ، سيجد في نفسه المزيد من التعلق بهذا الطفل ، وسيتأكد حبه وإعزازه له . .
إن الإنسان له تعلق بولده حتى لو كان طفلاً عادياً ، بل حتى لو كان عاقاً له ، فكيف إذا كان في أعلى درجات البر به ، جامعاً لأسمى المواصفات وأغلاها ، وأنبلها وأسناها . إنه سيحافظ على هذا الطفل كأعظم ما يكون الحفاظ . . وسيكون ضنيناً به حريصاً عليه كل الحرص . . وقد قال علي ( عليه السلام ) : بني وجدتك بعضي ، بل وجدتك كلي ، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني ، وكأن الموت لو أتاك أتاني .

حالات مؤلمة

ولنفرض أن هذا الطفل بكى ـ ولو في أيامه الأولى ـ وقبل أن يزيد التعلق به . . فإن والده سيبادر إلى البحث عن سبب بكائه ، هل هو العطش ، أو الجوع ، أو الألم ، أو الضجر ، أو أي شيء آخر . . فإذا مرض هذا الولد ، فإن همه واهتمامه به سيزداد . . وسوف تثور المخاوف في نفسه ، وتزدحم البلابل في صدره .
فإذا كان المرض خطيراً ، أو إذا فقد بعض أعضائه كعينه أو رجله ، أو يده ، فكم سيكون هم أبيه وتألمه وأسفه عظيماً لأجله . .
فإذا مات ، فكم سيكون عليه هذا الحدث صعباً ومؤلماً . .
وإذا مات مقتولاً . . فإن الألم يكون أشد ، أما أن يذبح كما يذبح الكبش ، فاللهفة عليه ستصبح أعظم . . فكيف إذا كان ذلك أمام عينيه . . فإن القضية ستكون أقسى والانفعال أبين . .
وقد يتفق أن يكون الأب سبباً في قتل ولده هذا الحبيب عن غير عمد منه ، كما لو صدمه بصورة عفوية في سيارة مثلاً ، أو في أية وسيلة أخرى ، فكم ستكون حسرته عليه ، وكم سيظهر من التلهف والأسى والحنين إليه؟!

الامتحان الصعب

ولنفترض أنه قد تحتم على إنسان مّا أن يقتل ولده ليدفع شره عن نفسه ، أو في فورة غضب طاغية ، حيث يكون ذلك الولد قد بالغ في العدوان على ذلك الوالد ، وفي الإجرام في حقه . . ألا تتوقع أن يختار طريقة المفاجأة والسرعة ، وأن ينهي الأمر بطريقة عشوائية ، ليتخلص من الحرج ، ومن الكابوس الصعب الذي يواجهه ، إنه سيفعل ذلك بالتأكيد ، بكثير من الارتباك ، والعصبية ، والانفعال . فكيف تكون الحال لو كان ذلك الولد باراً بأبيه وقد ظهرت فيه أمارات التميز ، وتبلورت في شخصيته دلائل النبوغ والتفوق ، فإن إقدامه على قتل ولده سيكون أقرب إلى المحال . لا سيما بعد أن عاش معه ردحاً من الزمن ، وتلمس ميزاته ، وألِف حركاته ، وتجلت له كمالاته . . ولن يخبر ولده بالأمر ، لأنه سيرى أن ذلك يزيد في ألم ذلك الولد وفي حيرته ، وسوف يزيد انتظار ولده للذبح من آلام ذلك الوالد ، ومن صعوبة تنفيذ المهمة التي تواجهه . .
فكيف إذا كان لا بد له أن يقتله بطريقة الذبح ، وبيده ، وبسكينه . كما حصل لإبراهيم ( عليه السلام ) .
وقد واجه إبراهيم ( عليه السلام ) هذا الأمر الإلهي بالذبح ـ نعم . . الذبح لا مجرد الضرب أو الطرد ـ بصبر وأناة ، وتصدى لامتثال أمر الله سبحانه بكل رضا وثبات ، وعزيمة وإصرار .
ولم نجده أفسح المجال لأي احتمال أو وهم يراود نفسه ، فيما يرتبط بجدية هذا الأمر ، وأنه إنما جاء عن طريق الرؤيا ، ولم يتساءل عن أسبابه ، فلعله يقدر على إزالة تلك الأسباب . .
من المعلوم : أن الأنبياء هم أكمل البشر في إنسانيتهم ، وأصفاهم نفساً ، وأشدهم إحساساً . ونفوسهم تزخر بالعواطف النبيلة ، ومشاعر الحب الجياشة . وهم في منتهى الرقة على بني الإنسان ، فكيف إذا كان هذا الإنسان طفلاً ، وكيف إذا كان في مستوى نبي هو إسماعيل ( عليه السلام ) . . إن هذه الخصوصيات التي بيناها تعطينا القيمة الحقيقية لامتثال الأمر الإلهي لإبراهيم ( عليه السلام ) بالذبح لولده إسماعيل ( عليه السلام ) كما أنها تعطي أيضاً قيمة كبرى لإيمان إبراهيم ( عليه السلام ) الذي أوصله إلى درجة الرضا ، بهذا الأمر ، والاندفاع إليه ، رغم كل هذا الإحساس المرهف ، وكل هذه العاطفة الجياشة ، التي يغذيها إدراك عميق لقيمة مزايا إسماعيل ، ومعرفة حقيقية به ( عليه السلام ) . .

التصعيد و رفع مستوى الابتلاء

ومما يرفع من مستوى وقيمة ما فعله إبراهيم ( عليه السلام ) ، أن كل هذا الذي لم نستطع أن نصفه إلا بهذا المستوى الباهت والمحدود : قد أضيف إليه أن إبراهيم ( عليه السلام ) ، رغم ذلك كله ، لم يله عن مسؤوليته ودوره تجاه ولده الوحيد حتى في هذه اللحظات الحرجة ، حيث إنه قد بادر إلى رفع مستوى الابتلاء ، إلى أقصى درجاته ، فلم يندفع لتنفيذ الأمر على حين غفلة من إسماعيل ( عليه السلام ) . . بل هو قد أخبر ولده بالأمر ، وطلب منه أن يرى رأيه . . فإن ذلك يعني :
1ـ إنه ( عليه السلام ) لم يفرض قراره على ولده ، ولم يكرهه على القبول به . . بل هو لم يمارس أي نوع من أنواع الإيحاء ، ولو بإظهار الميل إلى هذا الخيار أو ذاك . .
2ـ إنه ( عليه السلام ) قد أراد بذلك أن ينيل ولده أجر الطاعة لله سبحانه في مثل هذا الأمر العظيم ، الذي يستهدف حياته بهذه الطريقة الغريبة والصعبة ، وهو صبي في مقتبل عمره ، ينفر نظراؤه من كل ما يعكر عليهم صفو الحياة ، أو يصدّهم عن اهتماماتهم الطفولية ، وعن ممارسة ما يبعث في نفوسهم المزيد من المرح والابتهاج .
نعم . . إن إبراهيم ( عليه السلام ) لا يسعى لتخفيف الآلام عن نفسه ، بل هو يسعى لاكتساب المزيد من ثواب الله سبحانه ، حين يعرّض نفسه للمزيد من الآلام في سبيل رضا الله سبحانه وتعالى . .
3ـ أن يجعل من هذا التكليف وسيلة لتنمية الملكات الإيمانية ، وإعطائها المزيد من القوة والعمق في داخل نفس إسماعيل ( عليه السلام ) .
4ـ ثم هو إعلان للبشرية جمعاء أن ذبح ولده لا يمثل عدواناً عليه ، وإنما هو طاعة لله ، يشتركان معاً فيها عن رضا وعن اختيار . .
5ـ وهو أيضاً بيان للأمثولة ، والقدوة ، والأسوة للناس . . بصورة عملية وفعلية ، وعدم الاكتفاء بإصدار الأوامر والنواهي ، على سبيل التنظير للآخرين . .
6ـ ثم إن ذلك يبين ويظهر دراية ، وعقل ، وسمو نظر ، وعلو مقام إسماعيل ( عليه السلام ) ، وحقيقة ملكاته ، التي أوصلته إلى هذا المدى البعيد من المعرفة بالله سبحانه ، ومن الرضا والانقياد والطاعة له سبحانه ، وهو لما يزل طفلاً ، قد بلغ السعي لتوه . . وهو يستقبل الحياة بكل عنفوانها ، وهي تبتسم له ، وتعرض نفسها عليه بكل مباهجها ، وإذ به يزهد بها ، ويعرض عنها ، لأنه إنما يريدها ويطلبها لله ، ولا يريدها لأنها تستحق أن تطلب وتراد . .
وذلك يجعلنا نفهم بعمق طهر إسماعيل ( عليه السلام ) وصفاء نفسه ، ومدى استعداده للتضحية في سبيل الله ، وصبره على أعظم البلاء في سبيل رضاه جل وعلا . .
﴿ … يَا بُنَيَّ … ﴾ 8 :
وإذا أردنا أن نستنطق كلمات الآيات المباركة نفسها ، فإنها تقول : ﴿ … قَالَ يَا بُنَيَّ … ﴾ 8 .
وهي كلمة تنضح بالعاطفة ، وتفيض بالحب والحنان ـ يا بني ـ هذه الكلمة الحنونة ، تفهم إسماعيل ( عليه السلام ) أن أباه حين يقدم على هذا الأمر العظيم ، فإن ذلك ليس لأنه كان غاضباً عليه ، أو منزعجاً منه إلى الحد الذي أخرجه عن حالة التوازن ، بل هو بكامل وعيه ، وتبصره ، وهو راضٍ كل الرضا عن ولده . . ومشفق وحدوب عليه .
وهذا أيضاً يطمئن إسماعيل إلى أنه يستطيع أن يختار ما يشاء ، من دون أي إكراه أو قهر ، ومن دون أن يشعر بأي حرج من ذلك الاختيار . وربما يكون شعوره بهذا الحنان من أبيه مشجعاً له على اختيار ما ينسجم مع عاطفة أبيه ، وحبه ورضاه . .

لإسماعيل ( عليه السلام ) الخيار

ثم إنه حين قال له : ﴿ … إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ … ﴾ 8 قد أعلمه أن الرؤيا مستمرة ، ولم تنته ، وأنه إنما رأى خصوص عملية الذبح ، وهي ترتسم على صفحة الوجود بصورة تدريجية ، وهذا يشير إلى أنه لم ير أن الذبح قد اكتمل وانتهى . .
نعم . . لقد أعلمه بذلك ثم قدم له فرصة لاختيار ما يروق له ، ولم يحرضه على أي من الأمرين ، بل هو قد يسّرهما معاً له . . وهوّنهما عليه ، بالحديث عن أن الأمر لا يعدو أن يكون رؤيا منام ، مما يفسح له المجال أمام اختيار الرفض ، إذا أراد اعتبار القضية مجرد رؤيا ، قد تكون بسبب حديث النفس بالأمر بالنهار ، فيراه في منامه ليلاً . . وذلك يفسح المجال أمامه لكي يحتمل أنها رؤياً غير ملزمة له . وكما أن إبراهيم ( عليه السلام ) لم يشعره بوجود إلزام في البين ، فلم يقل له : إني ملزم بقتلك ، ليجد إسماعيل ( عليه السلام ) نفسه محرجاً أمام والده . .
ومن جهة ثانية : إن تكليف الأب بأمر ليس بالضرورة أن يكون ملزماً للابن . . فكيف إذا كان مجرد رؤيا ومنام؟!
ومن جهة ثالثة : يلاحظ هنا : أنه ( عليه السلام ) لم يقل لإسماعيل ( عليه السلام ) : قد أراني الله في المنام ذلك . كما أنه لم يقل له : إن الله أمرني أن أذبحك ، بل قال له : أرى في المنام أني أذبحك ، فنسب الرؤيا إلى نفسه . وذلك كي لا يحرجه بأية إلماحة إلى وجود قرار إلهي بذلك . . بحيث يكون ذلك سبباً في ميله نحو الخيار الأصعب .
ومن جهة رابعة : فإنه قد صرح له بأنه غير ملزم بقبول أي من الخيارين حيث قال له : ﴿ … فَانظُرْ مَاذَا تَرَى … ﴾ 8 في إشارة واضحة أيضاً إلى ثقة إبراهيم ( عليه السلام ) بحسن اختيار ولده . وبصحته وصوابيته . . وذلك حين أعطاه القيمة والدور الحاسم .
وبعد ذلك كله . . فإن ذلك الاختيار التاريخي سوف يبين قيمة إسماعيل ( عليه السلام ) ، ويظهر حقيقة مزاياه . .

إسماعيل ( عليه السلام ) ، يلزم أباه بالإقدام

وقد أفهم الأب ولده بأن الأمر ليس مفروضاً عليه . . ولكن الابن يصر ويدفع بالأمر إلى حد إلزام الأب بالإقدام على ذلك الأمر العظيم . فلم يقل إسماعيل ( عليه السلام ) لأبيه : هذه رؤيا . . ولا قال له : أنت حر في أن تفعل أو لا تفعل . . كما أنه لم يطلب منه أن يتريث في الأمر ، انتظاراً للبداء الإلهي مثلاً . .
بل هو قد طلب منه بصورة الحتم والجزم . . فقال : ﴿ … افْعَلْ … ﴾ 8 .
ولكن ذلك لا يلغي احتمال أن يكون إسماعيل ( عليه السلام ) قد قال ذلك لا عن رغبة في حصول الفعل ، بل مجاراة لأبيه ، وحباً بإرضائه ، فأتْبَع ذلك بالإلماح إلى ضرورة ، وحتمية ، أن يفعل ، حين قال له : ﴿ … مَا تُؤْمَرُ … ﴾ 8 ولم يقل له : افعل وفق ما رأيت في منامك . . ، فهو بقوله هذا قد قدم له المبرر بل قدم له الدليل والسبب الذي يحتم عليه الإقدام ، وهو وجود أمر إلزامي ، لا بد لإبراهيم ( عليه السلام ) من امتثاله ، فألغى بذلك أي احتمال في أن تكون رؤياه غير ملزمة له .
كما أنه لم يقل له : إفعل ما يطلب منك . إذ قد يتخيل أن الطلب قد يكون إلزامياً وقد لا يكون كذلك . .
كما أنه لم يقل له : إفعل ما يحبه الله تعالى ، لأن الحب أيضاً قد لا يصل إلى درجة الحتم والجزم .

إختيار إسماعيل ( عليه السلام ) شرط للإلزام

والأمر المتوجه إلى إبراهيم ( عليه السلام ) بالذبح ، مشروط في بلوغه حد الإلزام بقبول واختيار وموافقة إسماعيل ( عليه السلام ) ، أما لو اختار أن يرفض ذلك ، فإن الأمر يسقط عن إبراهيم ( عليه السلام ) والشاهد على ذلك إرجاعه الأمر إلى إسماعيل ( عليه السلام ) في قوله : ﴿ … فَانظُرْ مَاذَا تَرَى … ﴾ 8 .
أما إسماعيل ( عليه السلام ) نفسه ، فإنه ليس ملزماً باختيار هذا الطرف أو ذاك . واختيار أي منهما لا ينقص من مقامه ، ولا يوجب له أي مشكلة . وإن كان يحرمه من مقامات أجل وأسمى . .
وعلى هذا الأساس وإذا كان تكليف إبراهيم ( عليه السلام ) متوقفاً على ما يختاره إسماعيل ( عليه السلام ) . . فلو أن إسماعيل ( عليه السلام ) أرجع الأمر إلى أبيه ، فقال له : إفعل ما بدا لك مثلاً . . فإن بإمكان إبراهيم ( عليه السلام ) أن يعتبر نفسه نائباً ووكيلاً عن ولده ، ويجد نفسه ملزماً باختيار ما يرى أنه من مصلحة إسماعيل ( عليه السلام ) وهو الحياة, فيختار ذلك له . . ويكون معذوراً في هذا الاختيار ، بل يكون ملزماً بهذا الاختيار دون سواه . . لأنه إنما يفعل ذلك من موقع النيابة التي تفرض مراعاة مصلحة المنوب عنه .
وفي جميع الأحوال فإن إسماعيل ( عليه السلام ) قد ألغى ذلك كله ، من خلال كلمة ﴿ … فَانظُرْ مَاذَا تَرَى … ﴾ 8 .
وقد أكد ذلك بالإشارة إلى أنه لا يقول له هذا عن ضيق بهذا الأمر ، ولا يجد فيه أية غضاضة ، ولا يلمح فيه أية قسوة ، بل هو ـ مع ذلك كله ـ يراه الأب الرحيم الرؤوف المحب ، الذي يتعامل معه من موقع الأبوة الحانية العطوفة ، فقال له :
أولاً : ﴿ … يَا أَبَتِ … ﴾ 8 . وهي كلمة تنضح بالمحبة والولاء ، والانقياد ، والطاعة والرضا ، وبالثقة بأبوته الحكيمة والمدبرة ، والحانية ، التي تتحمل مسؤولياتها بكل أمانة والتزام . .
وهنا تكمن عظمة إسماعيل ( عليه السلام ) ، في اختياره الحكيم ، والذي لم تتدخل فيه أي من العوامل غير الإلهية . . مع أن الباب كان مفتوحاً أمامه على مصراعيه ، ليبعد هذا الأمر عن نفسه ، وإذا به يظهر الإصرار على أبيه بهذا المستوى . لا يختار إلا طريق ذات الشوكة ، لنفسه ولأبيه ، رغم أن رفض إسماعيل ( عليه السلام ) لو حصل لأسقط التكليف عن إبراهيم ( عليه السلام ) . .
وعلى كل حال ، فقد أكد إسماعيل ( عليه السلام ) هذا الإصرار ، وهو يهون هذا الأمر على أبيه ، لكي لا يجد كبير حرج في الإقدام عليه ، حين قال له : ﴿ … سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ 8 .
ولا شك في أن موقف إسماعيل ( عليه السلام ) هذا سيزيد من تعلق والده به ، ومن صعوبة التخلي عنه ، فكيف إذا كان هذا الأمر ـ القتل ـ سيتم على يديه ، وبصورة مؤلمة لقلبه ، وهي القتل بطريقة الذبح ، التي هي ممارسة فعلية ، وعن التفات ، ومع رؤية بصرية لأمر هو بنفسه بالغ الصعوبة على النفس ، حتى في حق غير البشر ، فكيف إذا كان بحق الإنسان ، وبحق الولد ، وبحق إسماعيل ( عليه السلام ) بالذات ومع التفات إسماعيل ( عليه السلام ) ، ومع اختياره ورضاه؟!

حضور الله في القلب

ولمزيد من التوضيح ، نقول : إن الإقدام على أي عمل يحتاج إلى حوافز ، ودواع ، فمثلاً : لو أن رجلين كانا يقتتلان ، فقد يمر من هناك شخص ، فيضحك ، ولا يهتم لما يجري ، لكن يمر شخص آخر ، فيبادر إلى حل الإشكال ، مع علمه بأنه قد يتعرض للضرب والأذى ، ولكنه لا يتراجع ، بل هو يواصل ذلك ، في استجابة عفوية منه لنداء ضميره ووجدانه . .
وكذلك الحال بالنسبة للتكاليف الشرعية الإلهية ، فإنك قد تجد لدى بعض الناس رغبة في مخالفتها ، لأنهم يسقطون أمام الدوافع الغريزية ، أو المصلحية ، أو العشائرية ، أو الفئوية ، أوغيرها . .
وذلك مثل التكليف بالصوم ، أو ببذل بعض الأموال ، فإن حب الراحة وحب المال قد يدعو بعض الناس إلى المخالفة وكالجهاد في سبيل الله ضد العشيرة ، أو ضد الأصدقاء والأحبة . . وما ذلك إلا لأن إيمانه بالله كان يقتصر على الاعتراف بوجوده ، من خلال الدليل الذي فرض عليه هذا الإيمان والاعتراف ، وقد تجده يستدل ويدافع ويثبت لك صحة ما يؤمن به ، ولكن هذا الإيمان لا يؤثر في ممارسته العملية ، ولا يخضع قلبه له ، ولا يحصنه من مخالفة أوامره تعالى . .
وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله : ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ … ﴾ 9 .
وقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ … ﴾ 10 .
فلا فرق بين هذا الشخص في ذلك وبين من ينكر وجوده سبحانه من الناحية العملية ، فيحتاج لكي يلتزم بالأمر إلى روادع أخرى ـ كالتخويف من العقاب ، أو دوافع وحوافز من قبيل الترغيب بمصالح ، أو إثارة مشاعر عاطفية ، أو طرح شعارات وطنية ، أو إثارة عصبيات عنصرية ، أو عشائرية ، أو ما شابه . .
ولكن الأمر بالنسبة لإبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) لم يكن كذلك ، بل كان نفس حضور الله تعالى في قلبيهما هو الداعي لهما إلى ذلك . . ولم يكن ثمة أي إكراه ولا إجبار ، بل كان هناك سعي منهما إلى تحقيق رضا الله سبحانه ، ولو لمجرد إدراكهما لذلك عن طريق منام يحكي لهما ما يحبه الله . . بل حتى لو لم يكن هناك أمر ولا زجر ، فإنهما سيريان نفسيهما أيضاً في موقع المطيع ، والملزم بتحقيق ذلك الأمر .
وذلك كله يعطينا : أنه لا بد في الطاعة الحقيقية من إدخال الله سبحانه إلى قلب الإنسان المؤمن ، وإلى وجدانه ليتفاعل مع فطرته ، ومع كل كيانه . .
فطبيعة قتل الإنسان لولده ـ وفقاً للمواصفات والحالات التي ذكرناها تدفع الإنسان إلى رفض هذا الأمر ومقاومته . . ولكن حضور الله سبحانه في قلب إبراهيم ( عليه السلام ) ، وهيمنته على كل ذرات وجوده قد قلب الصورة ، ليكون الله وحده هو المؤثر في كل حركاته وسكناته ، من دون انضمام أي داع آخر إليه . . وهذه هي عظمة إبراهيم ( عليه السلام ) حقاً . .
وتلك أيضاً هي عظمة إسماعيل ( عليه السلام ) الذي آثر الخيار الأصعب رغبة في الحصول على مقام القرب من الله ، رغم أن أباه قد جرد له القضية عن أي دافع ، حتى دافع الرغبة الشخصية ، فضلاً عن دافع الخوف والرهبة والمراقبة لمقام الألوهية ، فلم يتحدث له عن الله سبحانه ، بل لقد أبعد عن مخيلته حتى صورة الأمر والزجر ، الذي ربما يوجد درجة من الإحساس بالإلزام ، واكتفى بقوله : ﴿ … إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ … ﴾ 8 فنسب الرؤية لنفسه ، فلم يقل أُرِيت في المنام . لكي لا يذكره بما يحرجه ، ولو في مستوى إرجاع الضمير ، الذي يكون لفظ الجلالة أحد محتملاته ، فضلاً عن أن يقول له : لقد أراني الله . . كل ذلك لكي لا يجد إسماعيل ( عليه السلام ) نفسه أمام أي إلزام يدعوه إلى الاستسلام ، مهما كان نوعه ، ومن أي جهة كان مصدره .
وهكذا يتضح أيضاً : أنه لم يكن دافع إسماعيل ( عليه السلام ) إلا قناعاته الفكرية ، ولم تكن هذه القناعات بحاجة إلى تعزيز موقعها بحوافز أخرى أبداً . .
﴿ … سَتَجِدُنِي … ﴾ 8 :
واللافت للنظر هنا : أن إسماعيل ( عليه السلام ) لم يقل لأبيه : سأصبر ، بل قال له : ﴿ … سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ 8 .
فاختار كلمة {تَجِدُنِي} لأنه لم يرد أن يقدم لأبيه وعداًً بالصبر ، لأن الوعد قد يوحي له بأن ما يعد به غير حاصل بالفعل . . وقد تمنع الموانع من حصوله في المستقبل . . أو قد يحصل البداء فيما يرتبط بالوفاء به ، لأكثر من سبب . بل أخبر أباه بأن الصبر داخل في كينونته ، وفي حقيقة وجوده ، وما عليه إلا أن يتلمسه وأن يثيره فيه وأن يستفيد منه ، فليس هو إذن من الأمور العارضة التي أثارها الانفعال أو أي عامل آخر . وسوف تزول بزوال ذلك العامل . .
وذلك من شأنه أن يسهم في تشجيع أبيه على الإقدام على هذا الأمر ، ويزيد من الترغيب به ، ويبعد شبح التردد فيه . .
﴿ … إِن شَاء اللَّهُ … ﴾ 8 :
ثم زاد إسماعيل ( عليه السلام ) في التأكيد على هذا الجانب حين بالغ في طمأنة والده إلى أنه لا يعتمد في صبره هذا على جهده البشري . بل هو فعل إلهي ، ومرتبط بمشيئته تعالى . . فالله هو المتكفل إذن بهذا الصبر ، وباستمراريته وجدواه . وهذا من شأنه أن يوجد حوافز لدى أبيه تدعوه لاتخاذ قراره بالتنفيذ ، ويبادر إليه برضا وطمأنينة وسلام ، ولذلك قال له : ﴿ … إِن شَاء اللَّهُ … ﴾ 8 .
وهكذا . . يتابع إسماعيل ( عليه السلام ) محاولته إقناع أبيه بالإقدام على هذا الأمر ، فيطمئنه إلى أن الله سبحانه سيكون معه ، حين يجعله صابراً على هذا الأمر ، وإذا كان الله هو الذي يمده بالصبر ، فليس على الوالد أن يتوقف كثيراً أمام حسابات حجم الآلام التي سوف يواجهها ولده . .
﴿ … مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ 8 :
وتأتي كلمة ﴿ … مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ 8 لتبين لنا كيف أن إسماعيل ( عليه السلام ) يزيد في تهوين الأمر على أبيه ، حين يلمح له إلى أن أمثال هذه الأعمال الشاقة قد تعرّض لها كثيرون ، وقد صبروا عليها . . فلم لا يكون إسماعيل ( عليه السلام ) واحداً من هؤلاء الصابرين . .
إذن ، فليس هذا الأمر فوق طاقة البشر ، ليخشى منه أبداً ، أو ليستعظمه ، ويستفظعه . .
وقد أظهر إسماعيل ( عليه السلام ) في كلامه هذا أنه لا يرى نفسه أهلاً لأن ينسب هذا الإنجاز لنفسه ، بل لعله لا يرى ذلك إنجازاً مميزاً يحق له أن يتباهى به ، كما نراه من الآخرين . بل هو تكليف من مالك الأمر والنهي ، لا بد له أن يطيعه ، وهو مبادرة إلى إنجاز ما يحبه الله سبحانه ، حتى لو لم تكن هناك صورة عينية لهذا الأمر ، وذلك كما لو كان هناك مانع يمنع من تسجيله وإنشائه ، وقد اطلعنا على إرادة المولى له ، ورغبته وترجيحه لإيجاده ولو عن طريق الرؤيا الصادقة ، وهي رؤيا الأنبياء . .
وعلى كل حال ، فإن على العبد أن يحقق مراد مولاه . . وذلك بمقتضى عبوديته ومملوكيته له . . وليس له أن يتعلل أو أن يترقب مكافأة منه . . ما دام أن كل شيء يعود إلى ذلك المولى ومصدره منه . . ولذلك لم ينسب إسماعيل ( عليه السلام ) إلى نفسه أية بطولة ، فلم يقل : ستجدني صابراً ، بل نسب صبره إلى الله سبحانه ، فقال : ﴿ … إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ 8 فإن كان ثمة من صبر فهو من الله تعالى تبعاً لمشيئته سبحانه . .
كما أنه لم يقدم نفسه على أنه قد جاء بما لم يأت به غيره . . بل قدم نفسه على أنه واحد من كثيرين . . قد قاموا بمثل هذه الأمور العظيمة ، وصبروا عليها . .
واضح : أن هذا الوعي العظيم ، وهذه الروح الطاهرة الفانية في الله ، ستجعل أباه ( عليه السلام ) أعمق إدراكاً لمزايا ولده إسماعيل ( عليه السلام ) ، وستجعله أكثر تعلقاً به ، وسيزيد ذلك من صعوبة القيام بالأمر الذي هو بصدد الإقدام عليه . .

إنه إبراهيم

وكل هاتيك المؤثرات لا بد أن تشد الإنسان إلى الوراء ، وتمنعه من تنفيذ المهمة ، لولا أن الذي يتصدى لهذا الأمر هو إبراهيم ( عليه السلام ) . . شيخ الأنبياء ، وأفضلهم ، وأكرمهم عند الله بعد نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) . . إنه إبراهيم ( عليه السلام ) الذي لم يكن ليستجيب لهيجان العاطفة ، وكوامن الحب والمشاعر ، ودواعي الإعجاب التي تزيد من صعوبة الأمر عليه ، والتي أججها إسماعيل ( عليه السلام ) وهو طفل صغير بموقفه الإيماني الرائع ، ويقينه الراسخ ، ودرجة وعيه وخلوصه . .
إنه إبراهيم ( عليه السلام ) الذي كان يرى الله ، والله فقط . . فما كان من هذا الأب الرحيم إلا أن باشر مهمته ، واندفع في الحدث إلى الذروة ، فجذب ولده ، وألقاه على الأرض ، وباشر تنفيذ الأمر الإلهي برضا وثبات . . ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ 11 وتجلى مقام إبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) في الإسلام والاستسلام لله سبحانه ، الذي خلده الله تعالى له مثلاً عملياً حياً لكل جيل ، وفي كل عصر ، يعلمهم أن القيادة ليست مجرد أوامر ونواهٍ ، تصدَّرُ للآخرين وليست مجرد شعارات وانتفاخات ، واستعراضات إعلامية ، من قبل من يستولي على مقاليد الأمور بالمال أو بالجاه أو بالقوة . .
بل القيادة والإمامة هي اختيار من الله لمن بلغ هذا المستوى من الرضا والتسليم والاستسلام لله سبحانه . ومن هو على أتم الاستعداد للتضحية بكل غال ونفيس ، حتى بالنفس والولد في طاعة الله سبحانه ، حتى لو كان الولد هو إسماعيل ( عليه السلام ) في ميزاته وفي خصائصه .
﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا … ﴾ 12 :
وهذا بالذات هو ما يفسر لنا سبب التفريع بالفاء في قوله تعالى : ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا … ﴾ 12 حيث إن هذا الامتحان الصعب هو الذي جسّد إسلامهما واستسلامهما على صفحة الواقع ، وأخرجه من مجرد القول والشعار ليكون هو الخلق ، وهو الممارسة وهو الموقف والسلوك . .

نتائج وآثار هذا البلاء

وهذا النوع من البلاء ، الذي يواجه فيه الإنسان المسؤوليات الجسام ، ويندفع إلى امتثال الأوامر الإلهية مهما كانت صعبة وشاقة ، بكل طمأنينة ورضا هو الذي يزيد في إيمان الإنسان ، وفي درجة قربه من الله ، ويؤهله لنيل منازل الكرامة . . ثم هو يزيد في بصيرته ، ليكون أكثر وعياً وفهماً ، ويصير سميعاً بصيراً ، كما قال تعالى : ﴿ … نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ 13 .

ولأجل ذلك جاءه النداء الإلهي

. ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ﴾ 14

الأهلية لمقام الإمامة العظمى

نعم إنه البلاء الذي يظهر الملكات الكامنة في داخل شخصية إبراهيم و إسماعيل ( عليهما السلام ) ، ويؤكد استحقاق إبراهيم ( عليه السلام ) لمقام الإمامة العظمى ، حيث تحولت هذه الملكات والمزايا من القوة إلى الفعل . . ونجح في الامتحان الإلهي ، وحقق معجزات كبرى في مواجهة البلاء الإلهي ، وتحمل مسؤوليات الإيمان به ، والدعوة إليه .

وكان تعرض إبراهيم ( عليه السلام ) لهذه البلاءات العظمى يهدف إلى تزكية نفسه ، وإعداده لذلك المقام العظيم ، فإن التكليف هو من النعم الإلهية ، وفيه دلالة على أن من اختير له هو أهل للكرامة الإلهية . كما أن الابتلاء إحسان يجعل من الإنسان موجوداً مؤثراً وفاعلاً في الحياة ، خصوصاً إذا كان هذا الابتلاء يجعل الإنسان مرهف السمع ، حديد البصر ، في حين أن أكثر الناس هم كالأنعام بل هم أضل . .
وكان الأمر بذبح ولده إسماعيل ( عليه السلام ) . . هو الذي أظهر لكل المخلوقات والكائنات ، العلوية منها والسفلية حقيقة إبراهيم ( عليه السلام ) ومقامه : ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ﴾ 15 إنه هو الذروة في البلاءات التي تعرض لها ، كما قال تعالى : ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا … ﴾ 16 فالابتلاء ليس بالأمراض والمصائب الجسدية ، بل هو بتحميله المسؤوليات الجسام ، وبتهيئة الفرصة لتقديم التضحيات الكبرى التي تزيده إيماناً وطهراً وصفاء ، وتؤهله لنيل مقامات القرب والزلفى . .
وقد كان ذبح إسماعيل هو الكلمة التي جاء بها إبراهيم تامة وافية ، ومطابقة لواقعه وهي الأكثر تعبيراً وصراحة وأدق وأوضح دلالة ، على المؤهلات الواقعية الكامنة في شخصية إبراهيم ( عليه السلام ) والتي استحق بها هذا المقام ، مقام الإمامة العظمى للناس . . ولكنها لا تصل إلى مقام الإمامة المتصلة بالنبوة الخاتمة ، فإن عظمة مقام هذه ، منسجم مع مقام هذا النوع من النبوة الذي هو الأكمل والأتم ، والأعظم .
﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ 17
ونيل إبراهيم ( عليه السلام ) لمقام الإمامة ، هو المكافأة له على تحمله لهذا البلاء العظيم . ثم كانت مكافأة أخرى له ولولده إسماعيل ( عليه السلام ) أيضاً ، الذي شكر الله له صبره ، ووعيه ، وإيمانه وطاعته ، وفناءه في الله ، وفداه الله بذبح عظيم . . ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ 17 .
نعم ، ذبح عظيم يستمر في الأمم إلى يوم القيامة كشعيرة إلهية كبرى رسمها الله سبحانه على كل البشر ، فأوجب الأضحية على كل من يحج إلى بيت الله الذي رفع إبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) قواعده ، وشيدا أركانه . . وأعليا شأنه . .
والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطاهرين 18 .

  • 1. القران الكريم : سورة إبراهيم ( 14 ) ، الآية : 39 ، الصفحة : 260 .
  • 2. القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآيات : 53 – 55 ، الصفحة : 265 .
  • 3. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآيات : 69 – 72 ، الصفحة : 229 .
  • 4. القران الكريم : سورة الذاريات ( 51 ) ، الآية : 28 ، الصفحة : 521 .
  • 5. القران الكريم : سورة الذاريات ( 51 ) ، الآية : 29 و 30 ، الصفحة : 521 .
  • 6. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآيات : 102 – 107 ، الصفحة : 449 .
  • 7. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 124 ، الصفحة : 19 .
  • 8. a. b. c. d. e. f. g. h. i. j. k. l. m. n. o. p. q. r. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآية : 102 ، الصفحة : 449 .
  • 9. القران الكريم : سورة الحديد ( 57 ) ، الآية : 16 ، الصفحة : 539 .
  • 10. القران الكريم : سورة النساء ( 4 ) ، الآية : 136 ، الصفحة : 100 .
  • 11. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآية : 103 ، الصفحة : 450 .
  • 12. a. b. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآية : 103 ، الصفحة : 450 .
  • 13. القران الكريم : سورة الإنسان ( 76 ) ، الآية : 2 ، الصفحة : 578 .
  • 14. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآيات : 104 – 106 ، الصفحة : 450 .
  • 15. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآية : 106 ، الصفحة : 450 .
  • 16. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 124 ، الصفحة : 19 .
  • 17. a. b. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآية : 107 ، الصفحة : 450 .
  • 18. عيثا الجبل ( عيثا الزط سابقاً ) جعفر مرتضى العاملي . 3 شهر رمضان المبارك 1423 للهجرة . كتاب : مقالات . . ودراسات ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الأولى ، 1424هـ . ـ 2003م .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى